حسان الزين

الشجاعة في ظلّ محورين

18 تشرين الثاني 2023

02 : 00

تتّجه هذه المنطقة من العالم نحو الانقسام إلى محورين. وثمّة استعدادٌ شعبي- جماهيري لهذا الوضع الذي، إذا ما تُرِكَ، سيهدّد الدول والمجتمعات والثقافة، وخصوصاً العقل والإنسان، وسيأسر الحرية.

معالم هذه الجاهزية للانقسام والانحدار ظاهرة للعيان في المساحات العامّة، في الإعلام ومواقع التواصل، في التشكيلات السياسية والاجتماعية وخطاباتها وممارساتها، في العلاقات الإنسانية، في كلِّ مكان.

فالمواقف التي تُطلَق يميناً ويساراً، سواء أكان في الشأن العالمي أم الإقليمي أم المحلي، غالباً ما هي ردود أفعال وتأثّرات بمنقول من هنا وخبر من هناك وخطاب من هنالك. مواقف هي غالباً مكرّرة، متناسلة، متناسخة، مجمّعة على عجل بلا فحص وتحليل، تستجيب لحكم مسبق أو لأمر يخصّ مكررها، تنسجم مع ميله أو انتمائه، أو تطابق موقف جماعته وزعيمه ومربط خيله. مواقف هي غالباً ضدّية تولد وتنتشر على نحو ميكانيكي أو أوتوماتيكي في أفضل الأحوال. مواقف أشبه ما تكون ثرثرة.

والشعراء يتبعهم الغاوون.

ومشهد الاستجابات الجماهيرية لهذا الانقسام، وتلك المواقف، سواء عُبِّر عن ذلك جماعياً أم فرديّاً بحسب الحدث والوسيلة، قائم لا لبس فيه. جماعات بأمّها وأبيها تنطق بقول واحد. جماعات بشبابها وشيبها تعدّل منطوقها الذي كرّرته طويلاً، بأشكال متعددة، تحت تأثير القائد. القائد إن حكى.

أمام هذا، وفي ظلّه الجاثم القاتم، يُسأل عن العقل.

المواقف تحاصرنا. المواقف قبل العقل. وكأن العقل، الآن، أداة لاستعمالات خاصّة، ليس إلا. وكأنه الآن أداة للتذاكي، لا للذكاء.

العقل، الآن هنا، بل السؤال عنه، هو الشجاعة. شجاعة ألاّ يقع صاحب العقل، وكل إنسان كذلك، في التكرار والتماثل. الشجاعة التي هي مواجهة أزمة الزمن الراهن وانغلاق أيديولوجياته وتعطيلها العقل. الشجاعة التي لا تعني البطولة ببعدها العام بل فعل الذات ومجالها الحيوي: تشغيل العقل. تشغيل العقل، أو التفكير، في ما نتلقّاه، وهو كثير، كثيف، مقنّع ومكشوف.

وسط هذا، الصورة الآن: محوران فقط لا غير. هذا ما يبدو حتّى اللحظة. محوران إقليميّان ودوليّان، وهما باختصار: المقاومة أو الممانعة بقيادة إيران، والسلام أو التطبيع مع إسرائيل بقيادة الولايات المتّحدة الأميركية. لا مكان مع هذين الحوتين، وفيما اللعبة الآن في العالم هي السيطرة على البلدان والمناطق، للتوجّهات أو القوى المحليّة أو «الوطنية»، ولا للأفراد ولا للاستقلالية الفكرية. هذه أسماك صغيرة، إذا ما نجت وبقيت حيّة، فإنها على مستوى الخطابات والممارسات السياسية ستجد نفسها أمام الحوتين أو في بطنيهما، إذا لم تنتج مشاريع متحررة من سطوة المحورين وخطاباتهما. وهذا هو التحدّي أمام كثير من التشكيلات والفئات والأفراد. وتحقيق ذلك، أي إنتاج مشاريع وأطر وطنية هدفها بناء أنظمة ودول ديمقراطية واقتصادات متينة وحماية المجتمعات وصوغ سياسات وعلاقات خارجية توازن بين المصلحة الوطنية والعدل في المحيط (لا سيما في شأن الشعب والقضية الفلسطينيين)، ممكن على الرغم من الصعوبات والمعوّقات. ولعل ذلك يحتاج إلى الشجاعة وأداتها العقل، وفعلها الأول التفكير.


MISS 3