ها قد بدأت الدوّامة نفسها مجدداً. بدأ الحزب الجمهوري، الذي يدعم السياسة الانعزالية منذ أكثر من قرن، يتذمّر من الالتزامات الأميركية الخارجية. قبل بدء الحرب الأخيرة بين حركة «حماس» وإسرائيل في 7 تشرين الأول، كان الحزب الجمهوري قد بدأ يتراجع عن دعمه أوكرانيا. وفي الفترة الأخيرة، أحدث رئيس مجلس النواب الجديد، مايك جونسون، شرخاً جديداً في المواقف عبر الإصرار على إرسال المساعدات إلى إسرائيل وحدها في هذه المرحلة، بينما يريد رئيس الأقلية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، متابعة تخصيص جزء من الميزانية لمساعدة أوكرانيا. لكن حتى ماكونيل يريد الآن أن يربط تلك الأموال بميزانيات جديدة لأمن الحدود الداخلية.
في المقابل، عبّر الديمقراطيون عن دعمٍ أقوى بكثير لطموحات الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يسعى إلى فرض قوة عسكرية على ثلاث جبهات دولية كبرى دفعةً واحدة: تقوية مكانة أوكرانيا في وجه روسيا، والحرب الإسرائيلية ضد «حماس»، ودفاع تايوان عن نفسها ضد الصين. لكن بدأ البعض يشكّك بالالتزامات الأميركية في الخارج وسط الديمقراطيين أيضاً.
تحمل هذه المعارك الجديدة في مبنى الكابيتول جذوراً قديمة جداً. في المراحل العصيبة، يلجأ الأميركيون دوماً إلى المقاربة الاعتيادية منذ حقبة الآباء المؤسسين، وهي تقضي بتجنّب التورّط في شؤون خارجية مفرطة. لكن من الإيجابي أن تحصل هذه النقاشات في الوقت الراهن على الأرجح. في ظلّ احتدام الحرب بين إسرائيل «وحماس» في الفترة الأخيرة، تجدّد التدخل الأميركي في الشؤون الخارجية. لكن تفتقر النقاشات الحاصلة في واشنطن حتى الآن إلى التماسك.
لم يكن هذا النوع من ردود الأفعال نتيجة حتمية للهيمنة الأميركية التي نشأت بعد الحرب الباردة، لكنه زاد شيوعاً بعد فشل إدارات أميركية متعاقبة، من الحزبَين الجمهوري والديمقراطي، في التعامل مع مختلف الملفات. جاء توسّع حلف الناتو المتهوّر باتجاه حدود روسيا وغزو العراق غير المبرّر ليضعفا القوة الأميركية كضامنة سلام جديرة بالثقة، فتشجّعت روسيا والصين على شقّ طريق خاص بهما.
في المرحلة اللاحقة، أدّى الغضب المحلي من طريقة تعامل النُخَب الأميركية الداعمة للتعاون الدولي مع هذا الدور إلى نشوء النزعة الشعبوية القومية التي لوّح بها دونالد ترامب. سعى ترامب، بأساليبه الصارمة، إلى إعادة تعريف معنى الهيمنة الأميركية، فطالب مثلاً بأن يدفع الحلفاء في الناتو ثمن المظلة الدفاعية الأميركية التي سمحت لهم بإنفاق المال على دول الرفاهية في بلدانهم. كما أنه حرّض الكثيرين حين تجرّأ على التساؤل حول السبب الذي يجعل الولايات المتحدة تكتفي بالحفاظ على نظام نشأ في الأصل للتصدّي لمجموعة تهديدات لم تعد موجودة، بدءاً من الفاشية وصولاً إلى التوتاليتارية الشيوعية. مهما كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحشياً، فمن الواضح أنه يدير قوة من الدرجة الثانية (ولو أنها مسلّحة نووياً)، ولا تبدو دولته قريبة بأي شكل من النطاق العالمي الذي استحوذ عليه الاتحاد السوفياتي سابقاً، ما يعني أنها لا تطرح النوع نفسه من التهديدات.
بعد عهد ترامب، لم يحصل أي نقاش جدّي حول صوابية استمرار هذه المقاربة، مع أن الحصة الأميركية من الإنفاق الدفاعي في العالم بلغت 39% من المجموع العالمي، تزامناً مع تراجع حجم الاقتصاد الأميركي إلى أقلّ من ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي. مع ذلك، تستمرّ النقاشات القديمة والمبسّطة التي تقارن بين الالتزامات العالمية والسياسة الانعزالية.
كتب جورج ف. ويل، في مقالة نشرها يوم الأربعاء الماضي في صحيفة «واشنطن بوست»، أن «الإجماع الأميركي حول الدور العالمي لهذا البلد بعد الحرب العالمية الثانية بدأ يضعف بسبب المشاعر الانعزالية التي تشبه تلك التي طغت على البلد قبيل هجوم «بيرل هاربر». لا شكّ في أن المسؤولين الباردين في موسكو وبكين يشعرون بالسرور والدهشة حين يشاهدون الشعبويين الأميركيين وهم يُعبّرون عن تعبهم من الحروب في بلدٍ لا يسفك أي دماء وينفق مبالغ زهيدة من ثروته».
عملياً، تحمل نزعة السأم من الحرب جذوراً أعمق بكثير: كانت الولايات المتحدة دولة انعزالية منذ تأسيسها، ولطالما حرصت على تجنّب الانجرار إلى حروب خارجية. حتى أن دورها المرتبط بقيادة العالم بعد الحرب، وهو دور اعتاده الجميع منذ ثمانية عقود تقريباً، يُعتبر استثناءً على القاعدة عند مقارنته بكامل تاريخ البلد.
يشتق انتقاد ترامب حلفَ الناتو من رغبة أميركية دفينة في «تجنّب التحالفات الدائمة مع أي جزء من العالم الخارجي»، كما قال جورج واشنطن في دعوته التاريخية إلى عزل البلد، خلال خطاب الوداع في العام 1796. كان العالِم السياسي ستيفن فيرتهايم من «مؤسسة كارنيغي» محقاً حين قال إن «الانعزالية» مفهوم سلبي اخترعه مؤيّدو التعاون الدولي لإحراج مناصري شعار «أميركا أولاً» ودفعهم إلى التزام الصمت. هو يظنّ أيضاً أن الولايات المتحدة لطالما سعت إلى القيام ببعض الالتزامات في الخارج، عبر التجارة على الأقل. لكن لا يُحدِث هذا النهج فرقاً كبيراً: من وجهة نظر واشنطن، لطالما كان الحفاظ على موقف منفصل وبعيد عن الصراعات جزءاً من الحمض النووي الأميركي. لهذا السبب، لا يتخلى الأميركيون عن هذا الأسلوب إلا إذا وقعت كارثة مريعة.
كان العدوان النازي والياباني قبيل الحرب العالمية الثانية جزءاً من تلك الكوارث. يتعلق مثال آخر بهجوم 11 أيلول. اليوم، قد تُمهّد المقاربات المعتمدة لنشوء كارثة أخرى من هذا النوع، فتزيد المجازفات المطروحة في ثلاث مناطق أساسية من العالم.
مع ذلك، لم يطلق الأميركيون أي نقاش استراتيجي حقيقي حول ما تفعله واشنطن أو ما تخطط له على المدى الطويل. عندما ألقى بايدن خطابه في 19 تشرين الأول، بدا وكأنه لا يعرف ما تخطط له إسرائيل، باستثناء «تدمير حماس». لكن أنتجت تلك الحملة العسكرية ردود أفعال قوية محلياً وخارجياً، بما في ذلك داخل حزبه. كذلك، لم تُلمِح إدارة بايدن في تصريحاتها إلى نهاية الحرب في أوكرانيا، مع أن القائد الأوكراني العام فاليري زالوزني اعترف لصحيفة «إيكونوميست» هذا الأسبوع بأن الحرب وصلت إلى «طريق مسدود» و»لن تتحقق على الأرجح أي إنجازات عميقة وإيجابية».
تعليقاً على الموضوع، ينفي تشارلز كوبشان، عالِم سياسي من جامعة «جورج تاون» ومسؤول سابق في مجلس الأمن القومي، وجود أي خيار بديل لطريقة تعامل بايدن الأولية مع روسيا والصين معاً. هو قال في إحدى المقابلات: «لن تتمكن أوروبا وحدها من التعامل مع الأحداث المتلاحقة في أوكرانيا، وتحتاج منطقة المحيطَين الهندي والهادئ إلى وجود أميركي قوي ومشاركة أميركية مستقرة. كذلك، أبلى بايدن حسناً حتى الآن في هاتين المنطقتَين، وفي الشرق الأوسط أيضاً، عبر إبقاء معظم القوات الأميركية بعيدة عن المخاطر والسماح لحلفاء الولايات المتحدة وشركائها بخوض القتال».
لكن يتعلق مصدر قلق آخر برأي كوبشان بإصرار بايدن على التحرك بما يناسب العالم الغابر، لا العالم المرتقب، حين يتكلم عن الولايات المتحدة باعتبارها «دولة لا غنى عنها»: استعملت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت هذه العبارة المثيرة للجدل في أواخر التسعينات. كانت الولايات المتحدة في التسعينات قوة مُهيمِنة لا مثيل لها. لكن لم يعد الوضع كذلك في العام 2023. تحوّل العالم اليوم إلى مكان تتوزع فيه السلطة سريعاً.
لكن يضيف كوبشان: «من خلال استعمال جزء بسيط من ميزانية الدفاع السنوية، ساعدنا أوكرانيا على إضعاف الجيش الروسي. الوضع جيد حتى الآن. لكن يبدأ التخبّط الحقيقي حين نتساءل عمّا يحصل راهناً. حان الوقت برأيي للانتقال إلى استراتيجية بديلة لا تُركّز على انتصار أوكرانيا بقدر ما تنشغل بمحاولة منع تصعيد الوضع، ووقف عمليات القتل، وكبح استنزاف الموارد التي تتعارض مع القيود المفروضة على مخازننا. لا أرى حتى الآن بداية أي خطة احتياطية».
ستبرز الحاجة إلى خطة مماثلة قريباً، لا سيما مع اقتراب بايدن من سنة انتخابية جديدة. يكشف استطلاع جديد أجراه مركز «غالوب» أن الأميركيين أصبحوا أكثر ميلاً إلى اعتبار الجهود الأميركية الرامية إلى مساعدة أوكرانيا «مفرطة»، وقد تضاعفت أعداد هذه الفئة من الناس منذ شهر حزيران. بدأت شكوك مماثلة تظهر بشأن المساعدات غير المحدودة التي تتلقاها إسرائيل. يقول كوبشان: «أظن أن إدارة بايدن استخفّت بالزخم الذي يكسبه خطاب «أميركا أولاً».
الأهم من ذلك هو أن الرئيس الأميركي أدرك أن متابعة المواجهة المتفاقمة مع الصين بدأت تزداد كلفة وخطورة. حتى أن الرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي يواجه ركوداً اقتصادياً حاداً في بلده، أدرك الواقع نفسه على ما يبدو.
في النهاية، يقول كوبشان: «تتعامل الحكومتان الأميركية والصينية مع نقاط ضعف مشتركة، ما قد يطلق دوّامة أمنية أو يسمح بمنع تصعيد الوضع. لا نعرف بعد الخيار الأقرب إلى الواقع. لكني أشعر بارتياح كبير لأن واشنطن تبدو مُصرّة على محاولة تجنّب الأسوأ».