محمد علي مقلد

دعم الشعب أم دعم الحرب؟

خلال قرن من الحروب ضد الصهيونية، أحرزت الجيوش العربية انتصاراً عسكرياً واحداً والشعب الفلسطيني انتصاراً سياسياً واحداً. الجيوش عندما تمكن الجيش المصري من اجتياز قناة السويس ودخل إلى سيناء، والشعب الفلسطيني يوم اخترق ياسر عرفات كل الحدود ودخل إلى رام الله. ما خلا هذين الانتصارين، تاريخ القضية زاخر ببطولات وتضحيات لا تحصى، وبالهزائم أيضاً.

في المرتين كانت القيادة تعرف ماذا تريد. السادات، لتوظيف نتائج المعركة في عقد صلح مع إسرائيل، اختار هدفاً متواضعاً هو تحقيق انتصار جزئي يزيل فيه آثار الهزيمة ويفتح الباب أمام المفاوضات؛ ياسر عرفات لإقامة دولة فلسطينية على أي شبر يحرر من أرض فلسطين، اختار الكفاح المسلح وذهب إلى الأمم المتحدة حاملاً غصن الزيتون. في المرتين كانت استعادة أرض محتلة، أو شبر منها، هي مقياس النصر.

معركة غزة خاضها مناضلو «حماس» ببطولة مشهودة، لكن أهدافها ليست بوضوح أهداف المعارك التي خاضتها منظمة التحرير الفلسطينية، بل هي أقرب إلى أهداف جبهة الرفض التي كانت تعرف ما لا تريده وتجهل ما تريده أو تضمره فيبدو كأنّه مجهول أو على الأقل غامض، وتبدو مشوشة بسببه معايير الربح والخسارة.

يبدو من مجريات المعركة أنّ «حماس» لا تريد استعادة أرض محتلة، بل اتبعت خطة المباغتة لتستدرج العدو إلى حرب الأنفاق ولتبيّن قدرتها على الصمود تحت الأرض. هذه تجربة تصلح معياراً للشجاعة لا لقياس الجدوى والربح والخسارة، ولفروسية تشبه شاعراً عظيماً كالمتنبي «لا يعرف فنّ التكتيك». (عبارة قالها عنه الشاعر محمد العبد الله).

لا شك أنّ الشعب الفلسطيني عموماً وسكّان غزة على وجه الخصوص يحتاجون إلى كل أنواع الدعم والتضامن، وما من قضية في التاريخ الحديث حازت على تعاطف عربي ودولي كقضيته. حتى يهود أميركا تظاهروا ضد عمليات الإبادة التي يقترفها الجيش الصهيوني في غزة. فأيّ نوع آخر من الدعم تريده «حماس» ودعاة التضامن معها؟

ماذا يمكن لشعوب عربية غارقة في حروبها الأهلية أن تعبّر بغير الشجب والاستنكار والتعاطف والتضامن في الصحافة والإعلام والبيانات والمظاهرات، في عواصم العالم لا في المدن العربية؟ فتح الجبهات لا يعني سوى لبنان، ولبنان لم يقصّر. قدّم سيادته واستقلاله واقتصاده وازدهاره وديمقراطيته ووحدته الوطنية من أجل القضية، وبات من حقه أن يردد قول الشاعر، أأنا العاشق الوحيد لترمى تبعات الهوى على عاتقي؟

أنا المواطن اللبناني الذي قضى، غير نادم، خمسين عاماً من عمره في النضال من أجل لبنان وفلسطين، يحق لي، وأنا أراجع تجربتي اللبنانية، أن أراجع تجربتي الفلسطينية أيضاً ويحق لي أن أختار نهج منظمة التحرير لأنّ صفوفها اتسعت لكل مدارس النضال اليساري والقومي والديني ولأنّها اختارت شكلاً صريحاً وواضحاً، رغم كل الالتباسات التي أحاطته، ومن بينها التضحية بوطن موجود من أجل وطن مأمول.

ويحق لي أن أسائل «حماس» عن الهدف من اقتطاع غزة عن الدولة الفلسطينية. ألكي نجرّب نهج التقيّة والتفريط بالوحدة الوطنية وغموض الأهداف؟ متاهات الأنفاق تجربة شجاعة من غير شك، لكنّها تشبه تجارب الأنظمة العربية في الإطباق على حريات شعوبها تحت شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وفي رميها تهمة التخوين في وجه معارضيها.

ويحق لي أخيراً أن أسائلها عن دراسة الجدوى وعن الحسابات الافتراضية في الربح والخسارة، لأنّ اندفاعي إلى التضامن مع الشعب الفلسطيني مترافق مع خشيتي من أن توظّفه حماس لصالح صوملة مستقبلنا الفلسطيني والعربي أو أفغنته.