كريستي رايك

إنهيار الحلم بإنشاء نظام أمني أوروبي مشترك مع روسيا

3 تشرين الثاني 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في قصر الإليزيه | فرنسا، 9 كانون الأول 2019

مع اقتراب الشتاء الثالث من الحرب الروسية ضد أوكرانيا، لا تزال نهاية الصراع بعيدة المنال. تبقى المساعدات العسكرية الغربية كافية كي تتابع أوكرانيا القتال، لكنها لا تكفي لتحرير جميع أراضيها. ورغم استمرار الدعم الشعبي للقضية الأوكرانية في الدول الغربية، يكثر الكلام اليوم عن سأم الغرب من الحرب، وتتوسع النقاشات وراء الكواليس حول تسوية محتملة لإنهاء الحرب أو تجميدها.



قد تكون التسوية مبكرة اليوم لأسباب مألوفة. أولاً، لا يبدو أي طرف مستعداً لخوض مفاوضات جدّية. بالنسبة إلى أوكرانيا، تحمل هذه المعركة بُعداً وجودياً، وقد أعلن القادة الغربيون مراراً أن أوكرانيا وحدها ستقرر توقيت المفاوضات وشروطها. لكن تبقى هذه المقاربة شائبة لأننا نعرف أصلاً أن أوكرانيا تريد متابعة القتال. من خلال الامتناع عن تسليم أسلحة أساسية، ستكون البلدان الغربية مسؤولة جزئياً عن عدم تقدّم أوكرانيا بالسرعة التي يطمح لها الأوكرانيون وداعموهم.

ثانياً، لن تتوقف أعمال العنف في الأراضي التي تحتلها روسيا طالما تبقى هذه المناطق تحت سيطرة موسكو. لهذا السبب، يعتبر الأوكرانيون تجميد الصراع غير وارد، فقد شاهدوا الأهوال التي ارتكبها الروس في بوتشا، وإربين، وعدد هائل من البلدات والقرى الأخرى. يتفهم جيران أوكرانيا هذا الموقف، فهم اختبروا بأنفسهم معنى الاحتلال الروسي والسوفياتي. يعني هذا الوضع العيش في خوف مستمر، وغياب الحرية، وظهور تهديدات دائمة باحتدام العنف.

يجب أن يفهم الجميع أن الفكرة التي تحملها موسكو عن مبادئ ومعايير الأمن الأوروبي لا تتماشى مع الآراء الغربية. أثبتت تجربة أوكرانيا أن الكرملين يساوي بين الأمن والسيطرة، وتشتق هذه العقلية في الأصل من التاريخ الروسي وسياسة البلد الخارجية. من المستبعد أن يتغير هذا المفهوم في المستقبل القريب.

أصبحت روسيا إمبراطورية متعطشة للاستيلاء على الأراضي منذ حقبة دوقية موسكو الكبرى في العصور الوسطى، وسرعان ما تحوّل البلد إلى دولة توسعية تخضع لحُكم إيفان الرهيب في القرن السادس عشر. كان إيفان معروفاً أيضاً بوحشيته وإقدامه على تعذيب وذبح شعبه، وقد أشاد البعض بحُكمه خلال عهد فلاديمير بوتين. حتى أن بوتين شخصياً اعتبر الإمبراطور الذي كان يحب تعذيب الآخرين أيضاً، بطرس الأكبر، قدوته.

يتعلق تقليد أساسي آخر في السياسة الخارجية الروسية بالفكرة القائلة إن النظام الأمني الأوروبي يجب أن يرتكز على اتفاقيات بين القوى الكبرى لتحديد هوية رؤساء الدول الأصغر حجماً. منذ العام 2014، أشار الكرملين في مناسبات متكررة إلى مؤتمر فيينا الذي أعاد رسم خريطة أوروبا في بداية القرن التاسع عشر، ومؤتمر يالطا الذي جمع البريطانيين والسوفيات والأميركيين في شباط 1945 لتقسيم أوروبا بين نطاقَي نفوذ. من وجهة نظر روسيا، حدّد هذان الاتفاقان أسس الاستقرار طوال عقود. لكن أدركت البلدان التي تأثرت بالهيمنة الروسية ثمن ذلك الاستقرار المؤلم. جاء اتفاق فيينا ليمسح بولندا من الخريطة كدولة سيادية طوال قرن من الزمن، وحَكَم اتفاق يالطا على نصف أوروبا باحتلال سوفياتي وحُكم توتاليتاري دام لأكثر من أربعين سنة.

كان النظام الأوروبي بعد الحرب الباردة كفيلاً بنشر مستويات غير مسبوقة من الحرية، والسيادة، والازدهار، في الدول الغربية المجاورة لروسيا. استغلت معظم دول الكتلة الشرقية السابقة سيادتها لتغيير وجهتها بطريقة جذرية والانتقال إلى محور الغرب. من بين الجمهوريات السوفياتية السابقة، كان توجّه دول البلطيق نحو الغرب سريعاً وقوياً. في غضون ذلك، حاولت أوكرانيا، وجورجيا، ومولدوفا، القيام بالمثل لاحقاً، لكنها لا تزال تتخبط لنيل حق اختيار مكانتها المستقبلية في أوروبا، بما في ذلك الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي. تدعم هياكل صناعة القرار في الاتحاد الأوروبي نظاماً مختلفاً بالكامل عن أسس الانضمام إلى منطقة تسيطر عليها روسيا. يمنح الاتحاد صلاحيات واسعة للدول الأصغر حجماً، حتى أن بعض الأعضاء ينقل جزءاً من جوانب السيادة إلى مؤسسات فوق وطنية. لكن تبيّن أن البقاء في منطقة رمادية بين روسيا والاتحاد الأوروبي، كما فعلت أوكرانيا، هو الخيار الأقل استقراراً.

لم تتقبل روسيا يوماً التطورات الحاصلة على مستوى الأمن الأوروبي بعد الحرب الباردة، فاشتكت مراراً من عدم التعامل معها ككيان متساو مع الغرب، لكن يختلف تعريف المساواة كثيراً بين روسيا وأوروبا. من وجهة نظر روسيا، تعني المساواة أن يكون البلد بمستوى قوى عظمى أخرى، لا سيما الولايات المتحدة، من دون أن تنطبق هذه المساواة على الدول المجاورة المستقلة التي لا تحظى باعتراف رسمي من روسيا. وبما أن موسكو لا تعتبر تلك البلدان مساوية لها، هي لا تهتم كثيراً بمواقف برلين أو باريس، ولا حتى بروكسل. هذه المقاربة تعكس نظرة روسيا إلى جيرانها. عندما نزل مئات آلاف الأوكرانيين إلى الشارع خلال الثورة البرتقالية في العام 2004 احتجاجاً على حكومتهم الفاسدة والمخادعة، ثم خلال ثورة الميدان الأوروبي في أواخر 2013 وبداية 2014، اعتبرت موسكو كل ما يحصل مؤامرة أميركية لإضعاف روسيا.

في العام 2009، اقترح الرئيس الروسي السابق، ديمتري مدفيديف، معاهدة أمنية أوروبية جديدة في محاولة منه للدفاع عما اعتبرته روسيا مصالحها الأمنية المشروعة التي يحاول الغرب سحقها اليوم برأي الروس. استعملت موسكو مصطلحات مبهمة مثل «عدم تجزئة الأمن» لحصر دور حلف الناتو بمحور الغرب في حقبة الحرب الباردة وكسب حق النقض للاعتراض على قرارات الحلف إذا اعتبرتها روسيا مخالفة لمفهوم الأمن وفق تعريفها الخاص.

في كانون الأول 2021، حين كانت القوات الروسية تحتشد استعداداً لغزو أوكرانيا، أطلق الكرملين محاولة أخرى لتسويق رؤيته حول معنى النظام الأمني الأوروبي في وثيقتَين موجّهتَين إلى الناتو والولايات المتحدة. تلاشت جميع مظاهر الغموض هذه المرة وبدت الأهداف الرجعية واضحة: استرجاع كامل نطاق النفوذ الروسي منذ حقبة الحرب الباردة، وحصر وجود الناتو في أوروبا وراء الخط الذي سبق توسّع الحلف شرقاً خلال التسعينات. لم تتغير تلك الأهداف حتى الآن، وهي تعكس التفكير الاستراتيجي الذي تحمله روسيا على المدى الطويل. من الواضح أن الجهود الغربية الرامية إلى بناء نظام أوروبي مشترك مع روسيا منذ الحرب الباردة فشلت.

إذا حققت روسيا هدفها الاستراتيجي الذي يقضي باسترجاع السيطرة على أوكرانيا، ولو جزئياً، ستدعم بذلك جهودها الرامية إلى فرض تعريفها لمعنى النظام على جيرانها الأوروبيين. لكن حتى لو هُزِمت روسيا واضطرت للانسحاب من جميع الأراضي المحتلة في أوكرانيا، يصعب أن تتخلى عن النظرة التي تحملها عن نفسها منذ قرون كإمبراطورية عظيمة وقوة كبرى تملك حقوقاً مميزة في نطاق نفوذها. على عكس بعض الإمبراطوريات المتلاشية في الماضي، مثل ألمانيا النازية والإمبراطورية اليابانية، لن تُهزَم روسيا بالكامل، ولن تحتلها قوى خارجية أو تضطر لتغيير نظامها بطريقة جذرية. لهذه الأسباب، من المستبعد أن تتحول روسيا قريباً إلى قوة مستقرة تتقبّل المكانة التي اكتسبتها بعد الحرب الباردة في أوروبا أو توافق على متابعة توسّع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

قال مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، زبيغنيو بريجنسكي، خلال التسعينات إن روسيا لا يمكنها التحول إلى إمبراطورية من دون أوكرانيا. يزعم منظّمو الحملات الدعائية الروسية أن روسيا محكومة بأن تكون إمبراطورية كي لا تزول من الوجود. سيكون رفض هذا الادعاء شرطاً مسبقاً أساسياً كي تنشأ روسيا جديدة بعد حقبة الإمبراطورية.

يتعلق شرط مسبق آخر باعتراف روسيا بجيرانها كدول سيادية بدل أن تعتبرها مجرّد دمى تنفذ مخططات واشنطن. كان الكرملين مخطئاً جداً في مقاربته لحرب أوكرانيا حين افترض أن القوى العظمى تدوّن تاريخ العالم، ويكرر بعض الواقعيين المزعومين هذا الرأي في الغرب. لو كانت تلك الفكرة صحيحة، لما حصلت دول البلطيق، وفنلندا، وبولندا، وأوكرانيا، على سبب لتبرير وجودها اليوم كدول سيادية. أنتج الغزو الروسي لأوكرانيا عواقب غير مقصودة، فأثبت في المقام الأول دور جيران روسيا ورسّخ قوتهم. تمتد كتلة قوية جديدة في الناتو اليوم من الدول الاسكندنافية إلى البحر الأسود. كذلك، بدأت بولندا وأوكرانيا تتحولان إلى قوى عسكرية رائدة في أوروبا. من المتوقع أن يحتاج الدفاع الأوروبي إلى مساهماتهما خلال السنوات والعقود المقبلة.

يجب ألا يتوقع أحد ظهور مفهوم مشترك بين الغرب وروسيا حول معنى الأمن الأوروبي في أي وقت قريب، ولن يكون ذلك المفهوم أصلاً جزءاً من اتفاق يتم التفاوض عليه لمكافأة روسيا، ولو جزئياً، على تفكيكها لأوكرانيا. من الضروري إذاً أن يتصور المعنيون نظاماً أمنياً أوروبياً مستقبلياً لا يتعاون مع روسيا بل يتصدى لها، فيهدف إلى منع أي تهديدات روسية أخرى والدفاع عن الديمقراطيات الأوروبية ضد طموحات الكرملين الاستبدادية، والرجعية، والإمبريالية.

سيكون هذا النظام ثنائياً ومشابهاً لحقبة الحرب الباردة بدرجة معينة. في تلك المرحلة، ابتكرت الديمقراطيات الغربية هياكلها الليبرالية المبنية على قواعد واضحة، أبرزها حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وسعت في الوقت نفسه إلى وضع سياسة احتواء ضد الاتحاد السوفياتي والمشاركة في منافسة إيديولوجية، واقتصادية، وعسكرية، وتكنولوجية، مع الكتلة الشرقية. لكن لن يكون أي نظام أوروبي جديد من هذا النوع مستقراً بطبيعته لأن الظروف العالمية تغيرت كثيراً منذ الحرب الباردة. يتراجع التزام الولايات المتحدة بالأمن الأوروبي اليوم بسبب الاضطرابات السياسية المحلية والبيئة الجيوستراتيجية حيث أصبحت الصين، لا روسيا، منافِسة واشنطن الأساسية. في الوقت نفسه، لم يعد العالم ثنائي القطب، بل إنه يشمل عدداً من مراكز القوة المتنافسة والمتداخلة.

لكن رغم هذه التغيرات، سيتعامل النظام الأوروبي المستقبلي على الأرجح مع تهديدات روسية طويلة الأمد وعلاقة عدائية مع موسكو، بما يشبه ظروف الحرب الباردة. ستتابع روسيا من جهتها رفض أي ميزان قوى جديد إذا كان يضيّق نطاق نفوذها السوفياتي القديم منذ عهد القياصرة. في غضون ذلك، سيتابع الغرب رفض مفهوم نطاقات النفوذ بالكامل، وقد تحاول روسيا تعديل ميزان القوى حالما تعيد بناء قدراتها العسكرية. لجعل النظام الجديد في أوروبا أكثر استدامة، يجب أن يطبّق الغرب إذاً سياسة احتواء استباقية، على أن تشمل نظاماً جديراً بالثقة للردع والدفاع، ويُفترض أن يضمّ أوكرانيا وبلدان أخرى إلى الناتو والاتحاد الأوروبي، ويفرض قيوداً للحد من قدرة روسيا على استرجاع قوتها العسكرية.

بغض النظر عن موقف المسؤولين من المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا، لا يمكن أن يتجاهل أحد مسألة النظام الأمني المستقبلي في أوروبا.