عيسى مخلوف

وقفة من باريس

آدم حنين الفنّان الفرعوني المعاصر

23 أيار 2020

02 : 00

عرفته في باريس أواخر القرن الماضي وكنتُ أزوره باستمرار في محترفه في الدائرة الرابعة عشرة حيث كان يرسم وينحت لفترة تجاوزت العشرين سنة، قبل أن يعود إلى محترفه في قرية الحرانية في مصر، قرب الأهرام. كانت ترافقه مثل ظلّه عفاف، رفيقة دربه، لكنّها سبقته باكراً إلى الرحيل. آدم حنين الذي فارقنا هذا الأسبوع عن عمر يناهز الواحد والتسعين عاماً، كان أحد الأصوات البارزة في تاريخ الفنّ العربي الحديث، وقد عرضت أعماله في عواصم أوروبية وعربية عدّة.

مثل أجداده القدامى، كان يهجس، بوعي أو بلا وعي منه، باللحظة العابرة، القاسية في عبورها. ينظر إلى المدى الصحراوي وإلى كثبان الرمل ويتخيّل أشكالاً وكائنات غير محاصرة بظرفيتها الزمنية ولا يطالها التفسُّخ ولا الشعاع الذي، كلّما أشرق، تعثّرت خليّة في الوصول إلى خليّة.





في رؤيته الفنية، جمع آدم حنين بين الماضي والحاضر، بين الفنون الأولى والتجارب الفنية الحديثة. لكنه ظلّ خارج التأطير: لا هو حديث ولا هو قديم، بل هو حديث وقديم في آن واحد. لقد احتفظ في أعماله بمكنونات حضارات قديمة، لا سيّما الحضارة الفرعونية، مثلما تحفظ الرمال حرارة الشمس بعد غيابها. تتداخل في لوحته، المنفّذة على ورق البردي، الأسود والأبيض والأحمر والبنّي الغامق المحروق. ألوان يستجمعها من تراب الصعيد في تفاعله مع الضوء، ومن ذاكرة يديه وما يختلج في داخله من نَزَق فنّي رافقه طوال حياته.

قبل أن يقع اختياره على ورق البردي، رسم حنين على ألواح الجصّ كما فعل أجداده الفراعنة، كما رسم بالألوان المائية على الورق الياباني. ولدى وصوله إلى البردي، راح يعدّ ألوانه بنفسه مازجاً الموادّ الخام بالصمغ العربي، ممّا أوصله إلى الخامة التي كان يسعى إليها.

تتّضــح معالم الالتقاء بين الماضي والحاضر في منحوتاته بالأخصّ. نحن، هنا، أمام مجسّمات تختزن طاقات إيحائيّة كبيرة وتتوق إلى الامّحاء والدخول في غور نفسها. لذلك كان وجه أخناتون منحوتته الأولى. ومنذ تلك اللحظة، لم يعد آدم حنين يبحث عن الوجوه من خلال ملامحها الظاهرة وقسماتها المحدّدة، بل من خلال نبضها الداخلي والسرّ الكامن فيها. وهو يعبّر عن هذا المنحى بقوله إنه ابتعد باكراً، منذ سنوات الدراسة الأكاديميّة، عن قواعد المنظور التقليدي، وتشرّب الفنّ المصري القديم منذ الصغر و"انتميتُ إليه، روحاً وقلباً، قبل أن أعيه ذهنياً"، كما يقول. هذا الفنّ يتناقض مع توجّهات فنون الإغريق والرومان التي شكّلت أسس الكلاسيكية الغربية منذ عصر النهضة. أما من الفنانين المحدثين فكانت تلفته، بشكل خاصّ، تجارب الذين انفتحوا على الحضارات القديمة واستلهموها، ومنها الفنون الفرعونية وفنون المكسيك القديمة، من أمثال هنري مور وألبرتو جياكوميتي وفرنسيس بايكن. ولقد انحاز حنين في أعماله إلى أعمال مـــور وبرانكوزي وكْلي وبولياكوف ودوستايل.





ينطلق آدم حنين في النحت من الظاهر لا ليكرّسه وإنما ليلغيه، ليصبح ذريعة تبعده عن المحاكاة وتقرّبه من التجريد الصافي. فنرى الوجه في منحنيات الحجر أو البرونز، كما نستقرئ كائنات وعناصر وأشياء يجرّدها الفنان من مظهرها ولا يبقي منها إلاّ ما يوحي بها في أسلوب يزاوج بين التصويري والتجريدي. فهو يعلم أنّ "للأشياء حياتها الخاصّة، وأنّ الأمر يتعلّق بإيقاظ روحها"، بحسب تعبير أوكتافيو باث. لذلك، يتعارض في مسراه الفنّي مع الرؤية التحليليّة التي عرفناها مع التكعيبيّة، منتصراً للشكل الصافي. وفي رحلته نحو هذا الشكل، صاغ حنين ما لا وجود له على الإطلاق، فبدا كما لو أنه موجود فعلاً. أوهمنا الفنّان بحقائق لا نعرفها، وقرّبنا ممّا يمكن أن نتقاسمه أبعــــد من الكلمات.

بهدوء يطوي آدم حنين الحجر، يلويه بلمسة يده. وهذه المنحوتة التي تبدو مكتفية بذاتها، منطوية على نفسها، مقفلة ولا يمكن النفاذ إليها، تأخذك إشاراتها برفق إلى المكان الفسيح حيث يتحوّل الشكل نَصباً للحظة غير مرئيّة. نَصباً للروح. هكذا يرتقي العمل الفنّي نحو المُطلق، خارج الوقت الذي يسيل، بعدما يتّحد بوقته الخاصّ وبديمومته التي هي جزء من ديمومة الجمال.


MISS 3