قد نمضي ساعات طويلة ونحن نتصفح الإنترنت من دون أن نعثر على أي مقابلة مع إيفون ديغول. قد تبدو هذه المعلومة غريبة للوهلة الأولى، لكنّ الفرنسيين لم يسمعوا أصلاً صوت أول «سيّدة أولى» في الجمهورية الفرنسية الخامسة. لم تقم هذه المرأة بأي حوار صحافي مكتوب طوال حياتها. مع ذلك، وقع الفرنسيون في حب تلك السيدة الصامتة القديرة، فكانوا يشاهدون ظلّها أحياناً إلى جانب الجنرال العظيم. كان يستحيل إقامة أي محادثة معها خلال المناسبات النادرة التي تضطر لحضورها. توفيت إيفون بعد تسع سنوات على وفاة زوجها، فحرصت على حرق ملابسه في اليوم الذي تلا وفاته منعاً لاستعمالها كرفات مقدسة. لطالما شكّلا ثنائياً موحداً وكتوماً لا يمكن تدميره.
قرر جان لوك باريه، كاتب سيرة فرانسوا مورياك، أن يقبل تحدياً شائكاً، فخصّص ثلاثة مجلدات لبطل الحرب العالمية الثانية، وراح يمجّد ذلك الرجل العظيم مجدداً على مر 3 آلاف صفحة. يحمل المجلّد الأول عنوان L’homme de Personne (ليس رجل أحد)، وهو يتمحور حول طفولة الزعيم الفرنسي، وجذوره العائلية والجغرافية، وتحصيله العلمي، وبداية مسيرته كضابط، وقوة تصميمه شبه الفطرية، وعلاقته مع تشرشل، وأخيراً اللقاء الذي جمعه مع إيفون فاندرو التي تصغره بعشر سنوات.
كانت عائلة فاندرو ميسورة ومستقرة وتتمتع بسمعة جيدة. أما عائلة ديغول، فكانت مثقفة ومتماسكة رغم افتقارها إلى المال. تشاركت العائلتان شكلاً متقارباً من فن العيش. كانت الشابة إيفون قد أعلنت يوماً أنها لن تتزوج من عسكري لأي سبب، لكن دائماً ما يذهب الكلام أدراج الرياح... في تشرين الأول 1920، التقى الثنائي بطريقة غير متوقعة في صالون باريسي، فراحا يتكلمان عن مختلف المواضيع. وبعد مرور بضعة أيام، دعا شارل إيفون لحضور حفل تقيمه مدرسة «سان سير» العسكرية. كانت أناقة الضابط ديغول وتميّزه وسط الحضور كافيَين لتسهيل ما سيحصل لاحقاً. أقام الشابان خطوبتهما في 11 تشرين الثاني، ثم تزوجا في 6 نيسان 1921، في كنيسة «نوتردام دو كاليه» التي كانت جزءاً من إقطاعية عائلة فاندرو. أبصر ابنهما الأكبر، فيليب، النور في 28 كانون الأول 1921. كان ليبلغ إذاً 102 في نهاية هذه السنة.
مرّ ما يقارب 13 شهراً بين لقائهما وولادة فيليب. حملت قصتهما أجواءً رومانسية أنغلوسكسونية من بطولة أهم شخصَين في فرنسا! لن نعرف معلومات كثيرة عن المرحلة اللاحقة من حياتهما. كانت إيفون زوجة وأماً متفانية لا تبحث عن الشهرة والأضواء والتكريم، وقد تعاملت مع خيبات السنوات الأولى بتماسك فائق: وُلِدت ابنتهما آن وهي مصابة بمتلازمة داون، واتخذ أصحاب المناصب العسكرية العليا موقفاً حذراً من ديغول خلال وقتٍ قصير، ثم بدأت مرحلة الهرب إلى إنكلترا وسنوات المنفى والحياة الكئيبة في لندن، تلتها أيام لا تُعتبر أفضل منها بكثير في الجزائر. في هذه المرحلة، كان زوجها شبه غائب في معظم الأوقات وحُكِم عليه بالموت في نهاية المطاف! يختصر جان لوك باريه هذه المراحل بعبارة واحدة: «كان الإعجاب الذي تكنّه إيفون ديغول لزوجها واقتناعها الراسخ بمشاركة مصيرها مع شخص استثنائي كافيَين كي تقرر مرافقته بلا تردد في مغامرة لم تحاول ثنيه عنها».
لكن هل تلبّدت سماء هذا الحب المشرق بسبب إليزابيث دو ميريبل، سكرتيرة الجنرال في لندن؟ لا يقدّم كاتب السيرة جواباً قاطعاً على هذا السؤال، بل إنه يكتب بكل بساطة أن تلك الشابة التي أسرت ديغول غادرت العاصمة الإنكليزية سريعاً لأداء مهمّة طويلة في كندا. لا يزال هذا اللغز عالقاً حتى الآن. قد نحاول حلّه بفضل المجلّدَين المتبقيَين من هذه السيرة. من المتوقع أن يصدرا في العام 2024.