ميركل وفون دير لاين... امرأتان قد تغيّران وجه أوروبا!

02 : 00

فيما توشك رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على استلام رئاسة المجلس الأوروبي، من المنتظر أن يصبح الاتحاد الأوروبي تحت إدارة هاتين المرأتين الألمانيتَين اللتين تحملان تاريخاً مشتركاً طويلاً. لن تبقى القارة الأوروبية على حالها...

تكثر الفرضيات حول الأسباب التي منعت أنجيلا ميركل من دعم الوحدة الأوروبية بقدر ما فعل المستشار الألماني السابق هلموت كول. هي لم تختبر الحرب مثله ولم تنشأ في أوروبا الغربية على غرار سكان ألمانيا الغربية من أبناء جيلها، بل أمضت طفولتها في ألمانيا الشرقية الشيوعية. اضطرت ميركل في بداية مسيرتها السياسية لإثبات أنها مواطنة ألمانية صالحة أو ممثلة مناسبة لألمانيا الموحدة. ربما ترسخت في عقلها طريقة تفكير قومية في تلك المرحلة، أي عقلية "ألمانيا أولاً"!

أما أورسولا فون دير لاين، فتنتمي إلى ألمانيا الغربية ولم تضطر يوماً لإثبات قدرتها على تمثيل المصالح الألمانية. منذ العام 2011، كانت تدعو إلى إنشاء "الولايات المتحدة الأوروبية بناءً على نموذج الولايات الفدرالية في سويسرا أو ألمانيا أو الولايات المتحدة الأميركية".

كانت مسرورة بقدرتها على "العودة إلى ديارها" كرئيسة للمفوضية الأوروبية. لكن حين انتشر وباء كورونا في الفترة الأخيرة، اضطرب وضع فون دير لاين التي تحمل شهادة دكتوراه في الطب. مع ارتفاع أعداد المصابين، عمدت ألمانيا وفرنسا والنمسا وجمهورية التشيك وبلدان كثيرة أخرى إلى إغلاق حدودها، وأصبحت فون دير لاين على هامش الأحداث.

حين أصبحت حياة المواطنين على المحك، أثبت القادة في برلين وباريس ودول أعضاء أخرى بكل وضوح إلى أي حد لا يهتمون بأوروبا. يُعتبر ضبط الحدود تدبيراً له رمزية كبرى في الاتحاد الأوروبي كونه نقيضاً لأوروبا الموحدة. لكن وافقت فون دير لاين على تلك الضوابط في البداية من دون التفوه بكلمة.

ربما ترتبط المشاكل التي واجهتها في المرحلة الأولى بعدم توليها رئاسة أي حكومة، على عكس سلفها جان كلود يونكر. حتى أنها لا تستطيع أن تدّعي امتلاك تفويض من الناخبين. في الانتخابات الأوروبية منذ سنة تقريباً، لم يَرِد اسمها في القوائم الانتخابية.

لكنها تملك اليوم فرصة توسيع دور المفوضية الأوروبية أكثر مما فعل أي مسؤول آخر منذ وقت طويل. كانت ميركل، من بين جميع المشككين بدور بروكسل، هي التي مهّدت لهذا الوضع.

في البداية، رفضت المستشارة الألمانية بقوة الدعوات إلى مساعدة دول الاتحاد الأوروبي التي تواجه المصاعب عبر "سندات كورونا". بدا وكأن أزمة اليورو تُكرر نفسها. لكن على غرار ما حصل خلال أزمة اللاجئين، لانَ قلب ميركل مجدداً، كما يحدث دوماً في الأزمات الإنسانية. فاقترحت مع ماكرون خطة تعافي لأوروبا، حيث وافقت المستشارة على السماح للدول بتلقي الهبات بدل القروض، ما يعني عدم اضطرارها لتسديد المبالغ لاحقاً. سيتمكن الاتحاد الأوروبي من تلقي الأموال اللازمة عن طريق القروض.

يسمّي البعض هذا المفهوم "دين المجتمع"، وهو مؤشر تحذيري سابق للحكومة الألمانية. خصّص ماكرون وميركل مبلغ 560 مليار دولار لهذه الخطة، وأضافت فون دير لاين 250 ملياراً.

نقطة تحوّل لأوروبا

بفضل هذه الخطة، تستطيع المفوضية الأوروبية أن توزع ضعف هذه المبالغ تقريباً في السنوات القليلة المقبلة، كما فعلت سابقاً، وقد بدأ نفوذها يتوسع لهذا السبب. يصعب أن نتخيل استعداد ميركل لتقديم هذا الامتياز إلى يونكر. تقول فون دير لاين: "من دون ثقة، كانت الخطة لتصبح مستحيلة. نحن نقدّر بعضنا البعض. قد لا نتفق دوماً، لكننا نستطيع الاتكال على بعضنا بالكامل. نحن نعرف بعضنا جيداً".

تشمل خطة فون دير لاين أكثر من 20 بنداً قانونياً. طوال أسابيع، تجادل المسؤولون حول جميع التفاصيل. هي اتصلت بكل واحد من قادة الدول الأعضاء السبعة وعشرين مرتين أو ثلاث مرات، في محاولةٍ منها لردم الهوة بين الشمال والجنوب، وبين الجنوب والشرق. تقول فون دير لاين بكل تفاؤل: "أدرك الجميع المسائل التي أصبحت على المحك. ستتحسّن فرصنا حين ننجح في الخروج من هذه الأزمة معاً".

لكن لا تتوقع فون دير لاين أن تحقق هدفها من دون مساعدة ميركل. ولا أحد يتوقع أصلاً تحقيق أي إنجاز خلال القمة عبر الفيديو في 19 حزيران. اجتمعت هولندا والنمسا والسويد والدنمارك تحت اسم "الرباعي المقتصد" خلال المحادثـــات حول ميزانية الاتحاد الأوروبي. لا تحبذ هذه البلدان رغبة الاتحاد الأوروبي في محاربة الأزمة عبر الاستدانة.

تأمل ميركل وفون دير لاين في أن يسهم هذا الزخم المتجدد في حل مشاكل إضافية. يتألف البرنامج الرسمي للرئاسة الألمانية في مجلس الاتحاد الأوروبي من 24 صفحة وتتمنى الحكومة الألمانية إقراره قريباً. هو يُركّز بشكلٍ أساسي على فيروس كورونا وعواقبه، بالإضافة إلى خطة "بريكست" والعلاقة مع الصين وإصلاح سياسة اللاجئين الأوروبية. تريد ألمانيا أيضاً أن تطلق حملة لدعم الحد الأدنى للأجور ومحاربة بطالة الشباب وفقدان التنوع البيولوجي. يحتاج نظام التجارة العالمي إلى الدعم أيضاً.

حتى الآن، تشعر البلدان الشريكة بالتفاؤل تجاه الرئاسة الألمانية والقيادة المشتركة بين ميركل وفون دير لاين. يقول وزير المالية الفرنسي برونو لومير: "في هذه الظروف، من المفيد طبعاً أن تكون أورسولا فون دير لاين وأنجيلا ميركل على معرفة سابقة وأن تتبادلا الثقة منذ سنوات. هذا النوع من التقارب يضمن إحراز التقدم ويُسهّل اتخاذ القرارات".

حدّد وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو من جهته ثلاث أولويات، أبرزها صندوق التعافي ثم ملف الهجرة. يريد دي مايو من ميركل أن تُخصص مبالغ إضافية لضمان استقرار شمال إفريقيا. كذلك، يرغب هذا الأخير في دعم المؤتمر حول مستقبل أوروبا، رغم توسّع النزعة إلى التشكيك بالاتحاد الأوروبي في إيطاليا، على أمل تحقيق نوع من الاتحاد المالي.





فـــــســـــحـــــة أمـــــل

يقول ماريو مونتي، رئيس الحكومة الإيطالي خلال أزمة اليورو في العام 2011: "على ميركل اليوم أن تنهي الخطط غير المنجزة، ولا أشك في قدرتها على النجاح. لقد أثبتت ألمانيا أنها تتمتع بقوة قيادية هائلة وسلطة ممتازة. ما تفعله برلين لتقديم مواردها المالية الخاصة لأوروبا أمر استثنائي".

حتى بولندا بدأت تنظر بإيجابية إلى الرئاسة الألمانية للمجلس. كانت ألمانيا تحمل سمعة سيئة بين أعضاء معسكر اليمين البولندي الذي يحكم البلد في الوقت الراهن، على اعتبار أن برلين لم تتخلّ يوماً عن مساعيها لكسب نفوذ عالمي.

لكن تتصرف وارسو اليوم بطريقة براغماتية رغم عنادها الإيديولوجي من وقتٍ لآخر. منذ انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يفتقر السياسيون القوميون المحافظون في بولندا إلى قدوة حقيقية وشريكة فعلية في الاتحاد الأوروبي. لذا لم يبقَ أمامهم إلا الألمان. ولهذا السبب، أمّنت الحكومة البولندية أغلبية لأورسولا فون دير لاين في البرلمان الأوروبي.

في ألمانيا، من المتوقع أن تبقى المعارضة تجاه السياسة المؤيدة للاتحاد الأوروبي ضئيلة، إلا من جانب "الحزب البديل من أجل ألمانيا" اليميني الشعبوي الذي نشأ في الأساس كحزبٍ معارض للاتحاد. في المقابل، سيدعم "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" و"الاتحاد الاجتماعي المسيحي" المستشارة الألمانية. يوضح غونثر كريشبوم، رئيس اللجنة الأوروبية في البرلمان الألماني: "لقد تلاشت الرغبة في التمرد. الوضع الراهن يسمح لأنجيلا ميركل باتخاذ خطوات لم تكن ممكنة في السابق". هو يعني بهذا الوضع النتائج الإيجابية التي حصدتها ميركل في الاستطلاعات وصدمة فيروس "كوفيد - 19".

يحمل فلوريان هان، المتحدث باسم السياسة الأوروبية في الكتلة البرلمانية المؤلفة من "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" و"الاتحاد الاجتماعي المسيحي"، وجهة نظر مشابهة: "لم يعد الوقت مناسباً لأي مواقف شائبة. فيروس كورونا قادر على تدمير أوروبا". هو يزعم أن هذا الواقع بات واضحاً للكثيرين. هان ليس مجرّد سياسي يُركّز على أوروبا، بل إنه نائب أمين عام "الاتحاد الاجتماعي المسيحي" أيضاً، وهو من أقرب المسؤولين إلى زعيم الحزب ماركوس سودير. يعترف هان بحجم الخبرات والدروس التي يمكن أن يستخلصوها من تجربة أوروبا.

برأي دانيال كاسباري، رئيس كتلة "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" و"الاتحاد الاجتماعي المسيحي" في البرلمان الأوروبي، زادت أهمية تقوية الاتحاد الأوروبي من وجهة نظر الأحزاب نظراً إلى تنامي نفوذ الصين والتطورات الحاصلة في الولايات المتحدة: "لتحقيق هذه الغاية، ستحصد ميركل دعماً واسعاً من الحزبَين حين تستلم ألمانيا رئاسة المجلس".

في ظل هذا الكم من الدعم، تستطيع ميركل أن تأخذ بعض المجازفات لتحقيق طموحات مختلفة. أو يمكنها أن تكتفي بالمضي قدماً. أدلت ميركل حديثاً بتصريح مفاجئ، فدعت إلى التكلم بجدية عن المسائل التي لا تبرع فيها أوروبا، "بما في ذلك تعديل المعاهدات، وقد تبرز الحاجة أيضاً إلى تقريب المسافات بيننا".

في المقام الأول، تفكّر ميركل بالسياسة الخارجية. غالباً ما تُشدد على أهمية أن تشكّل أوروبا جبهة موحّدة كي لا يُسحَق الاتحاد الأوروبي بين الولايات المتحدة والصين. تقضي الخطوة الأولى في هذا المجال بوقف التنسيق مع جميع الدول الأعضاء في الاتحاد حول كل تصريح عن السياسة الخارجية.

بسبب الردود العشوائية على وباء "كوفيد - 19"، بدأت ميركل تفكر أيضاً بتوثيق أواصر الاتحاد. في رسالة مشتركة مع ماكرون وقادة قوميين آخرين إلى فون دير لاين، اعتبرت ميركل أن أحداث الأسابيع الأخيرة "شككت بجهوزية الاتحاد الأوروبي للتعامل مع الأوبئة"، ثم شددت على ضرورة تبنّي "مقاربة أوروبية شاملة".

يبدو أن ميركل التي تغيّر المعاهدات ولا تنظر إلى سياسة الاتحاد الأوروبي من المنظور الألماني المحض ستُمهد لحقبة جديدة ومختلفة.


MISS 3