جيمي الزاخم

شبكات التواصل الاجتماعي...جمهورية القمع والحصار؟!

28 تشرين الأول 2023

02 : 00

الإعتراضات تزايدت على نهجها الإلغائي

سوف تفصل ساعاتٌ أو ربّما أيام بين كتابة هذه السطور وتاريخ نشرها. في روزنامة الحروب والأيام، تتبدّل الأوراقُ والأرقام مع فارق الوقت الذي يسير بتوقيت غزّة. وبين ساعة وساعة، تنقلب معطيات الإستهدافات وكيلومتراتُها، وتُعدّل قوانين وحدود وقواميس جمهورية مواقع التواصل الإجتماعية. هذه الأخيرة هي عينُ كلّ معركة. هي صوتُ كل حدث، هي شمسُه، ريحُه، رعده وضبابه. هي قمره و... قبرُه. هي الصاروخ والسّيف. سيفٌ يرفع حقّ المخنوق حيناً، لكنّه يقطع أيضاً أصابعَ جماهير غفيرة في الجمهورية الرقميّة. فتُضطّر أيها المواطن الوفيّ أن تسير في أرجاء هذه الجمهورية بين حقول ألغام. تتفادى رادارتِها التي تُحرقُك بأشعّتها الكاتمة للصوت. الأصوات ارتفعت وتزايدت معترضةً على نهج مواقع التواصل الإلغائي حظراً وحذفاً. لماذا؟ وكيف؟



هذا التضييق والتقييد، حسب الصحافي وخبير مواقع التواصل عمر قصقص، يتصدّر حالياً المشهدَ على منصة «تيك توك»، وكل من «فيسبوك» و»إنستغرام» التابعتَين لشركة «ميتا» التي هاجم رئيسها التنفيذي مارك زوكربيرغ حركة حماس بعد 7 تشرين، واصفاً ما نفّذته بـِ»الشرّ المُطلق». أما بالنسبة لمنصة «إكس» (تويتر سابقاً) فإنّ إيلون ماسك قرّر الإبقاء على حريّة التعبير. «وهذا سبّب له مشاكل مع المفوضية الأوروبية». انتشرت المراسَلة المُوَقّعة في العاشر من تشرين، وفي نصّها اعتراضٌ من المفوضية على نهج المنصة ومحتوياتها غير المشروعة والتضليلية داخل الاتحاد الأوروبي. ماسك ردّ مغرّداً أنّ سياسة المنصة إبقاء كل شيء شفّافاً ومفتوحاً».

إنّ هذه المنصات تعمل وفق اتفاقية أحكام وشروط يوافق عليها المستخدِم قبل إنشاء حسابه (والغالبية لا تقرأها). هي تتيح للشركات حقَّ الحذف التلقائي. يتمّ ذلك بواسطة الخوارزميات المُبَرمَجَة للتحرّك تلقائياً عن طريق الذكاء الاصطناعي. وهذه الرموز المُبَرمَجة تُعدَّل وتُحَدَّث باستمرار. يشرح قصقص لـ»نداء الوطن» أن هذه الخوارزميات (الألغوريثم) «تراقب المحتوى من هاشتاغات، صور، فيديوات، إلخ. وعندما يتعارض المحتوى مع شروط كل منصة من خلال مصطلحات ومشاهد معيّنة، يوقف الذكاء الاصطناعي الحسابَ بشكل موقت أو دائم، أو يُحذف ما نُشر أو يُخفّض انتشاره». عُطِّل حساب قصقص مرّات كثيرة بعد تبليغات عنه بسبب آرائه السياسية. وأعيد تفعيله بعد تواصله مع إدارة هذه المواقع.

يحقّ لأي مواطن رقميّ أن يسائل هذه الشركات قانونياً. لكنّها لا تملك مكاتبَ في بلادنا. فعلى اللبناني التوجّه إلى إحدى الدول الأوروبية أو الأميركية أو غيرها. يلفت قصقص إلى أنّ «كلّما كان الناشط متمرّساً وقوياً، ومنضوياً في مجموعة منظّمة ويوكّل محامين متمكّنين، كلّما تؤخذ الشكوى المُقَدَّمة على محمل الأهمية عند المساءلة عن شروط الشركة وأحكامها».



قصقص: الشبكات شركات تحكُمها علاقات سياسية وتجارية


ما هي الحلول؟



يمكن الجزم أنّه لا حلّ جذريّاً لمواجهة كل هذه القيود. ينشر البعض اقتراحاتٍ يروَّج لها أنّها تنجح باجتياز حواجز الذكاء الاصطناعي. مثلاً، تفشّت في الفترة الاخيرة منشوراتٌ على «فيسبوك» يطلب فيها صاحب الحساب من متابعيه تركَ تعليق سريع، معتقداً أنّ هذا يؤدّي إلى تعديل خوارزميات الموقع الذي يخفّض دائرة المتابعين الذين تظهر أمامهم منشوراته. هذه الخطوة مضمومةٌ إلى خطوات أخرى، يؤكد قصقص أنّها غير مُجدية بتاتاً. هي لن تكون زيتاً مقدّساً يفتح طبولَ الآذان المغلقة، ويستقبل المواكب الممنوعة من التدفّق في صالات المنصات. كخبير مواقع تواصل، يرسّخ أهمية التعامل مع هذه الخوارزميات بشكل آنيّ أيْ «كل حدث بحدثه». نستطيع الاحتيال، مرحلياً، على الذكاء الاصطناعي «في حال حوّلنا النصّ إلى فيديو، أو استبدلنا مصطلحاً بآخر لا يكون محظوراً. وعندما نعبّر عن مضمون عربيّ بالحروف اللاتينة، أو ندمج بكتابتنا بين الحروف العربية والأجنبية، أو بينها وبين «الإيموجي». هذه وسائل تعطي لمنشوراتنا خصوصيّةً تصعّب مهمّة الخوارزميات في الحظر واللجم. لكنّ تكرارَها الغزير يدفع الذكاء الاصطناعي إلى كشفها وإن بصعوبة معقّدة. فيواجه مضمونها الذي يُعتبر عنفيّاً ومعادياً للسّامية بنظر هذه المواقع التي تحكمها تصنيفات وعلاقات سياسية وتجارية، وتتعرّض لضغوطات».

الشركات الضخمة التي تُدير مواقعَ التواصل هي طبعاً ليست خيرية. هي مؤسسات استثمارية ربحية. لا ترأف بالجنود الرقميين وإن أعَدمتْهم على الأرض الإلكترونية. أمّا على أرض الواقع والحقيقة، فإنّ منطقتَنا - وكما يوضح قصقص- «تفتقر إلى الوحدات والمجتمعات السيبيرانية والرقمية. ولم تؤسَّسْ منصة تواصل إجتماعي عربية». يؤكّد أن إمكانية إنشائها مُتاحة «إذا ما توافر التمويل، الفريق التقنيّ المتخصص، القدرة الاستثمارية بالمنصة، الوقت، التمكّن والتفوق بالترميز، وقبول المجتمع العربي الانضمام إليها». المثال الأبرز عن أهميّة قبول المجتمعات وجماهيرها الشابّة لهذه الشبكات هو «فيسبوك» الذي «هجرتْه الفئات الشابة وسبّبت هيستيريا لمالكه. غادروه نحو «إنستغرام» و»تيك توك»، مع العلم أن الثاني بات لقمةً مغرية للجيل الشاب أكثر من الأول. هذا الجيل ينشط وينشر على مدار الساعة، على عكس جيل ما فوق الثلاثين. هكذا يترهّل «الفيسبوك» ويُتوقّع أن ينخفض عدد زائريه أكثر فاكثر». وبالانتظار، «لا يسعنا إلا تمرير ما نريد وإيصال رسالتنا باللعب بالكلمات وبين السطور». تسلّق سطور المعارك الرقمية يحتاج استراتيجية وإتقان لعبة ميزان يكيل بمِكيالين.

في النهاية نعود إلى البداية. ففي روزنامة الايام التي تسير بتوقيت غزة، قد تتبدّل المعطيات العسكرية، الحياتية وقوانين وحدود مواقع التواصل. تحدَّد بحرب إلكترونية تخوضها إسرائيل راهناً ودائماً بكلّ إمكاناتها، بمؤسساتها وتنظيماتها، بحكوماتها وقوانينها. تخنق وتحاصر في العالم الحقيقي والافتراضيّ بالأموال، العلاقات والاستثمارات. ولمواجهة هذه القوة الظالمة وكل سردية قمعية في العالم، تعلو محاولاتٌ لفضح حصار الماء، الهواء، القنابل. تحاول التغلّب على حصار الصوت والصورة والكلمة. لأنّها لا تريد بلاداً تلوّح بقصّتها دون ذاكرة، وتشيّع جثثَها وتخبر قصّتها. وتُكفّنها بالحقيقة لئلا يرث قبرها الحصار ويتغلّل البرد إلى موتِها.


MISS 3