عيسى مخلوف

عقل العويط و"كُوبر" في مَهَبّ لبنان

18 تشرين الثاني 2023

02 : 00

يكتب عقل العويط عن نفسه حين يكتب عن كُوبر، حيوانه الأليف، بل «الصديق والأخ والتوأَم»، وفقَ تعبيره. يكتب عن شعبه ووطنه، وعن مشاعره ونظرته إلى الحبّ والحياة والعالم. وهذا ما يكشف عنه كتابه «السيّد كوبر وتابعُه»، الصادر حديثاً عن دار نوفل. في خلفيّة هذه السيرة المتعدّدة الأبعاد، المكتوبة بلُغة متأنّية أنيقة، يرصد الكاتب الأثر الذي يتركه تَحلُّل بلده في النفس والجسد على السواء، وكذلك تفكُّك العالم من حوله.

من جهة أخرى يأتي عقل العويط، جريئاً، متدفّقاً وجامحاً، وهو يبوح ويعترف، أمام كلب يحتلّ في خطابه الموقع الذي يستحقّ، لا الصورة السائدة في مجتمعاتنا للكلاب، خصوصاً بعدما أكّدت الأبحاث العلميّة الحديثة أنّ للحيوانات عاطفةً وأحاسيس وطاقاتٍ على الحبّ. والحبّ، هنا، لا يمكن أن يتبدّل، بين لحظة وأخرى، كما يتبدّل على غفلة منّا في حياتنا نحن البشر.

في كتابه الجديد، يلتفت عقل العويط إلى ذاته انطلاقاً من علاقته بآخر غير بشريّ. ينظر إلى نفسه من خلال كوبر وفي مرايا عينيه المشعّتين ببريق مُلغز ونادر. وهو يعثر فيهما على عمق «قد لا نعثر عليه في النظرة الإنسانيّة نفسها». في ذلك العمق، يتراءى له لغز الطبيعة والكون. وعيُ هذه الحقيقة، جعلَ عقل يطلب من صديقه كُوبر أن يغفر له ما كتبه ذات يوم تحت عنوان: «عيشة كلاب وميتة كلاب في جمهورية المواطنين – الكلاب». كيف لا يعتذر منه وقد تلمّس، وهو برفقته سنوات، شعريّته المذهلة التي لا تحتاج إلى كلمات لتعبّر عن نفسها؟ وهذا ما دفع الشاعر إلى القول إنّ «الكتابة الشعرية لا شيء حيال هذا الصمت الهائل»!

هذا ما يفعله عقل العويط: إعلاء شأن الحيوانات الأليفة المُسالمة وتمايُزها من حيث تكوينها وبرنامجها الجينيّ عن الإنسان الذي يمضي حياته في حرب دائمة مع ذاته ومع الآخرين، فضلاً عن حروب لا تنتهي بين الشعوب، وهي التي طبعت بطابعها الخاصّ الحضارات الإنسانيّة بأكملها. لقد لاحظ أحد علماء الأنتروبولوجيا أنّ الإنسان قد يكون بنى السجون ليسجنَ فيها شبيهه، قبل أن يبني حظائر مخصًّصة للحيوانات... محدودٌ هو عنف الحيوان المُبرمَجة طاقاته سلفاً، لكنّ العنف الذي يعتمل في قلب الإنسان فهو بلا حدود. الكراهية والاستبداد مرض العالم. لننظر قليلاً حولنا ونرى، كما رأى الذين روَّعهم ما رأوا منذ بداية التاريخ! أكثر الحيوانات عنفاً يجوع ويصطاد ويشبع، أمّا الإنسان الجشِع فلا يشبع فيما تعاني نسبة كبيرة من البشر من الجوع!

يلتفت عقل العويط في كتابه إلى الحبّ، عبر تجربته الذاتيّة. الحبّ الذي يُلئم الصَّدع الموجود فينا منذ ما قبل الولادة، ويُعمّقه في الوقت نفسه، كما لو أنّ الحمامة البيضاء تخفي شفرة جارحة تحت جناحها. في حديثه عن الحبّ، يعزف الشاعر، على كلماتٍ وحروفٍ، لحنَ الكمنجات الحزينة. إنه الحبّ المعقود بين عاشق ومعشوق، بين المأساة والملهاة، لأنّ العاشق خميرةُ الحبّ وقدّيسه، لا المعشوق. لكنّ العاشق الذي يَهِب نفسه ينتهي مُعلَّقاً على خشبة. سرٌّ هي أيضاً هذه العلاقة، هذا الوجه الذي يلتقي فيه وجها جانوس: «مرتع الحياة» و»مرتع الموت». يزداد الغموض حوله في مقدار ما نتحدّث عنه، وهل في الإمكان أن نفسّر بتلات الوردة المضمومة على نفسها كأيادٍ ضارعة؟

من زمان، أُتابع عقل العويط، شاعراً وإنساناً، بل صاحب نزعة إنسانيّة يصعب الحفاظ عليها في زمن النَّهش هذا. كتاباته السياسيّة صورة ليأسه ولروحه المكلومة في بلد يعيش أزمة وجودية هي الأعمق في تاريخه. في تلك الكتابات، يبدو الكاتب تائهاً يصرخ في الليل كأنّما ليطمئنه صراخه بأنه ليس وحيداً. أمّا في شعره، فيتّسع الفضاء خارج الوطن الصغير، وينفتح على كينونة الإنسان والعالم.

كتاب «السيّد كوبر وتابعُه» كتابٌ نثريّ شعريّ إنسانيّ بامتياز. ريشة تعلو وتهبط، مشيرةً إلى الخراب والدم والموت، لكنّها أيضاً بارقة أمل في قلب اليأس، ودعوة إلى مصالحة الإنسان مع نفسه ومع الطبيعة وكائناتها. هذا الكتاب هو إحدى أجمل قصائد عقل العويط، القصائد التي كتبها بالكلمات، وتلك التي عبَّر عنها بطريقته في الحبّ الأكثر عمقاً، وفي عَطايا روحه الأبلغ تعبيراً.


MISS 3