عيسى مخلوف

وقفة من باريس

استبدال الأدب بالحياة الشخصيّة

13 حزيران 2020

02 : 00

غالباً ما كانت النتاجات الكبرى تمحو كاتبيها، أو، على الأقلّ، تجعلهم وراء الكواليس. اسم "الكوميديا الإلهيّة" يتضمّن اسم دانتي أليغييري وليس العكس، و"دون كيخوته" أكبر من اسم ثربانتس، و"البحث عن الزمن الضائع" أقوى من اسم مارسيل بروست، وفي ظلّ "الموت في البندقيّة" يسير توماس مان، كما يسير هيرمان هيسّه في روايته "ذئب البوادي" ونيكوس كازانتزاكيس في "تقرير إلى غريكو". وهناك تحف أدبيّة كحكايات "ألف ليلة وليلة" لا تُعرف أسماء مؤلّفيها، كما الحال مع الكثير من الأعمال الفنية التي تتمثّل في المنحوتات والنقوش الفرعونيّة والماقبل كولومبيّة والأفريقيّة والأوقيانيّة، أو ما جاء قبلها في الماضي البعيد، كالرسوم التي وُجدت على جدران الكهوف ويرقى بعضها إلى أكثر من ثلاثين ألف سنة، وهي خيط الماء الأول الأقرب إلى ينابيع الفنّ ولحظة نشوئه وتدفّقه.

الكائنات التي تنتج الكتب تفنى وتغيب لا الكتب التي تصبح جزءاً من الإرث الثقافي والإنساني. يقول غوستاف فلوبير، صاحب كتاب "مدام بوفاري": "الكاتب غائب مثلما الله وراء خَلقه، وهو غير مرئيّ لكنه، في الوقت نفسه، حاضر في كلّ مكان". يأتي هذا الكلام من زمن مضى. نحن في زمن آخر تسلّع فيه كلّ شيء وتحوّل إلى مادّة للاستهلاك. والذين يتحكّمون الآن في سوق الثقافة، كالذين يتحكّمون في أسواق المنتوجات الصناعيّة، يفرضون قوانينهم التي تسيطر عليها في المقام الأول فكرة المردوديّة المادّيّة والربح. ولا وجود لكلّ ما لا يُسَوَّق وما لا يُباع ويُشترى. هذا المنطق بالذات هو الذي يساهم في إطلاق الظواهر وإنتاج النجوم، وتصوير الكتّاب والفنّانين كلاعبي كرة القدم وممثّلي السينما أو عارضات الأزياء. ألم يلاحظ الكاتب الفرنسي باسكال كينيار في كتابه "الظلال التائهة" الحائز على "جائزة غونكور" الأدبيّة أنّ الشيء الأهمّ والأكثر تداولاً في "معرض فرانكفورت الدولي للكتاب" هو دفتر الشيكات؟

مع سيطرة رأس المال على الإنتاج الثقافي وشيوع وسائل التواصل الحديثة، بل مع تغيُّر المعنى الثقافي، يصبح الترويج للكتاب أكثر أهمية من مضمون الكتاب. يصبح الكتاب مطيّة لصعود نرجسيّة البعض ووسيلة للظهور الإعلامي والوجاهة الاجتماعية. تصبح حياة الكاتب الشخصية وعلاقاته وأخباره مثار الاهتمام الأكبر مع انحسار القراءة النوعيّة وغياب الحركات النقديّة، وكذلك مع التراجع المعرفي والفكري الذي يشكّل إحدى أزمات هذا العصر، بالإضافة إلى صعود الشعبويّة والتطرّف والعنصريّة واستغلال الإنسان للإنسان، وهي مسائل ترافق البشر من جيل إلى جيل.

لا يتجاوز تاريخ الحضارات الإنسانية بضعة ألوف من السنوات، والجانب المُتَحضِّر فيها، الجانب العقلاني والأدبي والفنّي، لا يحتلّ إلاّ حيّزاً صغيراً من التجربة الإنسانية ككلّ. هذا الحيّز الذي تزداد قيمته مع ازدياد نُدرته مهدّد اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بلعبة التوظيف ووحول الابتذال، وهناك علامة استفهام كبيرة حول مسار الإبداع وأغراضه ومآلاته وحول دور المثقّفين والمبدعين أنفسهم.

نتساءل هنا: هل من الضروري أن نبحث عن أثر الأدب في حياة المجتمع كما حدث في الغرب، مثلاً، في المرحلة الرومنطيقيّة؟ من جانب آخر، ماذا يبقى من القسم الأكبر من الكتّاب والفنّانين، شرقاً وغرباً، لو ربطنا نتاجاتهم بمواقفهم السياسيّة والإنسانيّة والأخلاقيّة، ولو خلطنا بين إبداعاتهم وسلوكهم الشخصي؟ وإلى أيّ مدى يؤثّر ذلك على حضورهم في المشهد الأدبي والثقافي وعلى البعد الرمزي لنتاجهم وهواجسهم ورؤيتهم للعالم؟

في هذا السياق، ننظر اليوم إلى السجال الذي فتحه سليم بركات بمقال يكشف فيه عن حقيقة صداقته مع محمود درويش وعن رغباته الدفينة حيال موقعه الشعري. ولقد غطّى هذا السجال فجأةً، كغيمة سوداء كبيرة، جميع المواضيع والويلات التي يتخبّط فيها العالم أجمع اليوم ، وخصوصاً العالم العربي المنكوب في وجوده وتاريخه. هكذا انحسر الحديث في الأيام الماضية، في أوساط الكتّاب والمثقّفين والمهتمّين بالشأن الثقافي، عن مسائل كثيرة مهمّة، في مقدّمها وباء كورونا وانعكاساته الصحيّة والاقتصاديّة.

أصبحت الحكاية التي أطلقها سليم بركات هي الحكاية التي حلّت محلّ الأدب، وأخذته إلى حلبة الصراعات اليوميّة، فغدت الأقلام التي تنحت القصائد أشبه بالسكاكين تضرب خبط عشواء كالموت الأعمى في معلّقة زهير بن أبي سلمى. وتوارى خلف هذه الصراعات الشعر والنثر وذاك الشعاع اليتيم، المُبَلسِم والمُؤاسي، الذي ننتظره مع بداية كلّ صباح.