كلوتيلد مرافكو ولور ستيفان

المموّلون الغربيّون يُعاقِبون المنظمات العربية غير الحكومية

11 كانون الثاني 2024

المصدر: Le Monde

02 : 00

مظاهرة داعمة لغزة ولحقوق الإنسان في برلين | ٢٠٢٣

تتّكل المحامية المصرية عزة سليمان على دعم ألمانيا منذ عشر سنوات: قدّم هذا البلد دعماً مالياً لنشاطات مركز قضايا المرأة المصرية الذي أسّسته، ودعماً سياسياً لها حين وقعت ضحية القمع في القاهرة، على غرار شخصيات أخرى من المجتمع المدني. لكن تحطمت هذه العلاقة القائمة على الثقة المتبادلة في خضم الحرب الصاخبة المستمرة في غزة. في شهر تشرين الثاني، علمت سليمان أن ألمانيا تتجه إلى سحب تمويلها المخصص لمشروع يُعنى بالاهتمام بالنساء اللواتي يقعن ضحية الاتجار بالبشر بعدما وقّعت سليمان، مع أكثر من مئتَي منظمة عربية، على نص يستنكر «الإبادة الجماعية المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة» ودعت إلى فرض عقوبات ضد إسرائيل، «دولة الاحتلال والفصل العنصري».

أثارت تلك الخطوة ضجة واسعة في المجتمع المدني المصري الذي يستنكر فرض هذا النوع من التدابير. تقول المحامية بنبرة غاضبة: «هل تريد السلطات الألمانية تأديبنا؟ هل تريد أن تُعلّمنا ما يحق لنا قوله؟ ما يحصل فضيحة»! تواصلت صحيفة «لوموند» مع وزير الخارجية الألماني الذي نَسَب تلك التدابير الصارمة إلى «التصريحات العلنية التي أدلى بها مركز قضايا المرأة المصرية ومؤسِّسته»، وهي مواقف تتعارض مع خط برلين، بما في ذلك «الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل اقتصادياً».

لكن يحمل هذا القرار بُعداً أكثر عمقاً. منذ وقوع هجوم حركة «حماس» الذي أسفر عن مقتل 1140 شخصاً في إسرائيل واحتجاز 240 آخرين كرهائن، في 7 تشرين الأول، بدأت ألمانيا تدقق بالمشاريع التي تموّلها في المنطقة. يوضح الوزير الألماني في ردّه الخطي: «تشمل عملية التدقيق هذه إعادة تقييم تصريحات شركائنا ومواقفهم السياسية بشأن اعتداءات حماس ودولة إسرائيل».

من الواضح أن المدافعين العرب عن حقوق الإنسان يجازفون الآن بخسارة مصادر تمويلهم إذا لم يلتزموا بالخط السياسي الذي يفضّله داعموهم في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. لكنّ الدعم غير المشروط الذي تحصل عليه الدولة العبرية من واشنطن ومعظم القادة الأوروبيين يثير سخطاً عارماً في العالم العربي. يبدو هذا الدعم غير مقبول بأي شكل في ظل المجازر المرتكبة بحق المدنيين خلال الهجوم الإسرائيلي في غزة: وفق معطيات هيئات الصحة المحلية، بلغت حصيلة القتلى أكثر من ٢٣ ألف شخص، ثلثهم نساء وأطفال.

تنوي حكومات أوروبية أخرى إعادة النظر بشراكاتها مع منظمات المجتمع المدني في الشرق الأوسط أيضاً، وتتعرض المنظمات الفلسطينية غير الحكومية لأكبر قدر من الضغوط. في نهاية تشرين الثاني، فرض الاتحاد الأوروبي على جميع العقود الجديدة المُوقّعة مع أطراف فلسطينية بنداً يمنع التحريض على الكراهية والعنف، علماً أن ذلك البند لم يكن يتعلق حتى تلك الفترة إلا بجزء بسيط من المشاريع التي تُموّلها بروكسل. يعتبر المستفيدون من هذه البرامج تلك المعادلة المستجدة مبهمة جداً، إذ يمكن استعمالها لإجبارهم على إخماد مواقف استنكار الاحتلال الإسرائيلي. تفكّر السويد من جهتها بأن تطالب شركاءها الفلسطينيين بإدانة «حماس». كذلك، أعلنت سويسرا إنهاء تعاونها مع ثلاث منظمات فلسطينية غير حكومية، على اعتبار أن مواقفها بعد 7 تشرين الأول لا تتماشى مع مبادئها.

ظلم فاضح

وفق مصدر دبلوماسي، تواجه المنظمات غير الحكومية المستهدفة تُهَماً بـ»تقبّل» هجوم حركة «حماس». خضعت ثلاث منظمات منها لتحقيق سويسري في صيف العام 2023، وخضعت ثماني منظمات أخرى، فلسطينية وإسرائيلية، للتدقيق أيضاً بعد هجوم «حماس»، قبل اعتبارها ملتزمة بالمعايير المعمول بها، بما في ذلك المنظمة الطبية الإسرائيلية «أطباء لحقوق الانسان» التي تطلق المشاريع في غزة.

في نهاية شهر تشرين الثاني، اعتبرت منظمة العفو الدولية ومئة منظمة أخرى الضغوط المتزايدة في هذه الفترة عائقاً أمام حرية الرأي والتعبير. تُعتبر هذه الأوامر الزجرية في الشرق الأوسط انعكاساً لانحراف السياسات في أوروبا نحو أفكار معسكر اليمين. تبدو المقاربة التي تتبناها برلين في هذه المرحلة منحازة انطلاقاً من شعورها بالذنب بسبب محرقة اليهود تاريخياً. نتيجةً لذلك، بدأ تصلّب مواقف الممولين يوسّع الفجوة بين طرفَي البحر الأبيض المتوسط بسبب النظرة التي يحملها كل طرف عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني: بالنسبة إلى المناضلين العرب في مجال حقوق الإنسان، كان تجريد الفلسطينيين من أملاكهم عند تأسيس دولة إسرائيل في العام 1948 ظلماً فاضحاً.

تجازف الشروط المفروضة على المنظمات غير الحكومية بإضعاف المجتمعات المدنية التي تتكل بشدة على الأموال الغربية. لكن ستخسر تلك المنظمات مصداقيتها ميدانياً إذا التزمت الصمت إزاء المجازر المرتكبة في غزة. يقول وديع الأسمر، رئيس «الشبكة الأوروبية المتوسطية لحقوق الإنسان»: «بدأ الناشطون يتعرضون لضغوط مفرطة. في العالم العربي، هم يستنكرون جمود الغرب بأقوى الطرق، وكأنهم يعملون لحسابهم الخاص. وفي أوروبا، تخضع مواقفهم للتدقيق: إما أن يلتزموا الصمت أو تُعتبر أي إدانة لعمليات القصف في غزة دعماً لحركة «حماس» أو شكلاً من معاداة السامية. حصلت بعض التعديلات غير المتوقعة في بيانات بعض المنظمات غير الحكومية، لكن يتجه الممولون بكل وضوح إلى تهميش القضية الفلسطينية».

بالنسبة إلى الناشطين، أصبحت قيمة الشراكات ومكانة حقوق الإنسان حول العالم محط شك. تعليقاً على الموضوع، يقول محمد لطفي، رئيس المفوضية المصرية للحقوق والحريات: «يعتبر سكان المنطقة حرب غزة إثباتاً على وجود استثناءات في طريقة احترام الحقوق الدولية. من الأسهل على حكوماتنا أن تهاجمنا حين نتكلم عن حقوق الإنسان». تضيف عزة سليمان: «لطالما أدركنا أن الممولين قد يستعملون حقوق الإنسان كأداة بحد ذاتها لتحقيق مصالحهم السياسية الخاصة. لكنّ ما يحصل اليوم غير مسبوق».

بشر من الدرجة الثانية


بدأت بعض الأصوات تتمرد على ما يحصل. في مصر، أوقفت «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية»، أكبر منظمة غير حكومية للدفاع عن حقوق الإنسان، جميع أشكال التعاون مع السفارة الألمانية بسبب موقف ألمانيا من أحداث غزة. وفي الأردن، أعادت الخبيرة القانونية هديل عبد العزيز «الجائزة الدولية للمرأة الشجاعة» التي تلقّتها في شهر آذار من السلطات الأميركية خلال احتفال في البيت الأبيض.

توضح هذه المناضلة في مجال حقوق الإنسان فيما ترتسم معالم التأثر على وجهها: «رسالتي هي الدفاع عن العدالة من أجل الأشخاص الأكثر ضعفاً. في غزة، يجمع الأهالي أشلاء أطفالهم وتواجه العائلات مظاهر الجوع والعطش. تمنع الولايات المتحدة كل محاولة للاتفاق على وقف إطلاق النار! أنا أرفض ربطي بموقفهم». في تشرين الأول، وقّعت عبد العزيز، مع تسعة فائزين آخرين بجائزة فرنسية ألمانية لحقوق الإنسان من مصر، والأراضي الفلسطينية، ولبنان، والكويت، على رسالة موجّهة إلى سفراء ألمانيا وفرنسا في بلد كل واحد منهم وكتبوا فيها: «لا يمكننا إلا أن نفكر أنكم تعتبرون الناس في غزة بشراً من الدرجة الثانية. وربما يمتد هذا المفهوم إلى جميع الشعوب العربية».

بحسب عدد من المناضلين في مجال حقوق الإنسان، بدأت النقاشات تحتدم على المستوى الإقليمي لطرح نماذج عمل مختلفة. لكن بعد تصلّب المواقف الأوروبية، يتوقع الكثيرون أن تزيد صعوبة هذه المهمّة لأن الأنظمة الاستبدادية ستسارع للتكلم عن انهيار «الدروس» الغربية بشأن حقوق الإنسان تحت أنقاض الحرب المستمرة في غزة.

MISS 3