زوي رايتر

الغرب دفع كلفة مشروع بوتين الضخم الجديد لشحن الغاز

26 تشرين الأول 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

في شهر تموز، بعد أسبوع على تعهّد قادة حلف الناتو تقديم بعض الدعم العسكري لأوكرانيا خلال القمة التي جمعتهم في ليتوانيا، راقب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بكل سرور انطلاق أكبر هيكل عائم في العالم من موقع بناء في مدينة «مورمانسك» الروسية المطلّة على بحر «بارنتس». كانت هذه المنصة التي تزن 640 ألف طن متّجهة إلى شبه جزيرة «جيدان» في سيبيريا، حيث يُفترض أن تتّصل ببنية تحتية برية للبدء بتبريد كميات ضخمة من الغاز وتحويلها إلى شكل سائل قابل للشحن، ما يسمح في نهاية المطاف بإنتاج أكثر من 6 ملايين طن متري من الغاز الطبيعي المسال سنوياً بدءاً من العام 2024.



كانت تلك المنصة تشمل أول خط إنتاج لمشروع ضخم يهدف إلى استخراج الغاز وتسييله: إنه مشروع «آركتيك للغاز الطبيعي المسال 2» (Arctic LNG 2). هو يتّكل بشدة على الاستثمارات الدولية والتكنولوجيا الغربية. أعلنت شركة TotalEnergies الفرنسية بكل فخر عن مشاركتها بقيمة 21.6% من المشروع عند انطلاقه في العام 2019، بالتعاون مع مستثمرين من الصين واليابان (عادت الشركة وأعلنت منذ ذلك الحين أنها ستوقف تأمين الرساميل للمشروع). يعني بُعد شبه جزيرة «جيدان» ومياه القطب الشمالي المتجمّدة أن المشروع يتطلب أفضل التقنيات والمهندسين في العالم لاستخراج الغاز وتسييله ووضعه في الناقلات. تُعتبر هذه التوربينات متطوّرة، وتؤمّنها شركة الهندسة الأميركية Baker Hughes. في غضون ذلك، أمّنت شركة Linde الألمانية أجهزة تبادل الحرارة اللازمة لتبريد الغاز، ووفّرت شركة Hill & Smith البريطانية الأنابيب المبرّدة، وأدّت شركة Saipem الإيطالية دوراً محورياً لتنسيق الجهود وتأمين الكابلات الكهربائية.

في شهر نيسان، أعلن الاتحاد الأوروبي حظر تصدير معدّات الغاز الطبيعي المسال إلى روسيا، ومع ذلك شُحِن أول جزء من معدّات المشروع في الوقت المحدد، وقد حرص بوتين على ذكر هذه المعلومة أثناء كلامه المتلفز من «مورمانسك».

وفي آخر تسعة أشهر، بدأ أعضاء «مجموعة بيانات مكافحة الفساد» يقدمون سيلاً من بيانات الجمارك وصور الأقمار الاصطناعية إلى صحافيين في عدد من وسائل الإعلام الأوروبية، بالإضافة إلى معلومات استخبارية حول تورّط الشركات الغربية في المشروع.

كشفت هذه التحقيقات أن مشروع «آركتيك للغاز الطبيعي المسال 2» اتكل على تسليم كميات متواصلة من المعدات الأساسية من مصنعين أوروبيين وأميركيين على مرّ الحرب في أوكرانيا. استمرّت تلك الشحنات بعدما أعلن الاتحاد الأوروبي حظر تصدير معدات الغاز الطبيعي المسال إلى روسيا، وصولاً إلى المهلة النهائية لدخول العقوبات حيّز التنفيذ.

تذكر سجلات الجمارك الروسية أن شركة التجارة الروسية المسؤولة بشكلٍ أساسي عن مشروع «آركتيك للغاز الطبيعي المسال 2» استوردت معدّات تفوق قيمتها 400 مليون دولار من أوروبا، منذ بدء الغزو الشامل لأوكرانيا في شباط 2022.

في شهر أيلول، فرضت وزارة الخارجية الأميركية عقوبات على عشرات الشركات الروسية المشارِكة في بناء مشاريع لشبكات الطاقة، مثل مشروع «آركتيك للغاز الطبيعي المسال 2». شملت الشركات المستهدفة فرعاً لأكبر شركة غاز روسية خاصة، Novatek، وهي التي بَنَت صهريجَي تخزين ضخمَين للغاز الطبيعي المسال وتنوي الشركة استعمالهما لنقل ذلك الغاز من القطب الشمالي. كذلك، قرّرت وزارة الخارجية الأميركية فرض العقوبات على شركة مقرّها أبو ظبي، فقد تبيّن حديثاً أنها تقدّم «خدمات هندسية وتكنولوجيا كانت الشركات الأوروبية تقدّمها سابقاً».

فضّل الاتحاد الأوروبي حتى الآن عدم معاقبة الغاز الروسي الطبيعي المسال مباشرةً، ولا شركة Novatek أو مؤسسها ومديرها التنفيذي، الأوليغارشي ليونيد ميخيلسون. بعد توقف نقل النفط والغاز والشحنات البحرية للمواد الخام من روسيا عبر الأنابيب بشكلٍ شبه كامل، ارتفع الطلب على الغاز الروسي الطبيعي المسال. في العام 2022، تلقّت دول الاتحاد الأوروبي 90% من إنتاجها من مشروع «يامال» للغاز الطبيعي المسال تحت إشراف شركة Novatek، على بُعد 70 كيلومتراً فقط من مشروع «آركتيك للغاز الطبيعي المسال 2». من المتوقع أن تزيد عمليات الشحن من «يامال» إلى أوروبا في العام 2030، وفق تحليل موقع «هاي نورث نيوز».

يُفترض ألا يتوهم أحد في أوروبا بشأن كلفة إدمان القارة على الغاز الروسي. غالباً ما تكون الشركات، والقيادات السياسية، ووكالات الأمن، ومجموعات الخبراء في المنطقة متداخلة، وهي تتبع أجندة يُحددها الكرملين. كان شريك بوتين المقرّب، جينادي تيمشينكو، جزءاً من مجلس إدارة شركة Novatek إلى أن أضاف الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة اسمه إلى قوائم العقوبات في آذار 2022، بعد عقوبات مشابهة فرضتها الولايات المتحدة في العام 2014.

منذ بدء غزو أوكرانيا، زاد اتكال روسيا على آسيا كسوق لتصدير غازها. يسمح مشروع «آركتيك للغاز الطبيعي المسال 2» بتأمين عامل يحلم به بوتين منذ فترة طويلة: شحن الغاز على مدار السنة عبر طريق البحر الشمالي، من بحر «بارنتس» إلى مضيق «بيرنغ». مقارنةً بقناة السويس، يُخفّض طريق البحر الشمالي مدة الرحلة إلى النصف تقريباً، وأكثر ما يهمّ بوتين هو أنه يضمن استمرار حركة الشحن ضمن المنطقة الاقتصادية الروسية الخالصة.

لن يزيد مشروع «آركتيك للغاز الطبيعي المسال 2» عدد الناقلات التي تمرّ بذلك الطريق فحسب، بل إنه سيبني مراكز لإعادة الشحن على كل طرف منه، ما يسمح للناقلات التقليدية باستلام كميات الغاز التي تصل إلى هناك. يُعتبر الاحتباس الحراري عاملاً مؤثراً في هذا المجال أيضاً، فهو يقلّص مدة انتشار الجليد في تلك المساحة سنوياً.

يريد الكرملين أن تصدّر روسيا 100 مليون طن متري من الغاز الطبيعي المسال بحلول العام 2030، لكن زادت صعوبة تحقيق هذا الهدف بسبب غزو أوكرانيا وتحوّل الولايات المتحدة إلى مصدّرة رئيسية للغاز الطبيعي المسال. مع ذلك، قد يقترب البلد من هدفه بفضل مشروع «آركتيك للغاز الطبيعي المسال 2». بدءاً من العام 2024، من المتوقع أن يحصل بوتين وأعوانه على عائدات من المشروع، ما يساعد روسيا على شنّ الحروب ضد جيرانها، والتدخل في شؤون الديمقراطيات، وتوسيع نفوذها في أنحاء العالم. كذلك، أصبح مشروع «آركتيك للغاز الطبيعي المسال 2» على قائمة «قنابل الكربون»، أي المشاريع التي تبث أكثر من مليار طن متري من ثاني أكسيد الكربون طوال فترة وجودها.

لو أصبحت عقوبات الاتحاد الأوروبي على تكنولوجيا الغاز الطبيعي المسال سارية المفعول في مرحلة أبكر، أو لو أُجبرت الشركات الغربية على التخلي عن عقودها فوراً، ما كان أول جزء من المشروع الروسي ليوشك على الانتهاء. سيكون اللجوء إلى أي تقنيات بديلة من تركيا أو الصين من أجل خطوط الإنتاج المتبقية مكلفاً جداً ويتطلب وقتاً طويلاً، لكن قد يسمح أول قطار فاعل بالتعويض عن تلك التكاليف.

ذكر ميخيلسون حديثاً أنه يخطط لمشاريع أكثر ضخامة، منها تبريد الغاز الذي كان يمرّ عبر الأنابيب سابقاً نحو أوروبا وشحنه من محطة جديدة في «مورمانسك» بعد إنهاء الجزء المقبل من مشروع «آركتيك للغاز الطبيعي المسال 2».

هذا الوضع يزيد أهمية أن يستهدف الاتحاد الأوروبي مشاريع الطاقة الاستراتيجية الروسية خلال جولة العقوبات المقبلة. يُفترض أن يحذو الاتحاد حذو واشنطن عبر تحديد الكيانات المسؤولة عن بناء وتشغيل مشروع «آركتيك للغاز الطبيعي المسال 2» ومشاريع غاز أخرى بشكلٍ مباشر. كذلك، تستطيع أوروبا أن تذهب إلى حد توسيع قائمة المنتجات التي يُمنَع تصديرها إلى روسيا، ما قد يحول دون نشوء مشاريع غاز جديدة ويكبح قدرة بوتين على إنشاء بنية تحتية على طول طريق البحر الشمالي. في الحد الأدنى، يُفترض أن يمنع أعضاء الاتحاد الأوروبي إعادة شحن الغاز الروسي الطبيعي المسال وإعادة تصديره في موانئ بلدانهم.

فيما تستعد الولايات المتحدة لاستضافة «مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد» في شهر كانون الأول، يجب أن يتابع الغرب تقوية النظام العالمي لمكافحة تبييض الأموال، على الورق وفي الممارسات العملية.

غالباً ما تصل تحقيقات الصحافيين حول المعدات والخدمات المرتبطة بمشروع «آركتيك للغاز الطبيعي المسال 2» إلى طريق مسدود، لأن عدداً كبيراً من عقود الهندسة انتقل إلى شركات نشأت في ظروف قانونية غامضة بعدما فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على روسيا. حتى أن الغموض المرتبط بملكية الشركات يسمح للمجرمين بالتنقل وتبييض أموالهم غير المشروعة ويسهّل التحايل على العقوبات من جانب الشركات المُصمِّمة على متابعة تبادلاتها التجارية مع روسيا. بالنسبة إلى واشنطن، يُفترض أن تبدأ تلك الجهود بفرض نموذج محلي يُقتدى به، عبر تطبيق قانون الشفافية الخاص بالشركات بشكلٍ كامل وفاعل.

لمعرفة أصل المشكلة، يجب أن يسرّع الغرب عملية انتقاله إلى مصادر الطاقة المتجدّدة ويساعد الآخرين على القيام بالمثل. سبق وساعدت الشركات الغربية بوتين على تصنيع قنبلة كربون، لكن لا يزال الوقت سانحاً لتفكيكها.


MISS 3