حذّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من خوض «حرب طويلة» خلال خطاب مسجّل عُرِض يوم الثلثاء الماضي، فيما كانت الطائرات الإسرائيلية تتابع قصف قطاع غزة المكتظّ بالسكان. خلال ثلاثة أسابيع بعد هجوم «حماس» الذي أسفر عن مقتل أكثر من 1400 إسرائيلي، تمسّك كبار المسؤولين الإسرائيليين بموقفهم المرتبط بـ «إزالة حماس عن وجه الأرض».
بعد مرور 16 سنة على وجود «حماس» في السلطة، أصبحت هذه الحركة راسخة في عمق قطاع غزة. شكّك الخبراء الإقليميون بقدرة إسرائيل على تفكيك هذه الجماعة المسلّحة بالكامل. وحتى لو نجحت إسرائيل في إسقاط «حماس»، فستترك وراءها فراغاً سياسياً وأزمة إنسانية لا يمكن تصوّرها. قُتِل أكثر من 9 آلاف شخص في غزة، وفق معطيات وزارة الصحة المحلية التي تديرها «حماس» والتي تُعتبر أرقامها جديرة بالثقة تاريخياً. كذلك، تذكر الأمم المتحدة أن عدد الأطفال القتلى يفوق 3500.
لكن ماذا سيحصل بعد الحرب؟ لم يكشف المسؤولون الإسرائيليون تفاصيل كثيرة عن خططهم الخاصة بالقطاع الذي يضمّ 2.1 مليون نسمة. لكنهم قارنوا الوضع بما فعلته الولايات المتحدة لغزو العراق وأفغانستان.
دعا الجيش الإسرائيلي مليون شخص إلى إجلاء شمال غزة، وحذّرهم من اعتبار كلّ من يبقى هناك «شريكاً» لحركة «حماس». تشير التقديرات الإسرائيلية إلى بقاء حوالى 350 ألف مدني في تلك المنطقة. يعجز بعضهم عن الرحيل بسبب تقدّمهم في العمر أو يمنعهم مرضهم من المغادرة، ويخشى آخرون أن يعجزوا عن العودة لاحقاً. تعرّض من هرب نحو الجنوب للقصف رغم كل شيء، فقد استهدفت الضربات الجوية الإسرائيلية جميع أنحاء قطاع غزة.
يقول دبلوماسي إسرائيلي بارز تكلم شرط عدم الإفصاح عن اسمه (لم يُسمَح له بالتكلم بشكلٍ رسمي بسبب البروتوكول المعتمد في وزارة الخارجية الإسرائيلية)، إن المسؤولين الإسرائيليين باتوا مصمّمين على اقتلاع آخر أثر لحركة «حماس»، ما يعني ألا يكتفوا بقطع رأسها تكتيكياً، بل إنهم يريدون سحق قدرتها على جمع أي قدرات عسكرية أو صلاحيات قضائية في غزة، بغض النظر عن انتماء العناصر إلى الجناح العسكري للحركة.
إلى جانب المساحات العسكرية الشائكة، يشكّك الخبراء بقدرة إسرائيل على اقتلاع «حماس» بالكامل. بالإضافة إلى الجناح العسكري التابع للحركة، يدير عشرات آلاف العناصر في «حماس» وبعض البيروقراطيين في السلطة الفلسطينية المدارس، والمستشفيات، ونظاماً قضائياً خاصاً.
تبرز تحديات أخرى أيضاً بسبب الفكرة الكامنة وراء «حماس». تأسّست هذه الحركة في أواخر الثمانينات، وهي ملتزمة بالمقاومة المسلّحة وبإبادة إسرائيل. تُعتبر «حماس» ثاني أكبر كيان في السياسة الفلسطينية. يقول آرون ديفيد ميلر، مسؤول سابق في وزارة الخارجية الأميركية كان جزءاً من مفاوضات السلام في الشرق الأوسط: «يمكن اعتبارها تجسيداً تنظيمياً لفكرة معينة».
تزامناً مع ارتفاع حصيلة القتلى وتفاقم المعاناة الإنسانية في أحياء غزة، يزيد احتمال أن تؤدي مساعي إسرائيل إلى زرع بذور انعدام الأمان مستقبلاً. تعليقاً على الموضوع، يقول خالد الجندي، مدير برنامج فلسطين والشؤون الفلسطينية والإسرائيلية في معهد الشرق الأوسط: «لا يمكنني أن أبدأ بتوقّع التداعيات الإنسانية، أو حتى الأمنية، على المدى الطويل. مثلما يحمل الإسرائيليون هذه الرغبة في الانتقام، يسهل أن نفترض أن هذا الدافع البشري نفسه سيترسّخ وسط الفلسطينيين على نطاق أوسع بكثير».
لوّح المشرّعون الإسرائيليون اليمينيون بفكرة ضمّ أجزاء من القطاع، في المساحة التي فكّكت فيها إسرائيل مستوطناتها في العام 2005، لكن أكد كبار المسؤولين مراراً أنهم لا ينوون إعادة احتلال غزة بعد الحرب.
يصعب أن يتصوّر أحد أي سيناريو مستقبليّ حيث يمتنع الجيش الإسرائيلي عن الحفاظ على وجود ميداني قصير الأمد على الأقل لمنع ظهور أي بقايا أخيرة من حركة «حماس» ولاسترجاع وضع مستقرّ. سبق وبدأ القادة العسكريون الإسرائيليون استعداداتهم للتعامل مع سيناريو موقت حيث يشرفون على الأمن والحياة المدنية في القطاع، وقد بدأوا يفكرون بنقل عناصر من «وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق» (وحدة عسكرية تتعامل مع المسائل المدنية في الضفة الغربية) لتولي أدوار موقتة في غزة، وفق تقرير نشرته صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية.
فور انتهاء العملية العسكرية الإسرائيلية، ستكون الحاجات الإنسانية ومتطلبات إعادة الإعمار هائلة. أصبحت المستشفيات ومستودعات الجثث مكتظة، وبدأت إمدادات الوقود اللازمة لتشغيل مولدات المستشفيات ومحطات مياه الصرف الصحي تتلاشى بعد ثلاثة أسابيع من الحصار الإسرائيلي.
على المدى الطويل، يشير الخبراء إلى احتمال نشوء ائتلاف من الدول العربية (أبرزها الدول الموقّعة على «اتفاقيات أبراهام» على الأرجح لأن إسرائيل تظن أنها قادرة على التعاون معها). يمكن استعمال ذلك الائتلاف كقوة موقتة لملء الفراغ على مستوى الأمن والحُكم في غزة بدعمٍ من الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة.
يقول عامي أيالون، الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات الإسرائيلية «شاباك»: «أتوقّع أن يسيطر جنود مصريون وأردنيون وسعوديون على المنطقة بالتعاون مع المجتمع الدولي، وأن تتدفق مبالغ مالية ضخمة من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية لإعادة إعمار القطاع». لكن كلما طالت مدة الحملة الإسرائيلية في غزة وزادت وحشيتها، ستزيد صعوبة التعاون مع الدول العربية.
يبرز أيضاً التحدي الشائك المرتبط بإعادة إعمار المنطقة، إذ من المتوقع أن تصل كلفة هذه العملية إلى مليارات الدولارات. في ظل تجدّد الأعمال العدائية بين إسرائيل و»حماس» بوتيرة متقطعة خلال العقد الماضي، تشهد غزة حالة شبه دائمة من إعادة الإعمار. أُعيقت الجهود الرامية إلى إعادة بناء المنازل والبنى التحتية التي دمّرتها الحرب بسبب وعود المانحين غير المُحققة وآليات التدقيق المعقدة لمنع وصول مواد البناء إلى «حماس».
يقول ديفيد ماكوفسكي، مستشار وزارة الخارجية الأميركية السابق: «إعادة الإعمار عامل أساسي. يجب أن نقيّم احتمال إحراز التقدّم على الأقل في أسرع وقت».
عند النظر إلى المشهد العام، يبدو مستقبل غزة قاتماً أكثر من أي وقت مضى. إذا انهارت «حماس» بعدما حكمت قطاع غزة منذ العام 2007، فستصبح السلطة الفلسطينية التي تدير الضفة الغربية المرشّحة الأقرب إلى الواقع لسدّ الفراغ. نشأت هذه السلطة بعد اتفاقية أوسلو للسلام في منتصف التسعينات، على أمل أن تُمهّد لقيام دولة فلسطينية مستقبلية. لكن لن يكون هذا الخيار أفضل سيناريو محتمل.
في المقام الأول، طردت «حماس» السلطة الفلسطينية من غزة في العام 2007، ومن المستبعد أن تتقبّل تلك السلطة فكرة العودة إلى القطاع بعد حملة عسكرية إسرائيلية انتقامية تهدف إلى إسقاط منافِستها. تقول زها حسن التي تُركّز في أبحاثها على السلام بين فلسطين وإسرائيل في «مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي»: «لا تريد السلطة الفلسطينية أن يراها الناس وكأنها تأتي على دبابة إسرائيلية للاستيلاء على قطاع غزة».
على مستوى الشرعية، لم تنظم السلطة الفلسطينية أي انتخابات رئاسية منذ العام 2005، حين انتُخِب محمود عباس الذي يبلغ 87 عاماً اليوم للمرة الأولى. تعتبر أغلبية ساحقة من الفلسطينيين السلطة الفلسطينية فاسدة وغير كفوءة، وينظر معظمهم إلى تعاونها الأمني مع إسرائيل في الضفة الغربية بعين الشبهة، إذ يتابع المستوطنون الإسرائيليون الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية بلا رادع.
في ما يخص مستوى القدرات المتاحة، لطالما وجدت السلطة الفلسطينية صعوبة في حماية المدنيين من اعتداءات المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية، وقد وصلت ميزانياتها إلى نقطة انهيار بعدما احتفظت إسرائيل بملايين الدولارات من العائدات الضريبية التي جمعتها من الفلسطينيين.
في غضون ذلك، أصبح صمود السلطة الفلسطينية محط شكوك في السنوات الأخيرة، ويزيد التشكيك أيضاً بقدرتها على وضع مليونَي شخص من سكان غزة تحت جناحها بعد الحرب. كي تكسب الحكومة الفلسطينية أي شكل من السلطة، يجب أن تجري انتخابات جديدة، وتكسب موارد كبرى، وتتخذ موقفاً مختلفاً جداً من الإسرائيليين، برأي المبعوث الأميركي السابق فرانك لوينشتاين. لكن أصبحت هذه المسائل كلها على المحك في الوقت الراهن.
أنتجت آخر انتخابات فلسطينية في العام 2006 انتصاراً صادماً لصالح «حماس» في غزة. كانت تلك النتيجة بمثابة احتجاج على فساد حركة «فتح» الحاكمة في الضفة الغربية. قد تشمل أي انتخابات جديدة تشارك فيها السلطة الفلسطينية التزامات بتجنّب العنف لمنع انتخاب الجماعات المتطرفة. لكن تبقى الانتخابات الديمقراطية غير متوقعة بطبيعتها، وقد تفرض على إسرائيل وشركائها احترام النتائج التي لا تحبّذها بالضرورة.
يضيف الجندي من معهد الشرق الأوسط: «لا يمكن هندسة السياسة من الخارج».
حين يوشك أي غزو بري إسرائيلي على توجيه ضربة مدمّرة لقادة «حماس» وجنود مشاتها ومخابئ أسلحتها، يظنّ عدد كبير من المحللين أن الحل الوحيد لمعالجة حاجة إسرائيل إلى الأمن وتحقيق آمال الفلسطينيين بتقرير مصيرهم على المدى الطويل يقضي بالسعي إلى فرض حل سياسي للصراع.
أكد الرئيس الأميركي جو بايدن، في كلامه مع الصحافيين الأسبوع الماضي، دعمه عقد اتفاق سلام ونشوء دولة فلسطينية. قبل هجوم «حماس» في 7 تشرين الأول، كانت معظم الآمال بعقد اتفاق مماثل قد تلاشت منذ فترة طويلة. في غضون ذلك، تراجع دعم حل الدولتَين وسط الإسرائيليين والفلسطينيين سريعاً في السنوات الأخيرة، لكن لا يزال الكثيرون يعتبرون هذا المسار الخيار الواقعي الوحيد لحل الصراع.
في النهاية، يقول أيالون، مدير «شاباك» السابق: «إنه المفهوم الوحيد أمامنا إذا أردنا أن تصبح دولة إسرائيل آمنة وألا نخسر هويتنا كديمقراطية يهودية، وإلا سننشئ دولة فصل عنصري ولن ننعم بالأمان يوماً».