نوال نصر

"لم أرَ بشيراً حاكماً ولست مديوناً للهراوي"

فارس بويز: سوّقوا نظرية إستحالة بناء الجيش طالما جعجع حرّ... فأوقعوا به

25 تشرين الثاني 2023

02 : 00

سيل من الذكريات (تصوير رمزي الحاج)

في قلب ذوق مكايل، جنب القصر البلدي، يقع قصر بويز. هنا ولد فارس نهاد بويز. وهنا يُمضي فترات بين سفرٍ وصيدٍ وجبل... هو مولعٌ بتدخين السيكار. يسحبُ منه نفساً وينفثُ مع دخانه كثيراً كثيراً من الذكريات التي يأبى التنازل عن أي تفصيلٍ فيها. هو الصهر العنيد الذي جزم بأنه أتى وزيراً للخارجية من دون «جميل» العمّ. وهو صاحب الحدس الذي أنبأه مرات بما صار حدثاً. وهو أيضاً وأيضاً عاشق الصيد الذي لم يأكل يوماً من صيدِهِ والأب الفخور وصديق فؤاد بطرس وريمون إده وجان عزيز... والقريب من حافظ الأسد الذي أوكل إليه حلّ مسألتي «الجنرال» و»الحكيم» و»كان وبان». حوار جاوز وقته الأربع ساعات مع شاهد على مرحلة ويقف عند مفترقِ طريق يترقب مرحلة.



إبن بلدة الذوق. هنا بيت جدّه فارس شيبان بويز (ولا يعرف لماذا شيبان). والده النائب السابق نهاد بويز ووالدته جاكلين سيدة الأدب والشعر. كبر بين صالونين في منزله. الصالون الثقافي الذي كان يجمع جورج شحاده وصلاح ستيتية وكلير جبيلي وناديا تويني... والصالون السياسي الحرّ المنفتح على أطياف وتيارات وانتماءات عدّة مثل ريمون إده وكامل الأسعد وغسان تويني وألبير مخيبر وجان عزيز ويقول «في هذا المناخ كبرت. والدي كان صديقاً لكبار أمثال جون كينيدي وشارل ديغول. كانت لديه قدرة هائلة على التواصل مع الآخرين حسدته عليها. شخصيتي كانت مختلفة. لم أتحلَ بطيبة والدي وانفتاحه السريع على الآخرين لكن علاقاتي كانت أكثر متانة وتستمرّ. وبعض أصدقاء والدي الكتلوي أصبحوا، على الرغم من فارق السنّ، أصدقائي. أصبحت صديقاً لجان عزيز الذي ظُلم كثيراً وقليلون هم من تعرفوا جيداً اليه. كان موسوعة فكرية، جريئاً ونزيهاً وذات ثقافة هائلة. كنت بمثابة إبنه الروحي.


كنت أمضي ليالي معه نقرأ إبن سينا ونناقش فكر توماس مكارثي. تطورت علاقتي به الى درجة أخذ على خاطر والدي (يضحك). ويستطرد: والدي كان مقيداً في حزب الكتلة الوطنية أما أنا فكنت حراً واستمريت. لاحقاً، تقربتُ أيضا من ريمون إده. كنا نلتقي في فرنسا ونخرج معاً. وأذكر أنه في إحدى الليالي من العام 1978 كنا على الـ «كوت دازور».


يومها قال لي: «لبنان الذي عرفته «مش راجع» وأنا «مش راجع» على لبنان هذا. أفضّل أن أنهي حياتي وفي بالي لبنان الذي عرفته. قلت له: هذا بلد عجيب غريب أوشك على الإنتهاء مرات واستعاد الحياة. يومها قال لي ريمون إده: أريدك ان تنظم حزب الكتلة الوطنية. يكفي الحزب ما تكبده. أعد تنظيمه ومعك ورقة بيضاء مني بأن تفعل ما تشاء.


أجبته: هذا مستحيل فلا شيء إسمه حزب الكتلة الوطنية. إنه تجمع أو جمعية تضم محبي ريمون إده. لا أحد يستطيع أن يجعل من ينتمون إليه يمشون مع سواك. فإذا أنشأت حزباً شيوعياً فسيصبحون شيوعيين وإذا فتحت كاباريه فسيصبحون وراء البار. ثانياً، أنا لست عضواً في الحزب. سألني: ليش والله؟ أجبته: لأنني لم أشعر يوماً بوجود حزب ذات عقيدة إيديولوجية. أجابني: إصطفل. كان يستخدم هذه الكلمة كثيراً».



مع البطريرك صفير في صدر الدار


جار بيت الكتائب


بين قصر بويز في الذوق وبيت الأشرفية، قرب بيت الكتائب في ساسين، كبر فارس بويز. ألم يجعله ذلك يتأثر بحزب الكتائب؟ يجيب: «كان بيتنا قبالة مكتب الشيخ بشير (الجميل) الذي استشهد فيه. كنا نلتقي به يومياً ونلقي السلام. وكان يحترم كثيراً بيت نهاد بويز، على الرغم من أنه كان يعلم أننا لسنا معه سياسياً. كان يزورنا دورياً على غفلة وأعتقد أنه كان يفعل ذلك ليس ليأتي بأخبار أو طلب أخبار بل ليرى الناس أن هذا البيت عزيز عليه. والأمر الآخر، أنه كان يريد ان يُظهر من خطوته هذه قصة ديموقراطية وليقول: هذا بيت نهاد ضدي وأنا معه. كان يستغلنا ديموقراطياً».


ألم تؤثر بك الكتائب وبشير بشيء؟ «بصراحة، لا. كنت مدركاً أن الصراع القائم سيتحول طائفياً. كنت متشائماً في وقتٍ كان يعتقد فيه الجميع أن الأمور ستُحلّ. أعطاني ربنا حدساً سياسياً في المسائل المفصلية. كنت أوّل من توقع الحرب خلافاً للمناخ السائد. إستشعرتُ حدوث الحرب. وأتذكر قصّة قبل انتخاب بشير الجميل كادت تكلفني حياتي. لم أره حاكماً حتى لو انتخب رئيساً. ويوم قُتل وصل ما كنت أقوله الى جهاز أمن القوات أن شخصاً يدعى فارس بويز يقول منذ شهرين أن بشيراً لن يحكم. لكن شخصاً صديقاً ونافذاً في القوات قال: لا أحد يقترب من بيت نهاد بويز».


يتذكر فارس بويز يوم تفجير بيت الكتائب: «كانت عمتي قد توفيت للتوّ ونتقبل التعازي بها في قصر بويز في الذوق. حصل الإنفجاز فنزلت انا وفؤاد السعد (ابن عمتي) الى الأشرفية. رأينا رجلاً مليئاً بالغبار محملاً وسمعنا الشباب يصرخون: الباش حيّ... بشير حيّ... خلناه هو. وصل كريم بقرادوني وجو توتنجي فقلنا لهما خرج بشير للتوّ. وبعد ساعتين إتصل بي بقرادوني وسألني عما رأيت فأخبرته أنني ظننته بشيراً وأخطأت. ويستطرد: ايقنت أنه لن يحكم. وأتذكر رسالة بعثها معي جان عزيز الى بشير بعيد انتخابه. قال لي: أكتب «فخامة رئيس الجمهورية المنتخب الشيخ بشير الجميل. فيما أتمنى لك التوفيق لا اسمح لنفسي بتهنئتك بعد. كذّب ظني وظن من لا يزال يعتقد انك لن تستطيع الخروج من الأطر الحزبية الضيقة التي ترعرت فيها. وأن دور المستبد العادل الذي قد يحلو لك الإضطلاع به ستأخذ منه ما يلائمك وترمي بالباقي للسباع. بدّد المخاوف والشكوك وطمئن أصحابها في المناطق والطوائف والأحزاب يرفعك البلد الشهيد الى مرتبة إبن معن في عمله التوحيدي الرائع. غلّب رجل الدولة على المحارب وعندئد كلنا معك. نقلتُ هذه الرسالة الى بشير فقال لي: نكاية بك وبجان عزيز لن أعمل إلا مع أشخاص مثلكما».



مع قداسة البابا يوحنا بولس الثاني


إستشهد بشير


يعترف فارس بويز انه كان «ممروضاً» بالسياسة منذ صغره: «كان عمري خمسة عشر عاماً يوم كنت أقتحم الصالون السياسي وأبدي وجهة نظري. وبعض الثائرين مثل ريمون إده وغسان تويني كانوا يرحبون بي فيما كان يحاول الوالد إبعادي. كنت أتحلى بنضوج سياسي يتجاوز عمري الفعلي. وكان حديثي يستقطب الآخرين أكثر من حديث والدي الدبلوماسي. وحين تخرجتُ محامياً وفتحت مكتباً في منطقة السيوفي (في الأشرفية) كان يتحوّل بعيد الساعة الواحدة ظهراً الى حلقة سياسية يقصدها عدد من السياسيين المخضرمين مثل رينيه معوض وجان عزيز وألبير مخيبر وفؤاد بك غصن. وبعد أن خطبت إبنة الياس الهراوي أصبح الأخير ينضمّ الى حلقتنا. أصبح مكتبي بيتاً لحزب الكتلة الوطنية وملتقى سياسياً».


نقاطعه بسؤال عن ارتباطه بابنة الياس الهراوي زلفا (وهما منفصلان منذ أعوام) فيقول من دون أن يسميها: «تزوجنا عام 1985. وللحقيقة، كانت علاقتي بالياس الهراوي في البداية غير جيدة، لأنه كان يريد لابنته شخصاً ثرياً. لم يرحّب بعلاقتنا. خصوصاً أنني كنت قبل ذلك على علاقة مع إبنة شخصية لبنانية كبيرة لكنها لم تنتج زواجاً. تكونت لديه فكرة أنني لست جدياً. بدأت علاقتنا «عاطلة» لكنها نتيجة إصرار إبنته تطورت الى زواج. إصطلحت العلاقة لاحقاً وباتت طبيعية. أصبح يقدّر رأيي السياسي مع حساسية معينة. فهو العمّ وليس بإمكانه أن يقرّ للصهر بصوابية رأيه، ناهيك بانه كان مخضرماً سياسياً ولديه إعتداد برأيه وكان يسألني رأيي على «الليبرا» كي لا يُحسب عليه السؤال. كان يحور ويدور قبل السؤال. أصبح يقصد الحلقة السياسية في مكتبي باستمرار وكانت تضم فئتين من الأشخاص: الرومانسيين الحالمين أمثال والدي وألبير مخيبر الذين يتمنون ريمون إده رئيساً أو داني شمعون، وهناك الواقعيون مثل قبلان عيسى الخوري وجان عزيز والياس الهراوي... وكان تقييمي للأوضاع واقعياً جداً. وذات نهار، بينما كان روبرت مورفي على وشك زيارة لبنان للتباحث باسم رئيس الجمهورية الجديد في العام 1989 وكان الشباب يتباحثون بحظوظ المرشحين قلت لهم: يا إخوان، بلا احلام، يجب أن تفهموا أن العالم كلّف حافظ الاسد بإدارة لبنان. هناك تفويض دولي بذلك. ومن يفوّض شخصاً لا يشترط عليه العدّة. حين تلزمون مقاولاً لا تقولوا له نوع الجرافة التي سيستخدمها.


مورفي لن يفاوض الأسد ويقول له: نريد ريمون إده بل سيسأله: أي رئيس يريحك؟ وسينقل إلينا الإسم. وأنا اعتقد أن سوريا تعقدت من خوضها الحرب لوصول الياس سركيس رئيساً وسرعان ما هيمن بشير الجميل عليه. سوريا لن تكرر تجربة الياس سركيس الذي انقلب عليها بل ستختار رئيساً من الاطراف وليس من جبل لبنان كي لا يخضع للضغط الماروني في جبل لبنان. ثانياً، ستختار رئيساً بعيداً كل البعد عن القوات اللبنانية مشهوراً باستقلاليته عنها، ويملك من الجرأة ليصطدم مع القوات إذا لزم الأمر. لذا سجلوا ما سأقوله لكم وهو حدس ممزوج بمعلومات: أعتقد أن أوّل إسم سيطرح هو مخايل الضاهر وإذا تعذّر وصوله سيتقدم إسم رينيه معوض، وإذا تعذّر وصول معوض فسيطرح إسم الياس الهراوي، وإذا تعذّر وصوله ستتقدم حظوظ جان عبيد. لذا، إبحثوا عن رئيس بين هذه الأسماء الاربعة ولا تضيعوا وقتكم بالرومانسية والأحلام. لم يقبض أحد ما قلته على محمل الجد. وفي اليوم التالي وصل مورفي الى بكركي ومعه إسم مخايل الضاهر. هنا تهافت الجميع صوبي وسألوني عن معلوماتي فقلت لهم: هذا حدس وتقدير. ويومها تقرّب مني أكثر الواقعيون والرومانسيون».



مع والده وشغف السيكار جمعهما


الحدس


خبرية اخرى كانت، على ما قال، كلفته الكثير: طرح الأسماء الأربعة. ويشرح: «ليلة إعلان إسم مخايل الضاهر زارني سمير طويلة (من حزب التنظيم) وسألني بالصدفة: شو الأخبار؟ قلت له: مخايل الضاهر. إبتسم. لكنه في المساء، خلال لقاء مع سمير جعجع، سأل الحضور عن رأيهم فقال طويلة: رأيي يا حكيم مخايل الضاهر. طبعاً لم يتوقف أحد عند ما قال. لكن، بعد إعلان إسم الضاهر إتصل به جعجع وسأله عن مصدر معلوماته. إتصل بي طويلة قائلا: هذه معلومات أم تحليل؟ أجبته: حدس. سألني: هل لديك مانع من زيارة الدكتور جعجع؟ أجبته: هل هذا استدعاء؟ أخذ الحكيم الهاتف منه وقال لي: هذا استيضاح لأعرف كيف وصلت الى هذا الإستنتاج. قلت له: السوريون يريدون رئيساً يثقون به بعد ما عانوه زمن الياس سركيس لذلك أنا مقتنع أنهم لن يقبلوا بمثله».



قد يكون حدساً وقد يكون أكثر. نتابع الإصغاء الى فارس بويز وهو يخبرنا عن يوم وصل الى مكتبه الياس الهراوي وأخذه جانباً وقال له: «يا أخ طالبة مني ميّ كحالة أن أكون معها في برنامجها الليلة على شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال. قلت له: جيد. أردف وهو يحاول ألّا يؤخذ عليه طلب المشورة، ماذا سأقول برأيك؟ أجبته: أنت ماذا تريد ان تقول؟ أجابني منزعجاً: سأتكلم عن الزراعة. أجبته: إفعل ذلك إذا كان طموحك الأكبر أن تصبح وزيراً للزراعة لكن تذكر أنك أنت من الأسماء المطروحة للرئاسة وأعتقد أن حافظ الاسد سيراقب ما ستقوله، وستكون فرصة لك أن تتقدم الى رأس اللائحة أو تطير منها. قلت له: تذكّر أن لا مجال للخروج من حالة الحرب التي نتخبط فيها إلا من خلال التفاهم مع سوريا. إذا قلت ذلك خلال المقابلة فهذا سيكون دليل جرأة وإذا لم تقله فحظوظك قد تصبح صفرا. أجابني: هل تريد أن تحرق ديني (أمنيا). أجبته: أنا اتكلم في السياسة. وبالفعل، هذا ما فعله. وقال ما قال في المقابلة وقبل أن يعود الى منزله كان كريم بقرادوني ونادر سكر قد سبقاه إليه وطلبا منه أن يغادر قليلا».



كان قد مضى على عدم توجهه الى زحلة سنوات طويلة، منذ انتخب بشير الجميل. توجه الى هناك في تلك الليلة. وكان السوريون قد رصدوا ما قال وأمر غازي كنعان بتنظيف منزله وإعادة بعض الاثاث المنهوب منه وانتظره على الشرفة مؤدياً له التحية العسكرية عند وصوله ومتوجها إليه بالقول: أهلا فخامة الرئيس. ونقل إليه تحيات حافظ الأسد قائلاً: سيادة الرئيس يريد أن يراك. حصل اللقاء وكان ممتازاً. وعند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل إتصل بي الهراوي وتكلم بالشيفرة. قال: كنتُ في مشوار بعيد ومشي الحال. وتوجه لي بالقول: يحرق دينك صبتها والقصة نهائية. قلت له: تمهل هناك عناصر أخرى يفترض أن تتوافر».


رينيه معوض كان، بحسب بويز «شغل السعودية» وهذا ما اردت قوله الى الياس الهراوي. وحصل ما رأيته. إنتخب معوض. هنأته مع والدي. وفي صباح 22 تشرين الثاني (يوم استشهاد معوض) إتصل بي الهراوي قائلاً: رينيه «طرقني» ويريد الإتيان بأوغست باخوس (من النواب المستقلين) وزيراً. سأصعد الى زحلة وسألعب دور المعارضة خلال السنوات الست المقبلة. واستطرد بالقول: لكنه يريد مقابلتك فانتبه كي لا يحدث شيء من ورائي. بعد الظهر، وقبل موعد اللقاء، إتصل بي فؤاد بطرس وأخبرني أن رينيه معوض قد قتل. إتصلت بالياس الهراوي وقلت له: إستعدّ ستكون الإنتخابات سريعة. أجابني: وين في إنتخابات بعد؟ لكن بعد نحو ساعتين إتصل بي قائلا: يحرق دينك صبتها أيضا».



أفتحر بأولادي


فؤاد بطرس


يتحدث بويز عن علاقة وثيقة ربطته بفؤاد بطرس ويقول «تعلمت منه الواقعية في السياسة الخارجية وفي تعامله مع الأميركيين» ويستطرد: «السيد حسين (الرئيس حسين الحسيني) دعا الى جلسة إنتخابية بعد لقاء جمعه مع جان عبيد بناء لطلب من أبو جمال (عبد الحليم خدام). كان السيد حسين مع بيت سكاف وأراد طرح بيار حلو أو جان عبيد بديلاً عن رينيه معوض. ويومها إلتقى الرجلان مع حافظ الاسد فسأل كل واحد على حدة عن مدى إستعداده للمواجهة دفاعا عن قصر بعبدا. فقال له بيار حلو: أنا لا يمكن أن ألطّخ يدي بالدم. وقال جان عبيد: أنا سأفاوض في البداية. كان اللقاء معهما شكلياً فالقرار السوري كان قد إتخذ».


هل نفهم من ذلك أن الياس الهراوي قدّم تنازلات لم يقبل بها عبيد والحلو؟ يجيب بويز: «لا، لم يفعل ذلك. هو عانى كثيراً. لم يجد أحداً حوله يوم إنتخب. لا احد حوله يتكلم الإنكليزية او الفرنسية. إتصل بي وقال: دخيل عرضك هناك رسائل تصلنا من جورج بوش وفرانسوا ميتران وبابا روما. صعدت الى أبلح وأتت سكرتيرة إبنه الذي يتعاطى تجارة المأكولات لإعداد الرسائل. هي لم تكن معتادة إلا على دقّ أسعار الجبنة والمأكولات وكم صندوق. تعبنا كثيراً. مرّ نحو أسبوع وكاد الهراوي ينهار بعدما أصيب باكتئاب. وبدأ يهدد بالإستقالة. طلب مني أن أسأل الإخوان في أي إتجاه نسير. أجبته: سيارتي لم تعبر يوماً طريق المصنع وأنا من ثقافة الكتلة الوطنية التي تعتبر أن لا علاقة للجيش بالسياسة لذلك لن ألتقي غازي كنعان. كلّف الهراوي ميشال المرّ بذلك. لكنه متبجح. ذهب وحين عاد من الشام، وقبل أن يعبر طريق المصنع، إتصل بوردة (الزميلة وردة زامل في إذاعة صوت لبنان) وفقع تصريحاً قبل وصوله الى مقر الرئيس. عاد الهراوي وكلف محسن دلول بذلك لكنه بدل أن ينقل الى الشام ما يريده الرئيس اللبناني نقل الى الهراوي ما تريده سوريا فقال له الياس الهراوي: بعد في «هالشنتان» فليأخذوه. عاد وطلب مني أن أنتقل الى سوريا فطلبت منه إعداد مرسوم رئاسي لتفويضي لقاء الرئيس الأسد باسمه. ذهبتُ الى الشام والتقيت الرئيس حافظ الاسد. سألني عن العروبة فحدثته عن دور الموارنة في العروبة. سألني عن نظرتنا لإسرائيل. وسأل عن علاقتنا مع الأميركيين».


إذا، هو إمتحانٌ خضعت له؟ يجيب: «أراد فحصي مثلما يفحص عادة زواره. وحين عدت الى لبنان إستقبلني الهراوي بالقول: يا زلمي شو عامل فوق؟ دوختهم».



من خلاصات التجارب (تصوير رمزي الحاج)


موقفان من جعجع


نعود لسؤاله، هل كان يفترض بالياس الهراوي دفع أثمان معينة لانتخابه رئيساً؟ هل طُلب منه نقل رسائل معينة في هذا الإتجاه؟ يجيب: «في الجلسة الثانية مع حافظ الاسد قلت له: الرئيس الهراوي لن يتمكن من الصمود وحيداً وقد يفاجئنا باستقالته، ويريد ان يعرف في أي إتجاه تسير الأمور وكم سيمكث ميشال عون بعد في قصر بعبدا؟ أجابني: شوف يا إستاذ فارس لن نتفاهم على الأرجح مع عون لكننا لن ندخل في معركة ضده كي لا تأخذ طابعاً طائفياً. هذا الأمر بحاجة الى طلب دولي. الأمر الآخر، نحن غير مطمئنين لسمير جعجع ونخشى ان يستفيد هو من إزالة عون ويصبح زعيم كل الموارنة ويقتحم العهد. نحتاج الى ضمانات من جعجع: الإعتراف بالطائف وبشرعية الياس الهراوي القائمة وبالمضي بحلّ الميليشيات وقبوله بانتشار الجيش وتسليم الأسلحة».


هذه كانت حصيلة اللقاء الثاني بين بويز والأسد. ويقول: «لم أفاوض عون شخصياً لكنني قابلت جعجع مراراً. كنت أنتقل مساء من مرفأ السان جورج الى غدراس وأجتمع به بين الساعة العاشرة ليلاً والثالثة فجراً. في الموازاة، كان هناك محوران في سوريا: محور لا يقبل بسمير جعجع إطلاقاً ويضم من لبنان الأعداء التاريخيين له مثل سليمان فرنجية وإيلي حبيقة والحزب القومي السوري الذين سوقوا هناك انه مناور وخطير وسيهاجم، بعد إزالة عون، سوريا. وهناك محور آخر يمثل عبد الحليم خدام كان يطرح إمكانية الوصول الى حلّ مع جعجع. كان التجاذب كبيراً وتلقيتُ شخصياً تهديدات في لبنان من خصوم جعجع يعتبرون أنني أساهم بتعويمه. اتهمت بأنني الجناح القواتي عند الياس الهراوي من أعداء جعجع. في الحقيقة، كل ما كنت أريده هو إعادة التوازن الى هذه السلطة ووحده سمير جعجع يؤمن ذلك. ويستطرد: كان حافظ الأسد يقول عنه «ألعبان» وكنت أنصح جعجع بأن لا يتردد. حاول الياس الهراوي إجراء مصالحة بينه وبين سليمان فرنجيه في حضور السفير البابوي بابلو بوانتي من دون أن يخبرهما بذلك. وحين وصل فرنجيه ورأى جعجع شتم وغادر. دخل على الخط إميل لحود وجميل السيّد اللذان خافا من وجود جعجع حراً لأن لديه إمكانات كبيرة وقادر على استقطاب الضباط المسيحيين. سوقوا لهذه الفكرة. وبرأيي هذه الفكرة هي التي حضرت لعملية القبض على سمير جعجع».


هل نفهم من ذلك أن قرار القبض على سمير جعجع إتخذ فكان تفجير كنيسة سيدة النجاة؟ يجيب: «صدقاً، لا أعرف قصّة الكنيسة».


نتجاوز السؤال ليقيننا أنه لا يريد الحديث فيه. ونتابع الإصغاء إليه يقول: «أنا الوحيد الذي إعترضت على حلّ حزب القوات. كان المناخ سورياً في المجلس. شعر الهراوي بحجم الضغط على جعجع الذي أساء فهمه وأرسل عن حسن نية من ينصحه بأن يغادر. كان الياس الهراوي مدركاً إستحالة أن يحكم من دون جناح مسيحي ماروني. وهو عمل المستحيل من أجل تسويق جعجع وكان يحوط بالهراوي شخصان مقربان من القوات هما ميّ كحالة والعقيد ريمون المعلوف. المفصل الاساسي في قضية القبض على جعجع كانت نظرية عدم إمكانية إنشاء جيش طالما سمير جعجع حرّ. سوقوا هذه الفكرة عند حكمت الشهابي وهو عراب الجيش اللبناني في سوريا ثم لدى حافظ الأسد».


إميل لحود


يطول الوقت. تكرج الساعة. يتحدث عن إميل لحود. يتحدث عن وجوده الذي أصبح ضرورياً بالقرب من الرئيس الهراوي: «ذات يوم قال لي الرئيس: هل تريد يا أخ أن تصبح مدير الأمن العام. ثم سألني هل تريد أن تصبح حاكم مصرف لبنان. هذا لا أحد فوق رأسه. ثم سألني: هل تريد أن تصبح وزيراً للخارجية؟ أجبته: أتشرف شرط ألّا تعلن ذلك الآن. لكن الياس الهراوي لم يكن يستطيع كتمان سرّ فشاع الخبر في اليوم التالي في كل الصحف: بويز الى الخارجية. وبعد أيام أتاني إتصال من صديق مشترك مع عمر كرامي هو سليم حبيب قال لي فيه: أن إسمي ليس مدرجاً بين أسماء تشكيلة الوزراء الجدد. فعرفت أن الهراوي أذعن لإرادة رفيق الحريري وجوني عبدو بعدم توزيري. غضبت». يتابع بويز رواية الخبرية بإسهاب وفي محصلتها أن كرامي حمل التشكيلة الى الشام وهناك قال له الأسد: يبدو أن رفيق الحريري يتدخل في حكومتك فأجابه بأنه سيضمه - من حصته - كوزير للخارجية. وليسمِ الهراوي وزيراً سنياً. هنا يقول بويز: «ما حصل منحني إستقلالية ولولاه لكنت مديوناً للرئيس الهراوي في وزارة الخارجية ولما تمكنت من إعادة بنائها».


في صدر المكتب، حيث نجلس، بنادق صيد وأسلحة «ديكور» من الحرب العالمية الثانية. يحب فارس بويز الصيد كثيراً يصطاد من الحيوانات الخنزير والغزال والأسد والنمر والفهد ووحيد القرن. ولا يأكل أبداً مما يصطاد. وهو مغرم بالخيل. وعاشق للتزلج وللبحر ويقول: أنا قبطان وأعرف كيف اتعامل مع البحر. يقرأ كثيراً وتربطه صداقة مع وليد جنبلاط ونبيه بري. وماذا عن صداقته القديمة مع سليمان فرنجية الذي كان يصطاد معه؟ يجيب: إختلفنا لأسباب ثانوية جداً.


لديه أربعة اولاد: نهاد، طارق، ريا وأندريا. وهو فخور بالأربعة.


القصص لا تنتهي. خبريات لا تعدّ ولا تحصى. رفيق الحريري وهو باتا أصدقاء بعد جفاء والسبب؟ وجود إميل لحود. طال الوقت. ينتهي الحديث لكن الذكريات نهر لا ينضب.

MISS 3