بيار بو عاصي

نظريّة الجَدّة وتماسك المجتمع وخطر التّفتيت

2 تشرين الثاني 2023

02 : 00

ما إن تناهت «نظرية الجدّة» إلى مسامعي حتى استفاق في قلبي الدفء والحكايات والذكريات قبل أن يلتفت عقلي إلى كلمة «النظريّة» العلميّة الباردة. «نظريّة الجدّة» نظريّة أنثروبولوجية ولفهم جوهرها علينا الغوص في أعماق وجودنا.

دَرسَ الانسان العاقل (Homo Sapiens) عبر التاريخ الثدييات الأرضية قاطبةً فوقف مدهوشاً أمام اكتشاف فريد: وحدها أنثى الانسان تنقطع لديها العادة الشهريّة. اكتشاف حيّر العلماء قبل أن يفسروه بشبه اجماع: إنّها «نظرية الجدة». في بدايات وجوده كان الانسان في ترحال دائم للصيد والقطاف وكان لا بدّ من مساندة الأم في حَمْلِها وبُعَيد الولادة كي تستطيع اللحاق بالجماعة المتحرّكة. برز هنا دور الجدة، فكانت هي السند وانقطع حيضها لتتفرغ لهذه المهمة.

هذا دليل بأنّ الانسان في جوهره كائن اجتماعي، قيمته الأغلى التضامن بين الأفراد، فالخلية العائلية الأولى تألفت من أب وأم وطفل وجدّة والكل مرتبط عضوياً بالجماعة.

حصلت الثورة الزراعيّة منذ عشرة آلاف عام فاستقرّ الانسان وتماسَكت الجماعة أكثر فأكثر ليصبح التضامن والتكامل جزءاً أساسياً من التنظيم الإجتماعي. منذ ثلاثمئة عام، في أواسط القرن الثامن عشر، أتى اختراعٌ علميّ كان له التأثير الكبير على تركيبة المجتمع. إنّه المحرك البخاري، إنّها الثورة الصناعية. أدّت هذه الثورة إلى أن يترك الانسان بيئته شبه القبليّة ليتمركز حول المعامل، فتراجع دور الجماعة ليبرز دور الفرد. تحرّر الفرد من الجماعة ومنظومة قيمها ومحظوراتها ليصبح هو القيمة المحوريّة.

واكبت الثورة الصناعية ثورة من نوع آخر وهي فلسفة عصر التنوّر. أراد فلاسفة التنوّر أن تكون قيمهم عالمية (Valeurs Universelles) فكان لهم تقريباً ما يريدون. بنى فلاسفة التنوّر فكرهم على تقديس حريّة الفرد وحقوقه القانونية والطبيعية وأسقطوا أي شرعية لأي سلطة لا تنبع من خيار الفرد وإرادته. لم يعد المجتمع إطاراً بديهيّاً لمن يولد فيه، بل أصبح الإنتماء إلى الجماعة نتيجة اختيار الفرد لها. غَدَا المجتمع في نظر فلاسفة ذاك العصر، وحتى يومنا هذا، نتاجَ عقد اجتماعي بين الأفراد.

أمام هذا الواقع الجديد فرضت بعض الاسئلة نفسها. هل بالمستطاع أن ترقى القيم الحديثة إلى مستوى العالمية دون تفكك المجتمع وتحرر الفرد منه؟ كيف السبيل إلى تكامل مفهوميّ تحرّر الفرد وتماسك المجتمع؟ أتت الثورة الفرنسية عام 1789 لتُرسي فكريّاً وسياسيّاً مفاهيم العدالة الإجتماعيّة وانصهار المجتمع وحريّة الفرد، تحت شعار «الحريّة والمساواة والإخاء» فاجتاز هذا الشعار حدود الأوطان والثقافات والأجيال.

أمّا نحن، فلقد عشنا في حقبة تسودها القيم العالمية المشتركة، ولو بدرجات متفاوتة، وأتت العولمة لتُسهم في تمازج الحضارات والثقافات في ما بينها. من المشروع، لا بل من الواجب، أن نتساءل اليوم عن جوهر وغايات تيارات سياسية - إجتماعية تسعى إلى تفتيت كل شيء: القيم العالمية المشتركة وحريّة الفرد وتماسك المجتمع. ما السبيل لفهم هذا الإنجذاب نحو الهاوية والقفز من أعلاها تحت شعار التقدم والحداثة؟

مع سابق تصوّر والكثير من التصميم يعمل هؤلاء على تفتيت المجتمع وتحويله إلى مجتمعات. تغدو المجموعات الجديدة المفتعلة مصدر توتّر وتباعد في ما بينها في حين كانت متناغمة، متكاملة، منصهرة. أهكذا تتحقق حماية من يُعتبَرون مهمشين، من أقليات واعراق ومذاهب ولغات وثقافات محلية ومثليين ومتحولين؟

كأن بنا نعود إلى القبليّة حيث لا يَجمعُ بين قبيلتين سوى العصبيّة والعداء، وكلّ ذلك باسم العدالة والحداثة. أنسينا أنّ الانسان كائن إجتماعي، فرادته في تعدد أوجهه والأبعاد وبأن كل فرد قيمة مضافة للجماعة يُغنيها وتغنيه وتحميه؟

كتاب الحياة صفحات طويت واخرى لم تقرأ بعد وصفحة امام اعيننا. لا يعتقدنّ أحد أنّ الصفحة المفتوحة تختزل الكتاب، كما أنّ اليوم لا يختزل الحياة. أي قيم سوف نستوحي اليوم من تاريخنا فننقلها إلى الاجيال القادمة؟

كل شيء قابل للبحث والنقاش الّا تفتيت المجتمع وضرب قيمه المشتركة الراسخة. ها هي الجدّة قد ارتضت حكم الطبيعة فتبنّته وجعلت من التضامن مدماكاً للبشريّة، فساندت ابنتها وحملت احفادها واستوطنت الأرض. إنّها جدتنا جميعاً، فلنستوحِ منها روح التضحية وحب الفرد والجماعة المتماسكة حول قيمها المشتركة. لنرفض مجتمعِين كل أشكال الإنقسامات والتفتيت فنسير معاً على دروب الحريّة والمساواة والإخاء والسعادة والحياة.

(*) عضو تكتّل «الجمهورية القوية»


MISS 3