عيسى مخلوف

إرتياد الآفاق

30 كانون الأول 2023

02 : 00

مُنَمنَمة للواسطي

احتضنت مدينة طنجة مؤخّراً حفل تقديم «جائزة ابن بطّوطة لأدب الرحلة» التي توَّجت أحد عشر فائزاً وفائزة شاركوا في تقديم مشاريع تحقيقات وترجمات ودراسات ورحلات معاصرة. تأسّست هذه الجائزة في العام 2003 في إطار مشروع «ارتياد الآفاق» وقد أطلقه من أبو ظبي «المركز العربي للأدب الجغرافي» الذي يرعى مشاريعه الشاعر محمد أحمد السويدي، ويشرف عليه الشاعر نوري الجرّاح، ويساهم في أعماله كتّاب وباحثون ومفكّرون، من مشرق العالم العربي ومغربه. أصدر المركز حتّى الآن أكثر من 300 كتاب.

يشجّع هذا المشروع على الاهتمام بمجال الرحلة والأدب الجغرافي، ماضياً وحاضراً، من خلال البحث والتحقيق والترجمة والتأليف، وهو يشكّل مركزاً جغرافيّاً عربيّاً قائماً بذاته. أدب الرحلة لا يغطّي ما رواه الرحّالة والمستكشفون وحدهم، بل ما صاغه أيضاً الكتّاب والفنّانون والمؤرّخون. أليست الكتابة، في حدّ ذاتها، رحلة في الذات والعالم؟ ألا تفتح أجنحة الكلمات وتجعلها تحلّق بعيداً بين الواقع والمتخيَّل؟ أليست توقاً إلى المغامرة واختراق المجهول والتعرُّف على المختلِف واكتشاف ثقافات وعوالم أخرى؟ مُحَصِّلة الرحلة مخطوطات ونصوص وكُتب تضعنا أمام رقعة واسعة من أساليب هذا الأدب المتعدّد والمتنوّع، من الصيغة الوصفيّة لابن بطّوطة إلى رحلات توفيق الحكيم، إلى ألوان وإيقاعات ترشح بها الموسيقى والفنون التشكيليّة.

اكتشاف بعض البلدان من خلال الرحلة، كان ولادة جديدة لفنانين تشكيليين زاروا الشرق بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، منهم الفنانان الفرنسيّان أوجين دولاكروا وهنري ماتيس، والفنان الألماني السويسري بول كْلي. لقد سافر هؤلاء الروّاد بحثاً عن مرجعيّات أخرى آسيويّة وأفريقيّة وإسلاميّة بعدما كانت مرجعيّة الفنّ الغربي تنحصر في الفنّ الإغريقي والنهضة الإيطاليّة.

ولئن كان وصف الأمكنة والأحداث المرويّة دقيقاً لدى البعض، فإنّ هذا الأدب لا ينحصر في قراءة واحدة للموضوع نفسه، إذ يتخلّله بُعد ذاتي يعكس نظرة الكاتب وذائقته الشخصيّة وثقافته العامّة. ثمّة مدن، كالقدس وباريس والبندقيّة ونيويورك، كُتبَت عنها مئات الكتب التي ساهمت في صياغة هويّتها، بل منحتها هويّة أدبيّة، بعدما تركت أثرها في المخيّلة الجماعيّة ككلّ.

من جانب آخر، تحضر الرحلات المتخيّلة بقوّة في الأدب، وهذا ما تجلّى منذ ألوف السنين. في مطلع اللوحة الخامسة من ملحمة جلجامش، وردت العبارة الآتية: «وقفا مذهولَين ينظران إلى جَمال الأرز (...) ظلُّه وارفٌ، يملأ القلب بالفرح والبهجة». من جلجامش إلى رحلة عوليس كما وصفها هوميروس في الأوديسّة، إلى رحلات السندباد التي يتزاوج فيها الواقع والمتخيّل بصورة مدهشة... في الزمن الحديث، لم تبدأ الرحلات المتخيّلة مع جول فيرن ولويس كارول وإرنست همنغواي، فهي تضرب جذورها في الماضي البعيد مع شعراء وكتّاب من أمثال المعرّي ودانتي وثربانتس.

العلاقة بين الإدراك والحُلم عبَّرَ عنها كتّابٌ وفنّانون منذ القِدَم، خصوصاً في القرنَين الماضيَين. الهدفُ الأوّل، بالنسبة إلى المبدع، ليس الإبداع في حدّ ذاته، وإنّما الفهم والإدراك من خلال طَرق أبواب المجهول، والاقتراب من ألغاز العالم الذي نعيش فيه وننتمي إليه. هنا، يلتقي الحلم والعلم. وهنا تكمن أيضاً قوّة الفنّ الحقيقي. وما نشاهده من أعمال إبداعيّة، في جميع الحقول والمجالات، ما هو إلّا السعي إلى إدراك الذات الداخليّة، والطريق الذي يأخذنا من المرئيّ إلى اللامرئيّ، إلى الآفاق التي تُلوِّح لنا من بعيد. وهذا ما أشارت إليه الشاعرة اليونانيّة سافو، منذ أكثر من 2600 سنة، عندما عبَّرت عن تَوقها إلى ملامسة السماء واحتضانها بذراعيها.

في هذا السياق، ثمّة كُتب تصف مدناً لا وجود لها في أيّ أطلس كان. في كتاب «المدن اللامرئيّة»، يتحدّث الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو عن خمس وخمسين مدينة غير موجودة، يصفها ماركو بولو للإمبراطور قوبلاي خان، ويأخذنا من خلالها إلى أماكن اجترحتها مخيّلة الكاتب. إنها تأمّلات شعريّة لا تخلو من فلسفة وحكمة، وهذا ما يطالعنا كذلك في كتاب «الأمير الصغير» للكاتب الفرنسي أنطوان دو سانتيكزوبيري الذي يروي كيف هبطت طائرته في الصحراء حيث التقى بطل حكايته الآتي من كوكب آخر لا تتجاوز «مساحته مساحة بيت صغير...».

مع تطوّر وسائل المواصلات والتواصل بين البشر، تغيَّر معنى السفر نفسه، وهذا ما يرصده أيضاً مشروع «ارتياد الآفاق» الذي يسعى، عبر الأدب والبحث والترجمة، إلى لقاء الأنا والآخر على أسس موضوعيّة، وإلى الحوار المتكافئ وتعزيز القواسم الثقافيّة المشتركة بين العرب والعالم، والتطلُّع إلى عقد اجتماعي جديد لإنسانيّة جديدة.

MISS 3