أحمد الأيوبي

عندما تقتل الممانعة الدولة وتستفيق الشياطين

20 تشرين الأول 2023

02 : 00

مع انفجار «طوفان الأقصى» انفجرت دفائن لازمت الوجدان اللبناني منذ أيام الحرب الأهلية الغابرة، فخرجت الضغائن وعادت إسقاطات فظائع تلك الحرب لتحضر في الخطاب الحاضر حول إشكالية الوجود الفلسطيني وما رافقه من صراعات وارتكابات متبادلة، وهي واحدة من أكثر النقاط إيلاماً وتأثيراً لدى شرائح لبنانية واسعة في الشارع المسيحي، ولا تزال آثارها في النفوس وجراحُها لم تندمل، لكنّ البعض استحضرها في الصراع الدائر في غزة وأعاد إنتاج خطاب غير مبرّر، بينما مارس بعض المنفلتين أعمال الشغب والاعتداء على المؤسسات والناس، باسم المقاومة وانتصاراً لفلسطين.

شكّل ما نشره النائب كميل شمعون حول حرب غزة واستحضارُه مجزرة الدامور التي ارتكبتها فصائل فلسطينية خلال الحرب الأهلية، واتخاذ ذلك سبباً للشماتة بما يتعرّض له أهل غزة من مذابح وإجرام إسرائيلي... صدمةً لأغلبية الرأي العام اللبناني، وأظهرت أنّ شمعون ارتكب خطأ فادحاً في هذه اللحظة التاريخية الحساسة، لأنّه لم يُراعِ الحقائق الإنسانية التي يُفترض أن تحكم مواقف الناس في الصراعات، فإدانة انتهاكات حقوق الإنسان فرضٌ لازم على الجميع، كما أنّ أحداث الحرب الأهلية شهدت في المقابل مذابح تعرّض لها الفلسطينيون من صبرا وشاتيلا حتى تلّ الزعتر وغيرها، كما أنّ الفلسطينيين (حركة فتح) اعتذروا عن تلك المرحلة وأعلنوا رسمياً التزامهم بالدولة اللبنانية.

أمّا ما يجري من إجرام إسرائيلي على أهل غزة، فإنّه جريمة حرب بحقّ الإنسانية ينبغي إدانتها، فأهل غزة يُبادون على أرضهم وليس في لبنان، وهم ضحية لأبشع أنواع الحروب، فأيّ قسوة هذه التي تمنع التعاطف مع ضحايا هذا العدوان من أطفال ونساء وشيوخ... والجميع يتعرّض للإبادة على أعين العالم؟

لا يمكن إسقاط ما جرى في الحرب الأهلية على ما يجري الآن في غزة، فالفارق شاسع هائل، والممارسات المرفوضة في لبنان لا يمكن تعميمها على من يدافع عن أرضه ويسعى للتحرّر من الاحتلال، بل لا يمكن شيطنة حركة «حماس» وتنميطها باعتبارها ذراعاً إيرانيا فقط، من دون الأخذ بعين الاعتبار الظروف التي سمحت لإيران بإحداث كلّ هذا الاختراق في كلّ العالم العربي، وليس فقط في الجانب الفلسطيني، ومحاولات قادتها المحافظة على حدٍّ أدنى من التوازن في خياراتها السياسية والاستراتيجية.

في لبنان، لم يتوقّف مسار «المقاومة» عن الانحراف من تجربة الفلسطينيين وشعاراتها بأنّ طريق القدس تمرّ في جونيه... إلى طغيان «حزب الله»، ولا حاجة هنا لسرديّة ضرب الدولة ومقوِّمات وجودها، فهذا المسار بتفاصيله أصبح واضحاً للأغلبية العظمى من اللبنانيين، ومن آثاره غير المباركة، تلك الغزوة الغادرة التي قام بها الذين اعتدوا على محلات المواطنين وممتلكاتهم، خلال «احتجاجهم» أمام السفارة الأميركية في عوكر، وكأنّ هؤلاء لعنةٌ يحلّ الخراب أينما حلّوا، من دون أن يتحمّل من دفعهم لهذا الاحتجاج المشبوه نفسه عناء الانتباه إلى خسائر الناس في أرزاقها.

هناك نموذجان سيئان ظهرا في خضمّ انفلاش حرب غزة: أحقاد على الفلسطينيين من ميراث الحرب الأهلية، وغوغاء خرجوا للاحتجاج ضدّ السفارة الأميركية فحطّموا أرزاق المواطنين وأملاكهم، وكلا النموذجين انعكاس لمرض هذه الفئات المنغلقة والقابلة لتكون وقود أيّ فتنة يسعى إليها من يريد إشعال لبنان.

لا يمكن فرز حقوق الإنسان وتمييزها بين شعب أو آخر، وبين فئة أو أخرى، فهي كلٌّ متكامل غير قابل للاختزال أو الاقتناء أو الحصرية، ولهذا يحنّ الناس لدولتهم، التي مهما ظلمتهم تبقى سقفهم الحامي، بينما أثبتت التجارب أنّ كلّ أشكال الخروج على الدولة إنما هو عمليات نحرٍ أو انتحار وتخريب للبيوت بأيدي أهلها، وبينما يتوق الشعب الفلسطيني إلى دولته، نرى فئة من اللبنانيين تضرب دولتها وتستبيحها، وتحاول وأدها لخنق آخر أنفاس الحياة فيها.


MISS 3