ليسلي فينجاموري

كيف سيتأثّر العالم بأي مواجهة إنتخابية أخرى بين ترامب وبايدن؟

9 كانون الثاني 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

يبدو أن السياسات الضيقة ستوجّه نتائج الانتخابات في أنحاء العالم هذه السنة، بما في ذلك الولايات المتحدة. يشعر شركاء واشنطن وحلفاؤها بالقلق من احتمال أن يعود دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وهم ليسوا مستعدين للتعامل مع تداعيات فصل العالم عن القوة والقيادة الأميركية. لكن حتى لو كانت الانتخابات تتأثر في المقام الأول بالمشاكل الداخلية، لا مفر من التساؤل عن تأثيرها على السياسة الخارجية.

من الواضح أن الفريق الذي يعتبر سياسات جو بايدن تجاه الصين مجرّد امتداد لسياسات ترامب يبالغ في تبسيط الوضع. كان أسلوب ترامب صاخباً، وفوضوياً، وتخريبياً، وسيبقى كذلك. أما بايدن، فهو طبّق دبلوماسية مدروسة ومتسلسلة ورفيعة المستوى، وهي تهدف إلى السيطرة على الاضطرابات ومنع الحوادث أو سوء التفاهم من تأجيج الصراعات عن غير قصد.

في المقابل، اقتصرت استراتيجية ترامب لكبح النفوذ الاقتصادي الصيني على فرض الرسوم بشكلٍ شبه حصري. لكن إذا عاد ترامب إلى السلطة، قد يحاول مع فريقه فك جميع أشكال الارتباط بين هذين الاقتصادَين القويَين.

وإذا عاد ترامب إلى البيت الأبيض، ستكون عواقب عودته خطيرة بالنسبة إلى العلاقات الأميركية الصينية. سيشعر شركاء واشنطن في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ وأوروبا بتلك التداعيات ويضطرون للقيام بخيار شائك بين الولايات المتحدة المتغطرسة والتخريبية والصين.

على صعيد آخر، تختلف سياسات الرجلَين بطريقة جذرية في مجال التغير المناخي وتايوان، ومن المتوقع أن تتغير السياسة المعتمدة في هذين الملفَين إذا تغيّر الرئيس. أكثر ما يثير القلق في عهد ترامب الثاني هو تعرّض الالتزام الأميركي بالتعددية لهجوم مباشر، مبدئياً وعملياً.

طوال أكثر من سبعة عقود، شكّلت الولايات المتحدة ركيزة أساسية للنظام متعدد الأطراف. كان هذا النظام يهدف إلى ترسيخ السلام والاستقرار والازدهار. تظن واشنطن أن فرص النجاح ستزيد إذا تعاونت مع شركائها جماعياً بدل التحرك وحدها. قد لا يكون ذلك النظام المدعوم من الولايات المتحدة مثالياً، لكنه طرح مجموعة من المبادئ والقواعد التي ساهمت في رفع مستوى الشفافية والثقة.

يتعامل العالم اليوم مع مشاكل لا يمكن أن يعالجها بلد واحد، مهما كان قوياً. أثبتت الحرب الروسية في أوكرانيا قوة الوحدة الغربية وأهميتها. في غضون ذلك، بدأ التغير المناخي يزعزع دولاً كثيرة لم تكن المسؤولة الأولى عن تفاقم هذه المشكلة. يتطلب نطاق جميع الحلول المتاحة شكلاً من التعاون الدولي.

مع اقتراب انتخابات العام 2024، يخشى الكثيرون أن تفتقر الولايات المتحدة إلى قوة ثابتة وأن تتخذ واشنطن خطوات انعزالية لا رجعة عنها إذا عاد ترامب إلى سدة الرئاسة.

لن يكون تراجع التعددية حتمياً، حتى لو لم يفكر عدد كبير من الناخبين الأميركيين بالسياسة الخارجية أو أهمية التعددية حين يقصدون صناديق الاقتراع في العام 2024.

يطرح أبرز مرشحَين للرئاسة الأميركية خياراً بين مقاربتَين مختلفتَين بالكامل للتعامل مع النظام العالمي المستقبلي. تضع مقاربة بايدن الشركاء والشراكات في صلب الاستراتيجية الأميركية وتهدف إلى إصلاح إطار العمل التعددي عند الإمكان وتجاوزه عند الحاجة، شرط اتخاذ القرارات بالشراكة مع الآخرين.

أما مقاربة ترامب، فهي تعتبر النظام القائم مضاداً للمصالح الأميركية. بدل محاولة إصلاح إطار العمل المعتمد في المؤسسات متعددة الأطراف أو بناء هياكل مؤسسية أصغر حجماً وأكثر مرونة وحيوية، تؤيد هذه المقاربة السياسات المبنية على المصالح الخاصة وتدعم نهجاً هدفه تخريب النظام الدولي.

لا يُعتبر هذان التوجهان مجرّد أفكار نظرية، فقد اتضحت آثارهما العملية على مر العهد الرئاسي الأميركي الراهن وخلال العهد السابق. سارع بايدن، في أول سنة له في السلطة، إلى تجديد مشاركة الولايات المتحدة في منظمة الصحة العالمية، واتفاقيات باريس، ومجلس حقوق الإنسان. كما أنه سعى إلى طمأنة شركاء واشنطن في الناتو حول استمرار الالتزام الأميركي بشؤون الحلف.

قد لا تختلف سياسات ترامب وبايدن كثيراً في مسألة واحدة. فيما تعامل الأميركيون من الطبقة العاملة مع تداعيات العولمة المتحررة وتأثيرها على الصناعة، وفي ظل توسّع مظاهر اللامساواة على مستوى المداخيل، طغت السياسة الحمائية على التجارة التي كانت يوماً القلب النابض للسياسة الأميركية الدولية.

لكن يبقى كبح التقدّم مختلفاً عن تلاشي الطموحات بالكامل. إذا عاد ترامب إلى البيت الأبيض، سيصبح احتمال تخلي الولايات المتحدة عن منظمة التجارة العالمية واقعياً جداً. كذلك، سيتخذ دعم السياسات الحمائية منحىً جديداً إذا أصرّ الرئيس على هدفه المعلن الذي يقضي بفرض رسوم بنسبة 10% على جميع السلع المستوردة.

عملياً، ستترافق عودة ترامب إلى البيت الأبيض مع انهيار الالتزام الأميركي بالتعددية. سعى بايدن من جهته إلى تحقيق المصالح الأميركية عن طريق الشراكات، بينما يرفض ترامب مبدأ التعددية ويسعى إلى تخريبه دوماً. قد يعني عهد ترامب الثاني إذاً انهيار الالتزام الأميركي الرسمي بمعالجة أخطر مشكلة وجودية في عصرنا (التغير المناخي) بين ليلة وضحاها. كذلك، ستصبح السياسة الأحادية القابلة للاشتعال بديلة عن الدبلوماسية الحذرة التي طبّقتها إدارة بايدن للتعامل مع الصين.

من بين جميع مناطق العالم، كانت أوروبا أكبر مستفيدة من الاستثمارات الأميركية طوال أكثر من سبعة عقود في إطار نظام دولي يدعم التعددية. لكن لا مفر من تغيّر هذا الوضع سريعاً في عهد ترامب الثاني. أدى الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا إلى تقوية الوحدة العابرة للأطلسي وأكّد على الالتزام الأميركي بحلف الناتو والأمن العابر للأطلسي. سيتخلى ترامب على الأرجح عن هذه الالتزامات كلها ويسعى مجدداً إلى جعل ألمانيا دولة منبوذة واسترجاع صداقة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كذلك، قد يؤدي انسحاب الولايات المتحدة من أوروبا إلى تغيّر حظوظ أوكرانيا، فتصبح أوروبا هشة وتضطر بنفسها للدفاع عن أوكرانيا أولاً ثم المشاركة في إعادة إعمارها.

لكن لا تشعر جميع دول العالم بالقلق من عودة ترامب. قد تستمتع البلدان التي تبغض النفوذ الأميركي والنظام التعددي الذي يقوده الغرب بتفكك ذلك النظام وانقسامه إلى كتلتَين: كتلة للغرب، وكتلة أخرى لبقية الأطراف. تحتل الصين المرتبة الأولى في هذه القائمة، وتقع روسيا على بُعد خطوات منها في هذا الترتيب.

قد تُسَرّ أطراف أخرى بتوسيع هامش استقلاليتها في عالمٍ يخلو من تقلبات القوة الأميركية أو يفتقر إلى الضغوط التي تدفعها للانحياز إلى طرف دون سواه. اضطلعت الهند بدور قيادي خاص بها واستفادت من ترأسها لمجموعة العشرين لفرض قوتها على الساحة الدولية. تتابع نيودلهي الضغط لزيادة عدد الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، لكنها لا تكف أيضاً عن المشاركة في اجتماعات مجموعة «بريكس» ومنظمة شنغهاي للتعاون للتأكيد على دورها في كبح طموحات المنصات متعددة الأطراف التي تمنح الصين النفوذ اللازم لرسم معالم النظام الدولي.

لا تزال الجهود الأميركية الرامية إلى التصدي للنفوذ الصيني في الجنوب العالمي حديثة العهد. في حزيران 2021، اجتمعت دول مجموعة السبع في «كورنوال»، إنكلترا. أثبت الإعلان عن التزام جماعي بمبادرة «إعادة بناء عالم أفضل» (سُمّيت لاحقاً «الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار») أن بايدن أراد توحيد صفوف الاقتصادات الغربية الرائدة لدعم بديل تنموي مبني على قيم واضحة. كانت بداية هذه الجهود بطيئة، لكنها قد تتباطأ مجدداً إذا حصلت عملية انتقالية مضطربة في البيت الأبيض.

من المتوقع أن تتردد أصداء نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية في أنحاء العالم. ونظراً إلى أهميتها، تشعر بقية الدول بأنها تملك حق المشاركة في التصويت أيضاً. لكن في ظل غياب حق الاقتراع، لن يكون الوقوف على الهامش والاكتفاء بالتفرّج على الوضع جزءاً من الخيارات البديلة المحتملة.

حان الوقت إذاً للتفكير بأسلوب استراتيجي وتكتيكي لتسخير القوة الأميركية. يُفترض أن تفكر أوروبا بما يمكن فعله كي تصبح شريكة أساسية للولايات المتحدة، بدل أن تحصر تركيزها بتحقيق هدف معاكس. في غضون ذلك، يجب أن تسارع دول مجموعة السبع إلى تحقيق طموحاتها في الجنوب العالمي. لن يكون لوم قادة أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية على سجلاتهم السيئة في مجال حقوق الإنسان أو فسادهم المستمر مؤثراً جداً في ظل غياب ديمقراطية سليمة محلياً والتزام قوي بتقديم الدعم المادي لتخفيف تداعيات الديون المتزايدة، والكوارث المرتبطة بالمناخ، ونقص المواد الغذائية. في المقام الأول، يجب ألا تخسر أوروبا أهميتها في الحرب القائمة بين إسرائيل وحركة «حماس»، بل يُفترض أن تسعى إلى تأمين المساعدات الإنسانية وتسهيل الوصول إلى حل سياسي واقعي ومستدام.

قد لا تتمكن بقية دول العالم من المشاركة في التصويت، لكن يُفترض أن تستعد لنشوء حكومة أميركية قد تصبح مضطربة وغير متوقعة وفوضوية لكنها تحمل طموحات عالمية.

MISS 3