في ظل استمرار الصراع العقيم بين إسرائيل وحركة «حماس»، بدأت الأنظار الدبلوماسية تتوجّه إلى مصر. قبل الحرب، أصبح دور مصر هامشياً في السياسة العربية مع مرور الوقت، فزاد تهميشها بسبب انتفاضات العام 2011 وعواقبها وتدهور وضعها الاقتصادي. لكن مصر تملك مصالح محورية وثقلاً قوياً في غزة. قد تكون مصر شريكة شائكة للولايات المتحدة وإسرائيل وعدد من حلفائهما الغربيين، لكنها تُعتبر لاعبة أساسية في أي ردّ دولي على الحرب وستبقى كذلك.
كانت علاقة مصر مع «حماس» محفوفة بالمشاكل تاريخياً. اهتم الجيش المصري بقطاع غزة منذ احتلّه طوال عقدَين بعد استقلال إسرائيل في العام 1948، وتابع الاهتمام بأمن المنطقة لاحقاً. يكنّ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عدائية شديدة تجاه «حماس»، على غرار عدد كبير من أسلافه، علماً أن هذه الحركة انبثقت في الأصل من جماعة «الإخوان المسلمين» التي كانت محظورة داخل مصر في معظم الأوقات.
مع ذلك، يحمل قادة مصر تاريخاً طويلاً من التواصل مع «حماس»، لا سيما بعدما أصبحت هذه الحركة الحاكمة الفعلية للقطاع غداة استيلائها على السلطة في العام 2007. خلال الأزمات الماضية، تحاورت مصر مع «حماس»، وسهّلت صفقات تبادل الأسرى، وشاركت في التفاوض لوقف إطلاق النار.
قد لا تتعاطف مصر مع «حماس» إذاً، لكن سبق وتوصلت هذه الجماعة المسلّحة إلى مذكرات تفاهم مع الجيش المصري مراراً. بعدما تعهد وزير الدفاع الإسرائيلي بمسح «حماس» عن وجه الأرض ونَسَف بذلك أي فرص للتوصل إلى تسوية، أعربت حكومة السيسي عن انفتاحها على إقرار التسويات اللازمة.
يصعب توقّع الجهة التي ستكسب القوة السياسية في غزة خلال الأشهر المقبلة، لكن سيحاول أي طرف في هذا الموقع التفاوض مع المصريين. في الحد الأدنى، سيرغب هؤلاء في تدفق المساعدات الدولية إلى غزة. حتى أن بعض عناصر «حماس» المتبقين قد يحاولون الحفاظ على قدرة معينة لتهريب الأسلحة وضرورات عسكرية أخرى، أو قد يسعون إلى التمسك بقدرة محدودة لإخراج الناس من القطاع، بما في ذلك كبار المسؤولين الهاربين من التحركات العسكرية الإسرائيلية. الأهم من ذلك هو أن الجهة المتبقية في غزة ستحاول على الأرجح الحصول على ضمانات مصرية في أي اتفاق يتم إقراره لإنهاء القتال.
ستضغط إسرائيل من جهتها على مصر لمنع استمرار عمليات التهريب ولاعتقال أي مسؤولين من «حماس» إذا حاولوا الهرب إلى مصر. ستُحدد القاهرة شروط ذلك الاتفاق.
لا يملك سكان غزة وعناصر «حماس» (أو أي حكومة بديلة محتملة) ما يعرضونه على مصر، لكنهم يستطيعون الاستفادة من بعض المزايا، فيستغلون نفوذهم لترسيخ الأمن المصري أو إضعافه في شبه جزيرة سيناء، أو يمكنهم أن يتقاسموا عائدات التهريب. كذلك، قد يكافئ حلفاؤهم المصريين مقابل الإغفال عن عمليات التهريب. وإذا كان العنف والفوضى الخيار البديل عن التفاهم مع «حماس» أو من يخلفهم في تلك المنطقة المجاورة لمصر، سيكون التفاهم أكثر جاذبية طبعاً.
تكثر المجازفات التي تواجهها مصر بسبب تورطها في شؤون غزة. بعدما كانت مصر مركزاً للسياسة والثقافة العربية، أصبح دورها مهمّشاً في ظل زيادة مشاكلها المحلية وتحوّل أنظار العالم إلى منطقة الخليج العربي. بالنسبة إلى حكومة السيسي، يسمح الاضطلاع بدور مؤثر في قضية عربية محورية مثل الحرب بين إسرائيل و»حماس» بتلقي امتياز تحتاج إليه الحكومة التي بدأت تتعثر محلياً.
على صعيد آخر، ستستفيد مصر اقتصادياً من استعمال نفوذها في هذا الصراع. كان الرئيس السابق حسني مبارك قد تفاوض لتخفيف الديون الخارجية المأخوذة من الولايات المتحدة وحلفائها بأكثر من 10 مليارات دولار مقابل مساعدة مصر في حرب الخليج، في العام 1991. تعني فورة الاقتراض المصرية في السنوات الأخيرة أن الديون الخارجية المصرية تفوق تلك القيمة بأضعاف، ويرزح اقتصاد البلد أصلاً تحت ثقل مستحقاته العالقة. إذا قررت مصر لعب دور محوري لمعالجة مشاكل غزة، ستستفيد المنطقة من دورها بدرجة كبيرة. للاستفادة من دعم القاهرة، يجب أن تضمن الحكومات الخليجية والغربية على حد سواء تقديم منافع مالية لمصر مقابل مساهماتها.
تواجه مصر أيضاً مخاوف أمنية مشروعة في غزة. تحارب مصر حركة تمرد مؤلفة من جهاديين وبدو وعصابات إجرامية منذ أكثر من عشر سنوات في شمال سيناء. ساهمت عمليات التهريب من غزة في تمويل وتسليح هؤلاء المتمردين، وتريد مصر أن تتوقف هذه العمليات. في غضون ذلك، تخشى مصر أن يؤدي تدفق اللاجئين من غزة إلى زعزعة منطقة مضطربة أصلاً في سيناء، ما يزيد الأعباء المفروضة على فرص العمل والموارد هناك ويجعل السكان المحليين أكثر تطرفاً.
إعتاد الحكام المصريون على إيجاد نقاط مشتركة مع إسرائيل في المسائل الأمنية، لكنهم غير مستعدين للتشجيع على إخلاء الأراضي الفلسطينية. بعد مرور ثلاثة أرباع قرن، لا يزال الرأي العام المصري متعاطفاً جداً مع القضية الفلسطينية، ما يعني أن المصريين سيعتبرون أي إعادة توطين للفلسطينيين في الأراضي المصرية بمثابة تسوية دائمة، فيخافون من تكرار موجات تدفق اللاجئين الفلسطينيين السابقة التي انتهت بالطريقة نفسها ويرفضون التخلي عن حق الفلسطينيين بأرضهم.
لكن الولايات المتحدة تقود معظم الجهود الدبلوماسية المتعلقة بغزة، وتعتبر واشنطن حكومة السيسي شريكة صعبة المراس. قررت الحكومة الأميركية حديثاً تعليق مساعدات عسكرية تم الاتفاق عليها سابقاً لصالح مصر، بقيمة 85 مليون دولار، بسبب مخاوف على صلة بحقوق الإنسان، وحاول بعض أعضاء الكونغرس الضغط لوقف المساعدات على نطاق أوسع.
في وقتٍ سابق من هذا الشهر، كشفت النيابة العامة لائحة اتهام صادمة تزعم أن الاستخبارات المصرية استعانت بالسيناتور الأميركي بوب مينينديز، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، كي يستعمل منصبه الرسمي لصالح الحكومة المصرية مقابل رشاوى بآلاف الدولارات. بعبارة أخرى، تُعتبر علاقات واشنطن مع القاهرة متوترة في الوقت الراهن.
اشتكت الحكومات العربية أيضاً من صعوبة التعامل مع مصر كشريكة في هذا الملف. لكن تدرك الحكومة المصرية أهميتها وطبيعة المصالح التي تريد تحقيقها، ما يعني أن تعاونها يترافق مع ثمن معيّن.
لم يُحقق مؤتمر السلام الذي عقده السيسي بشأن الصراع المستمر بين إسرائيل و»حماس»، في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، أي نتائج ملموسة، لكن من المتوقع أن تزداد أهمية مصر كلاعبة أساسية إذا أرادت الأطراف المعنية جميعها إيجاد مخرج لهذه الأزمة خلال الأسابيع والأشهر المقبلة. نتيجةً لذلك، من الأفضل أن تتعاون الولايات المتحدة مع مصر بدل محاولة تهميشها.
على المدى القريب، سيكون التعاون مع مصر ضرورياً لمعالجة الأزمة الإنسانية في غزة حصراً، بما في ذلك تأمين إمدادات الوقود والأدوية عبر معبر رفح. لكن على المدى الطويل، سيكون دور مصر أساسياً لتسهيل أي ترتيب سياسي في غزة، سواء صمدت «حماس» في الحُكم أو استلم نظام مؤقّت السلطة هناك. تبقى مصر الدولة العربية الأولى في خط المواجهة، ما يعني أن دورها سيكون حتمياً لتفعيل أي اتفاق أيضاً. ستُحقق القاهرة مصالحها نظراً إلى أهمية إرساء الأمن على الحدود بين مصر وسيناء، لكنها قد تضطلع في الوقت نفسه بدور قيادي بارز، فتدفع الحكومات العربية إلى إعطاء طابع شرعي لأي اتفاق محتمل.
بعد إبرام اتفاق مماثل، ستسعى مصر إلى حصد المنافع حتماً. تستطيع الولايات المتحدة أن تساعدها مالياً عبر التأثير على المؤسسات المالية الدولية التي تدين لها مصر بعشرات مليارات الدولارات. كذلك، يمكنها أن تساعد مصر في معركتها ضد الفوضى في سيناء. قد تسهم هذه الخطوات في تحسين الأمن المصري، لكن يبقى جزء من هذه المعركة مرتبطاً بواشنطن، نظراً إلى وجود جهاديين عابرين للحدود في سيناء وإصرارهم على استهداف الولايات المتحدة أيضاً. قد يكون تكثيف المساعدات الاستخبارية نقطة بداية مناسبة لهذه الجهود.
قد يعترض البعض على تعميق التواصل مع الحكومة المصرية بسبب حقوق الإنسان. لكن بدل اعتبار هذه العلاقة بغيضة وقائمة على المصالح، حيث يشعر الطرفان بأنهما يتعرضان للاستغلال، يُفترض أن يعتبرها البلدان فرصة لتعديل علاقة سامة.
لا تستطيع مصر ولا الولايات المتحدة معالجة الأزمة في غزة بشكلٍ أحادي الجانب. في الوقت نفسه، لا يستطيع أي طرف منهما تحقيق هذا الهدف من دون الآخر. لطالما تعثرت هذه العلاقة الثنائية بسبب غياب أي مشروع بارز يتمسّك به الطرفان بقوة. قد تصبح غزة مصدر إزعاج مشترك للطرفَين، لذا من مصلحة البلدَين أن يتوصلا إلى شكل من التعاون.