العقل العربي «الثوري» منكوب بثلاثة أمراض. صار نوعاً من البداهة، في نظره، القول إن الغرب هو مصدر الشر. الرأسمالية المتوحشة، النازية، الاستعمار، الناهب الأممي، العنصرية والصهيونية، كلها ذات منشأ واحد وتنتمي إلى عائلة الشيطان الأكبر. لم تعلمه التجارب بعد أن تصنيف المخاطر بحسب درجاتها ينبغي أن يبدأ بأشدها أي بالاستبداد، فهو رابض على العقول قبل الصهيونية.
هذه البداهة تجعل أهل المواجهة يرصون الصفوف خلف حركات التحرر الوطني ضد مصدر الشر وضد أصدقائه أيضاً على قاعدة- أعداؤك ثلاثة، من بينهم صديق عدوك- ويسمونهم عملاء. موقف يريح الأنظمة لأنّه يعفيها من معظم الغضب المتجه غرباً، فلا تصاب إلا ببعض شظاياه.
المرض الثاني يصيب العقل السياسي العربي عموماً وليس الثوري منه فحسب. مع النكبة، رفض العرب تقسيم فلسطين. بعد ثلاثين عاماً وافقت منظمة التحرير على أقل من التقسيم، أي على الإقامة على أي شبر يحرر من أرض فلسطين؛ في مؤتمر بيروت اقترحوا حل الدولتين، أي أنهم وافقوا على ما كانوا قد رفضوه. في مؤتمر الخرطوم خرجت القمة العربية بعد النكسة بثلاث لاءات. لا اعتراف، لا صلح، لا مفاوضات. بعد ثلاثين عاماً تمّ الاعتراف وأبرمت اتفاقات الصلح بعد مفاوضات.
هذا يعني أنّ العقل السياسي العربي لا يحسن التمييز بين التكتيك والستراتيجيا، ويميل إلى خوض المعارك إمّا من دون تدقيق بموازين القوى أو بناء على حسابات مغلوطة، ويرسم مستقبله عن طريق الاستخارة أو التنجيم. يستثنى من هذه الأحكام القاسية عبور الجيش المصري قناة السويس ودخول ياسر عرفات إلى رام الله ومقاومة الاحتلال في لبنان، فضلاً عن صمود الشعب الفلسطيني وتضحياته الخارقة وبطولات مشهودة حين يتعلق الأمر بالنخوة والحماسة ومواجهات السلاح الأبيض.
الجهل هو المرض الأخطر. بدل الذهاب إلى تفسير أسباب الهزائم نسارع إلى التخوين لتبريرها. كيف يمكن أن تحرز نصراً إن لم تعرف عدوك. في أنظمة الاستبداد تنشغل الأجهزة بملاحقة المعارضة أكثر من انشغالها بمعرفة أسرار العدو. انتظرناهم من الشرق فأتونا من الغرب. هذا أبلغ تعبير عن ذلك. هل قدّرت «حماس» كيف ستكون ردة الفعل على عمليتها البطولية؟
بمقدار ما كانت إسرائيل مشروعاً صهيونياً، كانت في الوقت ذاته تعبيراً عن حاجة الدول الرأسمالية الكبرى (الغرب) لحل المشكلة اليهودية، إذ كان اليهودي مكروهاً في كل بلدان أوروبا. بعد انهيار االثنائية القطبية وحرب الخليج الأولى صارت إسرائيل حاجة غربية أولاً لحماية مشروع الشرق الأوسط الجديد، لكن المواجهة استمرت كأن شيئاً لم يتبدل في وقائع الصراع.
رغم كل النكبات، ما زلنا نستغرب جرائم الصهيونية، كأننا نواجهها للمرة الأولى، أو كأن هدفنا تقديم الأدلة، فنرفع صور الأشلاء والدمار ونحصي الضحايا. لو كنا نعرف عدونا جيداً لما بددنا جهدنا على الاستغراب ولا كنا اعتدنا على انتظار الخطاب الرئاسي من عبد الناصر حتى حسن نصرالله لنعرف كيف سيكون الرد.
علاقتنا بالغرب نتاج جهلنا قيم الحضارة الرأسمالية. استغربنا التضامن العالمي مع إسرائيل ولم تلفت أنظارنا مظاهرات بمئات الآلاف في عواصم السبع الكبار أو بعشرات الآلاف من اليهود في نيويورك بالذات تضامناً مع القضية الفلسطينية.
عملية «حماس» بطولية بلا شك. لكنها أقرب إلى الحرب منها إلى المقاومة. الرأي العام مع المقاومة لا مع الحرب، مع الضحية ضد المعتدي. الرأي العام يصنع حكومات الغرب وعندنا تصنعه الحكومات.
ثوراتنا نسخة عن نظام الحزب الواحد، تربي جمهورها على الاستبداد وتعادي الديمقراطية. هي عدو ما تجهل أو تتجاهل.