عيسى مخلوف

وقفة من باريس

هل صحيح أنّ الجمال سيُنقذ العالم؟

30 أيار 2020

02 : 00

تفصيل من جداريّة لبوتيتشيلّي، متحف اللوفر

منذ قديم الزمان والإنسان يبحث عن خشبة خلاص، تارةً من خلال تطويع الواقع وتذليل الصعوبات، وتارةً أخرى من خلال الفنّ والحلم والجمال. في أسطورة جلجامش، راح البطل الملحمي السومري، ليتخلّص من الموت، يبحث عن عشبة الخلود والحياة الأبديّة. إنّه التوق المتجدّد عبر العصور إلى تجاوُز الشرط الإنساني المؤلم والمحدود.

الأساطير التي تؤسِّس لذاكرة البشر، وتكشف عن ثمار المخيّلة الأولى، تجد طينتها في الواقع، لكنّها تُصَعِّد هذا الواقع وتطلقه في الفضاء الأوسع. من هنا يمكن الاستدلال على عمقها الوجودي، وعلى كثافة حضورها في ثقافاتنا المشتركة لا سيّما أنها تمثّل لحظة جماليّة وإنسانيّة بامتياز.

تتقاطع، أحياناً، أساطير الشعوب وتتداخل. تتعانق في ما وراء الأزمنة والأمكنة. قصّة الطوفان تطالعنا، بصيغة مختلفة، عند الهنود الحمر. نزول عشتار إلى العالم السفلي بحثاً عن تمّوز مرآةٌ نعثر فيها على وجهَي أورفيوس وأوريديس. وهناك نصوص دينيّة وأدبيّة كبيرة نهلت من أساطير الشرق القديم. أساطير الحبّ في سومر هي المصدر الأساسي لسِفر "نشيد الأناشيد" الذي يتجلّى فيه حضور المرأة في أبهى صورها: "أريني وجهكِ أسمعيني صوتكِ لأنّ صوتكِ لطيف ووجهكِ جميل"، "عيناكِ حمامتان". تحضر المرأة، هنا، بصفتها صورة للجمال. والدة جلجامش، وتدعى ننسون، امرأة "بصيرة وحكيمة في كلّ فنّ". والمرأة هي التي جعلت أنكيدو يخرج من طوره الحيواني إلى طوره الإنساني، تماماً كما فعلت شهرزاد في "ألف ليلة وليلة" واستطاعت، ليس فقط بفعل جمالها وجاذبيّتها، بل كذلك، وفي المقام الأوّل، بسحر حكاياتها وعمق ثقافتها ومعرفتها، أن تُؤَنسِن شهريار وتخرجه من ظلام جهله وعنفه، كأنه يولد بين يديها من جديد.

داخل هذا المدى الأسطوري الرّحب، ترتسم العلاقة الأولى بين الواقع والمتخيَّل، بين الوعي واللاوعي. يصبح "ماءُ القلب" الذي ورد ذكره في أناشيد الحبّ السومريّة ماءَ الخصوبة وشرط استمرار الحياة على الأرض. كثيرة هي الكتابات التي تناولت الجمال المجسَّد في المرأة الأنثى في الثقافات المختلفة. ابن الرومي يصف جمال المرأة تحت بخور النَّدّ: "يَغيمُ كلُّ نهار من مجامرها ويُشمسُ الليل منها"، أمّا بودلير فينعت الجمال بأنه "إلهيّ وخالد". لكن، ما الذي حلّ بالمرأة، ولماذا ظلّت، حتى الآن، في وضعيّة دونيّة في الكثير من زوايا العالم المعتمة؟ وماذا حلّ بالجمال، الجمال الذي يطالعنا في الطبيعة، وذاك الذي تجترحه مخيّلة الإنسان المبدعة الخلاّقة؟

في كتاب "تاريخ الجمال"، يجول الكاتب الإيطالي أومبرتو إيكو في أبرز محطّات فنون العالم الغربي، قديماً وحديثاً، ويطرح السؤال الأبدي عن معنى الجمال، وهل بالإمكان تحديد ماهيته بصورة موضوعية أم أنه مسألة ذاتية بحتة. ولا يلتفت إيكو إلى الجمال المُستلَب وإن كانت هناك استثناءات تتمثّل في حكايات ووقائع تنتصر للفنّ والفنّانين، ومنها أنّ الفنان الإيطالي تيسيانو كان يترك ريشته تسقط عمداً من يده لينحني الملك كارلوس الخامس ويلمّها، أو حكاية أخرى تُحكى عن السلطان العثماني بايزيد الثاني الذي كان يجلس بجوار خطّاطه حاملاً المحبرة، لأنه هو نفسه شاعر وموسيقي وخطّاط.

"هل صحيح أنّ الجمال سينقذ العالم؟"، تسأل إحدى الشخصيّات في رواية "الأبله" لدوستويفسكي. أيّ جمال وأيّ عالم؟ وهل يستطيع الجمال، مهما كان نوعه، أن ينقذ الفقراء من الجوع والمظلومين من الظُّلم والمضطهدين من الاضطهاد؟ ما باستطاعة الجمال أن يفعل والجزء الأكبر منه، الممثَّل بالأخصّ في العِمارة والأعمال الفنّيّة، جاء بإيعاز من أصحاب السلطات الدينيّة والمدنيّة عبر العصور؟ من الأهرام إلى كاتدرائيّة القدّيس بطرس في روما. حُكّام فلورنسا، في الماضي، دعموا الفنّانين وراهنوا على الجمال لخدمة مشروعهم السياسي. وفي الزمن القريب، جمع صدّام حسين في مِربَده الشهير جُموعَ الشعراء، ومنهم شعراء القمع المتواطئون، تحت شعار "كلّ القصائد تغنّي لصدّام مُبدع الانتصارات"!

هل سينتصر الجمال فعلاً - الجمال الخائف والجريح، هو أيضاً، والمهدّد دائماً بالسلطة والمال - أم أنّنا منذورون للعيش بين عالمين: عالم الواقع من جهة، ومن جهة ثانية عالم الرؤى الأدبية والفنية، الذي، إن لم يساعدنا على تغيير الواقع، قد يساعدنا، على الأقلّ، على تَحَمُّله والتخفيف من وطأته؟

صحيح أنّنا نحتمي بالجمال كمن يحتمي بأجنحة الفراشات من شمس حارقة، لكننا أحوج ما نكون إلى إكسير الحياة هذا لنبدّد غيوم العنف والابتذال والبشاعة التي تحوم فوق رؤؤسنا، ولنعيد الصلة مع مناطق الدهشة والحلم، ومع السؤال المُخَلِّص.


MISS 3