جان كلود سعادة

ثلاثون عاماً حسب توقيت المنظومة

25 تشرين الثاني 2023

02 : 00

علّمتنا التجربة أنّ عامل الوقت ليس نفسه وليست لديه القيمة ذاتها ولا الأثر عينه في أي بقعة من الكوكب ولا في كل بيئة اجتماعية، ثقافيّة، اقتصادية، وسياسيّة. فالوقت نفسه قد يكون «من ذهب» حسب القول المأثور، في بلد ما، ومن ألماس في بلد آخر، ومن سخام ووحل في «البلدان المحظوظة».

فثلاثون عاماً من حكم المنظومة أخذت لبنان من بلد خرج للتوّ من حرب مدمّرة عبر اتّفاق إقليمي ودولي إلى مزرعة من القرون المظلمة تديرها مافيا مكتملة الأركان رغم المناظر التجميلية والمواسم الترويجيّة. فبعد ثلاثين عاماً من انتهاء الحرب وهدر وسرقة واختلاسات تقارب النصف تريليون دولار من المال العام والخاص والمساعدات الخارجيّة، لا يزال البلد من دون بُنى تحتيّة ومن دون كهرباء ولا ماء ولا شبكة مواصلات حديثة ولا اتصالات متطوّرة ولا تغطية صحيّة شاملة ولا شبكة أمان اجتماعي ولا نظام تقاعد موحّد والأخطر، بلا رؤية ولا مشروع جامع للقبائل والطوائف التي تعيش في هذه الجمهورية. أمّا ما كانوا يتبجّحون به دائماً من اقتصاد حرّ ونظام مصرفي وتعليم وطبابة وثقافة وسياحة فقد تخطّاه الزمن بأشواط أو انقلب لعنة على البلد وأهله. فخلال ثلاثين عاماً، نجحت منظومة الفشل والفساد التي أمسكت بالبلد أن تكسر جميع الأرقام القياسية في الحفر نحو الأسفل ونحو الأسوأ.

ثلاثون عاماً عند الآخرين

في أماكن أخرى من الكوكب، كانت ثلاثون عاماً كافية لبناء دول من الصفر أو لإصلاح أسوأ الأحوال فأنجزت بلدان كثيرة قفزات نوعيّة وانتقلت من حال إلى حال مختلف تماماً نذكر منها على سبيل المثال كوريا الجنوبية ودبي وسنغافورة.

1 - كوريا الجنوبية: لم تكد تخرج شبه الجزيرة الكورية من عقود طويلة من الاحتلال الذي انتهى بعد الحرب العالمية الثانية، حتى دخلت في حرب أخرى ما بين عامي 1950 و1953 أدّت إلى تقسيمها. كان التعافي بطيئاً وغير واعد في السنوات التي تلت الحرب مباشرةً ثم في الفترة من 1961 إلى 1996، شهدت كوريا الجنوبية فترة من التنمية الاقتصادية السريعة فتحوّلت خلالها إلى مجتمع صناعي مزدهر ومتطوّر، وهي الآن أحد أقوى الاقتصادات وتحتلّ المرتبة 13 عالمياً.

2 - دبي: إستفادت إمارة دبي من ثروة نفطية متواضعة بعد الاستقلال، لكنّها أصابت بالتركيز على التجارة وجذب الاستثمارات، وتطوير مشاريع البنية التحتية الكبرى مثل المطارات والمرافئ والأحواض الجافة والطرق والمراكز التجارية ومراكز الأعمال والمؤتمرات إلى أن أصبحت قبلة المنطقة والعالم في أقل من ثلاثين عاماً والتطوّر مُستمرّ.

3 - سنغافورة: بعد عقود من الاستعمار ومجازر الإحتلال الياباني خلال الحرب العالميّة الثانية والتجربة الفاشلة بالاتحاد مع جارتها ماليزيا وصلت سنغافورة إلى أسوأ أوضاعها. فالمدينة - الدولة ذات المساحة الصغيرة والتي تفتقر إلى الموارد الطبيعيّة استطاعت أن تغيّر قدرها وتصبح خلال ثلاثة عقود من أغنى دول العالم وأكثرها أماناً واحتراماً للقانون. فبقيادة لي كوان يو وعزيمة أبنائها وحسن إدارتهم بلادهم استطاعت سنغافورة أن تصبح من أنجح وأغنى الدول في العالم وتمكنت أن تتخطى الكثير من الدول الأخرى التي تفوقها مساحةً وموارد طبيعيّة وعدد سكّان.

أركان الدولة المفقودة

أصبح واضحاً أنّ العامل الأساسي في نجاح بناء الدول ليس عامل الوقت وعدد السنين فقط لكنه مزيج من الرؤية والعمل الجاد لوضع مشروع جامع والعمل على تنفيذه وكذلك يعتمد على درجة عالية من البراغماتيّة للاستفادة من الظروف الدوليّة المؤاتية وكذلك التشديد على احترام القانون وتطبيقه على الجميع.

1 - في السياسة: افتقد لبنان إلى مشروع سياسي واضح وجامع يتخطّى الإتفاق على الخروج من الحرب إلى التوافق على مشروع واحد وجامع لإدارة التنوّع والإستفادة منه مع وقف التنافس السلبي والتحاصص.

2 - في الاقتصاد: لم يكن في لبنان نظام اقتصادي فعلي بل «عنوان اقتصادي» تمّ تشويهه بالممارسة وتطويعه لخدمة المنظومة الحاكمة ومصالحها. في المقابل كانت هناك دعوات للذهاب إلى النقيض النظري المتمثّل في أنظمة ثبت فشلها وعقمها. أما المطلوب فكان البحث الجدّي عن «الخلطة» المناسبة للبلد والتي يُمكنها أن تستوحي الأفكار وتستعير الممارسات الناجحة من حول العالم إبتداءً بالنموذج الاسكندينافي الذي يزاوج بنجاح بين الاقتصاد الحرّ والحماية الاجتماعيّة المتطوّرة. كما يمكن تعلّم الكثير من التطوّر والتحوّل الإقتصادي الهائل اللذين حقّقتهما بلدان عديدة مثل الصين، طبعاً مع اختلاف الأحجام والإمكانات.

3 - في الأمن الإجتماعي: لا يمكن لدولة صغيرة ومتنوّعة مثل لبنان تحيط بها منطقة متفجّرة، أن تنعم بالإستقرار والمناعة من دون نظام أمان اجتماعي يترافق مع الخيارات السياسية والاقتصادية المناسبة. مثل هذا النظام يمكنه أن يؤمّن للبنانيين خدمات عالية الجودة، بما في ذلك التعليم المجاني والرعاية الصحية المجانية ونظام تقاعدي موّحد ومضمون يترافق مع إصلاح النظام الضرائبي وتحديثه والتشدّد في احترام القوانين.

4 – في الدفاع الوطني: خلال ثلاثين عاماً اعتمدت الدولة بشكل كبير على المساعدات في تأمين حاجاتها الدفاعيّة أو بالأحرى على ما تسمح به الدول النافذة بينما نعيش في منطقة متفجّرة مليئة بالأخطار الدائمة والمستجدّة. في هذا الوقت، استطاعت أحزاب ومنظّمات مسلّحة أن تبني ترسانات من الأسلحة والأنظمة العسكرية والأمنيّة المتطوّرة التي توازي قدرات الدول. بالمحصّلة، ليس المطلوب من الدولة اللبنانية تطوير قنبلة نووية أو مقاتلة الشبح أو إطلاق أقمار صناعيّة حربيّة إلى الفضاء، لكن كان بإمكانها تطوير قدراتها الدفاعيّة والتركيز على التكنولوجيا الحديثة والتصنيع العسكري الخفيف والمتوسط وصناعة المسيّرات والأسلحة الذكية التي توجّه عن بعد للرصد والمراقبة والتدخل واستيراد التكنولوجيا الضروريّة من أي مكان في الكوكب، وذلك من دون انتظار الموافقة أو الرضى من أحد ما دامت الغاية هي الدفاع المشروع عن النفس.

5 - في الرُؤيا والدور: لا ضرر من التشديد مرَة جديدة على حاجة لبنان إلى وضع رؤيا واضحة لدوره ومستقبله يجتمع حولها جميع اللبنانيين وفي الوقت نفسه تتلاءم مع العصر والإتّجاهات العالمية. لكن قبل الحديث عن فقدان الرؤية المستقبليّة والمشاريع والخطط للإصلاح الحقيقي الذي لم يتحقق في الثلاثين عاماً الماضية، هناك عقبة أساسية يجب إزالتها. فلبنان واللبنانيون أو جزء كبير منهم ليس لديهم ترف إضاعة مزيد من الوقت، أو التسليم بالخراب والتفتت في كيانات مايكرو -دُول غير قابلة للحياة وغير راغبة أصلاً في التعاون خلافاً لما يحصل في دول أخرى جمعت كانتونات أو إمارات حول مصلحة مشتركة ورؤية موحّدة. فالثابث أنّ هذه العصابة بكاملها قد فشلت وفسدت بما يكفي ويزيد لكي تقضي عدّة قرون في السجون لو تمّت محاكمتها ومحاسبتها. فلا أمل يرجى بمستقبل أفضل مع استمرار وجود هذه المنظومة في السلطة وفي مراكز القرار والتأثير إن مباشرة أو عبر نسخة جديدة ومنقّحة منها.

بالتأكيد لم يعد لدينا ثلاثون عاماً أخرى لتجربة المستحيل أو انتظار أعجوبة لن تحدث، فإما نبدأ بالإصلاح والبناء فوراً أو إن البلد سيواجه موجتين متلازمتين من الهجرة الكثيفة والدعوات إلى التقوقع والتقسيم. وللذين ما زالوا يؤمنون بإمكانية بناء دولة واحدة حديثة قابلة للحياة نقول إنّ الخيارات أصبحت محدودة جداً، لا بل إنّ هناك خيارين فقط لا ثالث لهما: «تكنيس» المنظومة فوراً أو الرحيل طوعاً.

(*) خبير متقاعد في التواصل الاستراتيجي


MISS 3