محمد عبيد

الغرب وصناعة الكراهية

9 تشرين الثاني 2023

02 : 00

ميسرة الريس

ميسرة الريس، حامل شهادة الماجستير في طب «صحة الأم والطفل»، هو واحد من شهداء غزة، قضى هو وعائلته بالكامل مساء الأحد الماضي ولم يتم رفع جثامينهم من تحت ركام منزلهم حتى كتابة هذا المقال.

شاءت الصدف أن يكون الشهيد ميسرة زميلاً لإبنتي ديمة في جامعة King`s College بعد حصوله كما هي وقِلة آخرين من دول عربية مختلفة على منحة دراسية من مؤسسة Chevening التابعة للحكومة البريطانية.

ميسرة كما أترابه من الفلسطينيين «الغزاويين» كانوا يبحثون عن غدٍ يحمل معه أملاً بحياة كريمة أساسها الحرية والإستقلال. لذلك إقتنص ميسرة أول فرصة وفرتها له هذه المؤسسة البريطانية العريقة التي إعتادت أن تشترط على طلابها العودة إلى بلادهم والعمل هناك لسنتين على الأقل، وذلك بهدف حثهم على مساعدة مجتمعاتهم على النهوض والتطور والإزدهار.

من المؤكد أنّ ميسرة قبل استشهاده نتيجة قصف جيش العدو الإسرائيلي منزله في غزة، شاهد على شاشات التلفزة رئيس الحكومة البريطانية ريشي سوناك، الحكومة التي وفرت له تلك المنحة الدراسية، شاهده وهو يهبط في مطار «تل أبيب» بطائرة عسكرية محملة بالعتاد والأسلحة الفتاكة هدية مجانية من تلك الحكومة إلى هذا الجيش المُجرم!

تُرى ماذا فكر ميسرة حينها؟ هل تساءل كيف يمكن لبلد منحني فرصة عِلمٍ وحُلم بحياة مختلفة أن تهدي حكومة هذا البلد جيشاً محتلاً لأرضي وسمائي وبحري سلاحاً لقتلي؟! وإذا كانت تريدني قتيلاً فلمَ أحيت في روحي الأمل بالمستقبل؟!

إستُشهد ميسرة هو وأهله جميعاً، إحتضنهم الركام وأشياء منزلهم التي تناثرت أشلاء كأشلائهم، وبقينا نحن لنروي قصتهم وقصص آخرين أمثالهم من الغزاويين الأحرار، بقينا نَجترُ الحزن خلف الحزن، ويتآكلنا الغضب حتى نبلغ التحدي، وتعتمل في نفوسنا الكراهية لأنظمةٍ ادعت يوماً أنّها النموذج الذي يجب أن يُحتذى به كي ننعم بالمدنية ونهنأ بالحضارة!

بعد غزة

قصة ميسرة ومثيلاتها الكثير الكثير تدفعنا إلى طرح السؤال الأهم: بعد غزة، هل يمكن أن نرى العالم الغربي بمعظمه وبالأخص منه الولايات المتحدة الأميركية بأعيننا مثلما كنا نراه ما قبل غزة؟

قبل غزة كانت الصراعات في منطقتنا وحولها تتخذ طابعاً سياسياً شبه تقليدي، إنطلاقاً من معادلة أنّ الجغرافيا السياسية لهذه المنطقة تتسع للجميع، وعلى أساس أنّ موازين القوى لا تؤدي إلى غلبة ناجزة أو مستدامة لأي من اللاعبين فيها أكانوا إقليميين أو دوليين، ذلك أنّ نتائج الحروب المتنقلة التي عاشتها المنطقة في العقدين الأخيرين لم تفضِ إلى رسم خارطة نفوذ ثابتة تؤمن إستقراراً ولو مؤقتاً.

مع غزة ومن خلالها تسعى الإدارة الأميركية وحلفاؤها إلى فرض نفوذهم وفق منطق التهديد بإستعمال أحدث أنواع الأسلحة المدمرة ضد أي دولة أو جهة مقاومة تعمل على نصرة الشعب الفلسطيني، كذلك عبر الإيغال في الإجرام بحيث يرى المندفع لمواجهة العدوان الأميركي الإسرائيلي بأم عينه شبيه مصيره المحتوم، وهو أسلوب يشترك فيه الأميركي والإسرائيلي مع «داعش»، وترافق ذلك مع حملة سياسية إعلامية عالمية لتبرير ذلك الإجرام بحق الفلسطينيين، إضافة إلى إجراءات قانونية وإدارية صارمة طاولت جميع مؤسسات الرأي العام في دول الغرب بهدف منع أي حراك مهما كان حجمه يمكن أن يلجم فعلاً هذا الجنون الأميركي والغربي عموماً الذي يمنح الإسرائيلي ترخيصاً بل تفويضاً بإبادة غزة!

حتى أنّ هذه الحملة العدوانية الشاملة عطّلت قدرات قوى «عظمى»، يبدو أنّها لم تكن عظمى فعلاً، على منع أو على الأقل مواجهة أفظع جريمة يشهدها عصرنا الحالي، وبالتالي تكريس مقولة «عالم القطب الواحد» بعد تقهقر الدب الروسي والتنين الصيني والعملاق الهندي... ومنظمة «البريكس» وكافة التكتلات التي أوهمت الشعوب أننا دخلنا عصر «عالم متعدد الأقطاب»! ما يعني أنّ هؤلاء جميعاً شركاء في تلك الجريمة شاؤوا ذلك أم لا. ولا حاجة للإشارة إلى العرب والمسلمين كمعنيين بالإنضمام إلى إخوتهم الفلسطينيين في التصدي لهذه الحرب الكونية عليهم، لأنهم أي العرب والمسلمين بمعظمهم يرغبون في التخلص من عبء القضية الفلسطينية وتداعياتها عليهم باعتبارها وفق منطق أنظمتهم، باتت عائقاً أساسياً أمام استغراق هذه الأنظمة في التبعية المطلقة لسياسات الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة.

الميدان هو الفيصل

وبعيداً عن الخلاصات السياسية المحتملة والتي لا يمكن التكهن بها قبل وقف العدوان على غزة، ذلك أن الميدان هو الفيصل الذي سيحدد نوعية هذه الخلاصات وبالتالي التوازنات الجديدة في المنطقة، يمكن الحديث عن أمرين جوهريين في مسار القضية الفلسطينية فرضهما إنتصار المقاومة في السابع من تشرين ويكرسهما يومياً الشعب الفلسطيني في غزة من خلال صموده الجبار، وهما:

الأول، إنّ الفلسطينيين المقاومين كانوا قد صُنِفوا كجزءٍ من محور المقاومة، وبالتالي تمّ إعتبارهم وفق المنطق السياسي الغربي والعربي في دائرة قرار القيادة الإيرانية، أحد «الأذرع» التي توظفها تلك القيادة ضمن منظومة التجاذب المفترضة مع واشنطن أو الرياض أو غيرها من العواصم المشتبكة مع طهران. ولذلك كانت تنشر وتُبث تحليلات كثيرة حول أنّ التسوية التي كانت محتملة بين العاصمتين الأميركية والإيرانية ستؤدي حكماً إلى إطفاء شعلة المقاومة الفلسطينية وإنتفاضاتها الدائمة، مع العلم أنّ المواقف الإيرانية العلنية والتي كان يتم إبلاغها للمفاوضين الأميركيين كانت تؤكد دوماً على أنّ المحادثات المباشرة أو بالواسطة التي كان تدور بين الطرفين لم ولن تطال الملفات الإقليمية أياً كان نوعها. ولذلك حين أعلن مرشد الجمهورية السيد علي الخامنئي ومن بعده الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله عدم معرفتهما المسبقة بعملية 7 تشرين العسكرية أثارا الكثير من الجدل والتساؤلات حول هذين الإعلانين، وحدها الإدارة الأميركية أرادت تصديق ذلك والتأكيد عليه لأنّها سعت وما زالت تسعى حتى اليوم إلى عدم إتساع رقعة مواجهة العدوان الأميركي الإسرائيلي على غزة.

لذا يمكن القول بل التأكيد أنّ العملية البطولية التي قامت بها المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين هي من صناعة وتخطيط وتدبير وتنفيذ الفلسطينيين وحدهم، وبالتالي لم يعد بإمكان الغرب والعرب معاً تجاوز الإرادة الفلسطينية الخالصة في إدارة نضالها من أجل تحرير فلسطين بعيداً عن أيّ إصطفافات إقليمية أو دولية تبعدهم عن هذا الهدف النبيل. وهذا ما دفع الماكينة السياسية - الإعلامية الأميركية - الإسرائيلية المشتركة إلى إبتداع فكرة الخلط بين «حماس» و»داعش»، بناء على الإنتماء المذهبي الواحد للحالتين وبعدما تمت فبركة صور وأفلام كاذبة تشابه بين الفظائع التي ارتكبها «داعش» وبين التصرفات «الإجرامية» التي قامت بها «حماس» كما إدعى قادة كيان العدو وصدقت روايتهم دوائر القرار السياسي الغربي المتآمرة أو الغبية.

الثاني، إنّ الفلسطينيين جهدوا على مدى عقود من الزمن ليقنعوا شعوب العالم ومؤسسات الرأي العام العالمية أنّهم هم أصحاب الأرض الأصليين وهم المعتدى عليهم، وأنّ نضالهم لإستعادة وطنهم أو على الأقل بعضاً منه مشروع وفق القوانين والمواثيق الدولية المعتمدة في مثل هذه الحالات، والأهم أن الكراهية التي يختزوننها مع مناصريهم من بعض شعوب المنطقة هي حصراً موجهة ضد الحكومات الغربية وغير الغربية التي تناصر إسرائيل بحقد وعمى، ولم تكن تهدف يوماً إلى أذية شعوب تلك الحكومات أو هز أمنها واستقرارها، على عكس ما كان وما زال يصوره الإعلام الممسوك من تلك الحكومات.

نسف العناوين الرنانة

هذه الحكومات وفي مقدمها الإدارات الأميركية المتعاقبة التي كانت تسعى إلى تجاوز المعنى الإنساني للقضية الفلسطينية قبل السياسي، وذلك من خلال القفز فوق حقوق الشعب الفلسطيني والدفع بإتجاه إبتداع عناوين رنانة مثل «السلام الإبراهيمي» أو «التطبيع الإقتصادي والإجتماعي» اللذين سيساهمان بطمأنة الإسرائيلي بحيث يقبل بتسوية ما شعارها «حل الدولتين» ومضمونها بضع بلديات ممزقة يتم تحميل ما تبقى من «السلطة الفلسطينية» مسؤولية إدراتها.

فكان طبيعياً أن يأتي يوم السابع من تشرين ليعيد نسف تلك العناوين كافة، بعدما بلغ الإختناق في غزة والضفة الغربية والقدس حداً جعل منها جميعاً سجناً كبيراً يحكمه الجلادون الإسرائيليون بصلف وإجرام.

وعلى الرغم من الآلام والجراح التي يعيشها الشعب الفلسطيني في غزة والضفة اليوم بفعل الإجرام الأميركي- الإسرائيلي، والتي نواكبه فيها دمعاً وغضباً، فإنّ فكرة المقاومة التي تترسخ في عقول وقلوب الأجيال الفلسطينية والعربية وغير العربية نصيرة فلسطين، ستستولد من تلك الآلام والجراح إنتفاضات مماثلة للسابع من تشرين. مع غزة وبعدها، هل ما زال يصح أن يسألنا بعض حكام الغرب وحلفاؤهم هنا وهناك: لماذا تكرهوننا؟!

(*) سياسي لبناني


MISS 3