يوسف مرتضى

وداعاً كريم مروة

11 كانون الثاني 2024

02 : 00

في آخر صور له (رمزي الحاج)

رحل المفكر والمبدع والمناضل، الرفيق كريم مروة عن عمر 94 عاماً، عاش خلالها حياة صاخبة، مليئة بالكفاح والإبداع، وحتى آخر يوم في حياته، لم تفارقه فكرة البحث والكتابة والعمل من أجل أن يكون في لبنان دولة مواطنة ديمقراطية سيدة وعادلة، ومن أجل وطن عربي لكل كيان فيه خصوصياته المبنية هي أيضاً على قواعد الديمقراطية والتعددية والعدالة والتكامل في ما بينها. ولم تغب يوماً عن اهتماماته فكرة بناء الإشتراكية الأكثر إنسانية. كتب آلاف المقالات، وبلغت مؤلفاته 45 كتاباً إضافة إلى عشرة كتب هي تحت الطبع، وكان آخرها: «عباقرة الفكر والأدب والفن في روسيا من زمن القياصرة إلى العصر السوفياتي»، الذي شرّفني وطلب مني كتابة تقديم له. تعود معرفتي بالرفيق كريم مروة إلى بدايات العقد السابع من القرن العشرين في شراكتنا النضالية كرفيقين في الحزب الشيوعي اللبناني، الذي نعتز بانتمائنا إليه والنضال في صفوفه لعقود عدة، أصبنا خلالها وأخطأنا، ولكنها كانت حقبة الزمن الجميل في حياتنا.

الرفيق كريم الذي شهد بغصّة الذات الحرّة على إكراه الشهيد فرج الله الحلو كتابة رسالة «سالم» المذلّة في الزمن البكداشي، قاد مع الراحلين نقولا الشاوي ونديم عبد الصمد والشهيد جورج حاوي ومع غسان الرفاعي وآخرين، عملية التحديث التاريخية في الحزب الشيوعي اللبناني في مؤتمره الثاني عام 1968، التي أسست لنهضة شعبية وطنية ولدور عربي فاعل للحزب، وحضور مفصلي مميز في الحياة السياسية اللبنانية في العقود التي تلت. وشكّل إطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي في العام 1982 ذروة النهضة الشيوعية اللبنانية في خيار الحزب من أجل «وطن حر وشعب سعيد». وكان الحزب الشيوعي اللبناني بقيادة جورج حاوي السبّاق في ممارسة النقد الذاتي على مشاركته في الحرب الأهلية البغيضة.

ثم كان لي شرف المشاركة مع الرفاق جورج حاوي وكريم مروة وجورج البطل وغسان الرفاعي وسمير سعد في صياغة موضوعات المؤتمر السادس للحزب عام 1992، وهي المحطة الثانية بعد المؤتمر الثاني التي تصدت فيها قيادة الحزب لتحديث رؤية وبرنامج وتنظيم الحزب، بعد انهيار التجربة الاشتراكية في الإتحاد السوفياتي، ووقف الحرب الأهلية في لبنان بعد اتفاق الطائف.

غير أنّ فشلنا في إجراء عملية التحديث تلك لم يثننا الرفيق كريم وأنا عن متابعة النضال الفكري والسياسي والميداني كل على طريقته من خارج التنظيم الحزبي، في خدمة ذات الهدف «وطن حرٌ وشعبٌ سعيد»، والذي يتمثّل في اللحظة الراهنة كهدف ثوري في النضال من أجل بناء دولة القانون والمؤسسات المدنية الديمقراطية التعددية السيدة والعادلة بتطبيق دستور اتفاق الطائف دون استنسابية أو اجتزاء.

لقاءات أسبوعية

منذ ما بعد المؤتمر الثامن للحزب عام 1999، واظبنا على لقاءات أسبوعية في منزل الرفيق الراحل جورج البطل مع الشهيد جورج حاوي والرفيق مصطفى أحمد، وكان بين الحين والآخر ينضم إلينا الرفيقان كريم مروة وغسان الرفاعي، وغالباً ما كانت مواضيع اللقاءات تلك تتركّز على التداول بواقع الحياة السياسية في لبنان وبلدان المحيط، ودائماً كان ينشدّ البحث والنقاش فيها إلى كيفية بناء حركة التغيير في لبنان ودور الحزب الشيوعي الغارق في أزماته الفكرية والسياسية.

وفي مساء 20 حزيران من العام 2005 كان لقاؤنا الأخير الرفيق كريم مروة والرفيق مصطفى أحمد والرفيق سمير سعد وأنا مع الرفيق الشهيد جورج حاوي في منزل الرفيق الراحل جورج البطل في مار تقلا، الحازمية. وفي صبيحة اليوم التالي في 21 حزيران تمكّنت يد غدر القوى الظلامية من اغتيال الرفيق جورج حاوي بعبوة ناسفة في سيارته.

بعد استشهاد الرفيق جورج حاوي، تابعنا لقاءاتنا الأسبوعية مساء كل يوم ثلاثاء، الرفيق كريم مروة والرفيق مصطفى أحمد وأنا مع الرفيق جورج البطل في منزله بالحازمية، وبعض الأحيان كان ينضم إلينا فيها الرفيق طوني فرنسيس والرفيق المرحوم المفكر العراقي فالح عبد الجبّار، والصديق طوني ألكسندروس. واستمرت لقاءاتنا هذه منتظمة حتى خريف عام 2016 تاريخ وفاة المرحوم الرفيق جورج البطل.

ولا يفوتني أن أذكر، أنه كنت مع الرفيق كريم وبموازاة لقاءاتنا عند الرفيق جورج البطل مساء كل يوم ثلاثاء، كنا نلتقي دورياً مساء كل يوم خميس مع السيد هاني فحص في منزله في الضاحية الجنوبية، ونتداول بالأوضاع السياسية المحلية والإقليمية، ولم تغب عن نقاشاتنا أحوال الطائفة الشيعية وما بلغه «حزب الله» من قدرة على إمساك القرار فيها بدعم غير مسبوق من إيران وتأثير ذلك على مستقبل لبنان. كما لم تخل جلساتنا من الاستماع والاستمتاع بالشعر الذي يتلوه علينا البليغ وخفيف الظل الأديب والمفكر المبدّع المرحوم السيد هاني فحص الذي وافته المنية في خريف العام 2014.

مهموم بالأسئلة والأفكار

الرفيق كريم رغم تقدمه بالسن بقي مهموماً بالأسئلة والأفكار عن مستقبل لبنان وشعبه، والأمة العربية ومصيرها وحرية وسعادة الإنسان في كل مكان. فإلى كتاباته عن تجاربه النضالية والثقافية، وعن دوره الخاص في الحزب الشيوعي اللبناني، وعن الحرية والديمقراطية والاشتراكية في زمن التحولات الكبرى العلمية والتكنولوجية والاقتصادية، ونظام العلاقات الدولية، خصص كتاباً عن الشخصية اللبنانية، وأضاء في كتب آخرى على الأديان، وسلّط الضوء فيها على دور العديد من الشخصيات الدينية والمدنية اللبنانية والعربية والعالمية، التي لعبت أدواراً في التحديث والتطوير. كما خصص كتباً استحضر فيها أعلاماً في الثقافة والإبداع، لبنانيين ولبنانيات، عرباً وعربيات، ليضعها في يد الأجيال الصاعدة تستلهم منها ما يحفّز على التفكير في صناعة المستقبل. وسلّط الضوء في كتابه الـ45٥ على أهم المفكرين والمبدعين والفنانين الروس الذين كان لهم دور مؤثر في تهيئة وإنضاج الظروف لانتصار أهم ثورة في القرن العشرين، عنيت بها ثورة أكتوبر 1917. تلك الثورة وذاك النظام الذي نجم عنها، ومهما قيل فيه، يبقى أنه شكّل على مدى ثلاثة أرباع القرن العشرين مصدر إلهام للعديد من قوى التحرر والقوى الثورية في مختلف القارات، وأسهم إلى حدٍ كبير في هزيمة النازية الهتلرية وفي فرض توازن في العلاقات الدولية لعقود عدة في زمن الحرب الباردة.

وحتى الأسبوع الأخير من حياته لم ينقطع التواصل بيني وبين الرفيق كريم، ولا اللقاءات في قهوة الروضة، أو في الزيارات المتبادلة والمشاركة في الكثير من المناسبات الاجتماعية، هذا فضلاً عن تبادل الأفكار بشكل شبه يومي في الأحداث والتطورات التي يعيشها بلدنا ومنطقتنا وما أكثرها، وفي التعليق المتبادل على مقالات أحدنا للآخر.

الرفيق كريم في يوم غيابك المؤسف، لا بد من أن أقول لك، شكراً على كل جهد بذلته في طريق إغناء الفكر والثقافة. وأن أكبر فيك تلك الإرادة الحية في المثابرة على الإنتاج المعرفي حتى الرمق الأخير من حياتك. أمثالك لا يموتون، فأنت خالدٌ في ذلك المخزون الفكري والقيمي والنضالي الذي أودعته للأجيال القادمة في كتبك وسيرتك المحفوظة في ذاكرة كل من عرفك في لبنان وعلى امتداد الوطن العربي وفي العديد من المنظمات والمؤسسات الدولية.

وداعاً أيها الرفيق العزيز، ستبقى حاضراً فينا ما حيينا. وأحر التعازي للأعزاء، نجوى وغسان وهانية، والحفيدات والأحفاد، والأشقاء والشقيقات وجميع محبيك من الرفيقات والرفاق.





MISS 3