إيريك إيدلمان وسينان جيدي

على الولايات المتحدة أن تُشدّد موقفها من تركيا

12 كانون الثاني 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان في سوتشي | روسيا، 4 أيلول 2023

في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان، تدهورت العلاقات الأميركية التركية تزامناً مع سيطرته على السياسة التركية طوال عقدَين. منذ العام 2003، بدأت العلاقة الثنائية بين البلدين تضعف لدرجة أن تخسر واشنطن حليفة جديرة بالثقة يمكن التعاون معها. اليوم، تتأثر هذه العلاقة بمواقف تركيا المتقلبة والمنافقة والصارمة من مجموعة مسائل أمنية أساسية.

منذ حرب الخليج الأولى، بذلت واشنطن قصارى جهدها للتعامل مع مخاوف أنقرة الأمنية في المنطقة. كانت إدارة كلينتون ثاقبة البصيرة حين أطلقت «عملية توفير الراحة» التي منعت صدام حسين من قتل المزيد من أكراد العراق، حتى أنها ضمنت نشوء «حزب العمال الكردستاني» الانفصالي في تركيا على شكل تنظيم إرهابي. خلال هذه الفترة، تقاسمت واشنطن معلومات استخبارية قابلة للتنفيذ للحد من التوغلات الحدودية من شمال العراق إلى تركيا.

لكن حوّلت تركيا نفسها لاحقاً إلى داعمة أساسية للقوات الإسلامية المتطرفة العنيفة في سوريا، فراحت الأموال والأسلحة تتدفق عبر تركيا نحو سوريا الغارقة في الصراعات. رغم الجهود الأميركية المتكررة لحل الخلافات بسبب القوات المتناحرة التي تعارض نظام بشار الأسد في سوريا، طالبت تركيا مراراً بأن تغيّر الولايات المتحدة مواقع قواتها، وأطلقت ضربات جوية ضد شركائها الأميركيين، حتى أنها أوشكت على قصف مجموعة صغيرة من القوات الأميركية الخاصة في إطار جهود جامحة وغير مسؤولة لتأجيج الحمّى القومية محلياً لدعم أجندة أردوغان السياسية الضيقة.

كذلك، احتجز نظام أردوغان مواطنين أميركيين (وموظفين محليين من الحكومة الأميركية) كرهائن افتراضيين لدفع السياسة الأميركية المحلية إلى إنهاء التحقيقات المرتبطة بتبييض الأموال ونشاطات التهرب من العقوبات من جانب أطراف على صلة بالدولة التركية. في الوقت نفسه، رفضت تركيا الانضمام إلى الغرب لفرض العقوبات على روسيا في عهد فلاديمير بوتين بعد بدء الغزو ضد أوكرانيا، حتى أنها أصبحت وجهة أساسية للتدفقات المالية غير المشروعة من الأوليغارشيين الروس الذين يريدون حماية أصولهم، وتحولت إلى نقطة عبور للسلع ذات الاستخدام المزدوج كتلك التي تُستعمل لدعم الدفاع الروسي في زمن الحرب.

أخيراً، تعاملت تركيا مع ملف انتساب السويد إلى حلف الناتو (وفنلندا قبلها) كرهينة لديها، فباتت هذه المسألة تتوقف على رغبة أردوغان في انتزاع المنافع عبر رفض خطوات كان قد دعمها بشكلٍ غير مشروط سابقاً أمام القادة الفنلنديين والسويديين، فهدّد بذلك جزءاً من أهم التكاليف الاستراتيجية التي فرضها عدوان الرئيس بوتين على اتحاده الروسي.

زاد الوضع سوءاً حين انقلب أردوغان على الغرب وحلفائه بعد هجوم «حماس» في جنوب إسرائيل، في 7 تشرين الأول، فقرر المجاهرة بدعمه لهذه الحركة. وضعت أنقرة أعضاء الجماعة المسلّحة في خانة المجاهدين أو المدافعين عن الحرية، فطرحت نفسها كعدوة لحليفة واشنطن الأساسية. الأسوأ من ذلك هو إقدام أنقرة على تأمين مكتب لحركة «حماس» داخل تركيا، تزامناً مع منح جوازات سفر تركية لكبار قادتها. تنشط «حماس» في تركيا منذ العام 2011، وهي تستعمل قاعدتها هناك لتأمين الأموال. اتّهمت وزارة الخزانة الأميركية «حماس» بتهريب أكثر من 20 مليون دولار عبر تحويل العملات في اسطنبول.

يؤكد موقف تركيا من الصراع العربي الإسرائيلي على سياستها الخارجية المخادعة والمنافقة تجاه حلفائها الغربيين. تُشَيْطِن أنقرة إسرائيل علناً بسبب حملة مكافحة الإرهاب التي تقودها في غزة، بينما تتابع الشركات التركية عملياتها التجارية مع إسرائيل. كذلك، تتعرض إسرائيل لانتقادات عدد كبير من أصحاب الشركات الذين أرسلوا أكثر من 400 سفينة حاويات إلى إسرائيل منذ 7 تشرين الأول، مع أنهم يتابعون ضمناً تجارتهم مع خصمهم المزعوم. في الوقت نفسه، تنتقد أنقرة واشنطن طوال الوقت بسبب شراكتها مع «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية، على اعتبار أن هذه الجماعة هي فرع من «حزب العمال الكردستاني» في تركيا.

قدّمت «قوات سوريا الديمقراطية» والمسؤولون الأميركيون ضمانات واسعة للتأكيد على حصر مهمّة الجماعة بالتخلص من قوات «الدولة الإسلامية»، لكن عمد أردوغان علناً إلى ترسيخ شراكته مع «حماس» التي أثبتت نواياها العدائية في 7 تشرين الأول.

لكن رغم هذا السجل السلبي وانهيار الدعم لتركيا في الكونغرس الأميركي بشكلٍ شبه كامل، امتنع المسؤولون السياسيون في إدارات متنوعة من الحزبَين الجمهوري والديمقراطي عن فرض أي تكاليف كبرى على تركيا. يتعلق السبب الأساسي بمجموعة فرضيات تفشل دوماً في إحداث تحسّن طويل الأمد في العلاقات الثنائية، بما في ذلك المفهوم القائل أن تركيا تبقى «أكبر من أن تفشل» نظراً إلى موقعها الجغرافي المهم، وأن تركيا ستتصرف كحليفة جديرة بالثقة إذا تعاملت معها واشنطن على هذا الأساس في جميع الظروف. حتى أن البعض يأمل في الفترة الأخيرة في أن تلعب تركيا دور الوساطة في الحرب المستمرة بين روسيا وأوكرانيا أو في المفاوضات المرتبطة بإطلاق سراح الرهائن الذين تحتجزهم «حماس» في غزة.

عملياً، قد يؤدي استمرار المقاربة نفسها إلى زيادة الأزمات في هذه العلاقة الثنائية بدل تقليصها، فيما يسعى أردوغان إلى انتزاع جميع المنافع الممكنة من الأحداث المتلاحقة بعد انكشاف موقفه التخريبي من توسيع حلف الناتو.

أصبحت إدارة جو بايدن بأمسّ الحاجة إلى استراتيجية طوية الأمد للتعامل مع تركيا التي ستتمسك بفكر قومي شعبوي يعادي الغرب إذا بقي أردوغان في السلطة، حتى أن هذا النهج قد يستمر بعد انتهاء عهده. في غضون ذلك، يجب أن يتذكر صانعو السياسة الغربية أن تركيا لا تزال مجتمعاً شديد الانقسام وأن نزعة أردوغان المعادية للغرب تعكس آراء حوالى 50% من السكان.

لا بد من تذكّر بعض التجارب قبل وضع استراتيجية طويلة الأمد لفرض تكاليف كبرى على نظام أردوغان، من دون التأثير سلباً على نصف السكان الموالين للغرب في تركيا. عندما طلبت الحكومة الأميركية من تركيا المساعدة لرفع حصار «الدولة الإسلامية» عن كوباني في سوريا، في العام 2014، ورفضت تركيا طلبها، اكتفت واشنطن بتنظيم عملية لتأمين إمدادات الإغاثة، فأخضعت نظام أردوغان للأمر الواقع من دون أن تتضرر العلاقة بين البلدين ظاهرياً. في المرحلة اللاحقة، سُمِـح لعناصر القوات الكردية بالمرور بالأراضي التركية لتدعيم رفاقهـــــــــــــم في محيط كوبانـــــــــــــــي، علمــــــــــاً أن هذه النتيجة لم تصبح ممكنة لولا موقف واشنطن الصارم.

وعندما أسقط الأتراك طائرة روسية بعدما قيل إنها عبرت المجال الجوي التركي من سوريا في العام 2015، أعلن الروس مقاطعتهم للمنتجات الزراعية التركية، ما دفع الأتراك إلى الاعتذار. لم تتضرر هذه العلاقة الثنائية ظاهرياً في تلك المرحلة. وعندما احتجز الأتراك المواطن والقس الأميركي أندرو برانسون بسبب تُهَم مشبوهة على صلة بتسهيل النشاطات الإرهابية، رفعت إدارة دونالد ترامب الرسوم الجمركية على السلع التركية وفرضت عقوبات على مسوؤلَين تركيَين. ثم استلم الأميركيون برانسون خلال فترة قصيرة. تكشف هذه التجارب كلها أن الخطوات التي تعاقب تركيا وتفرض عليها تكاليف كبرى قد تصبح فاعلة شرط تطبيقها بأسلوب واضح ومتماسك.

على صعيد آخر، يكشف القرار الأخير بإحالة عملية انتساب السويد إلى الجمعية الوطنية التركية الكبرى أن أردوغان أدرك على الأرجح أن جهوده المرتبطة بابتزاز الكونغرس الأميركي لدفعه إلى الموافقة على بيع طائرات «أف 16» إلى تركيا قد تعيق مساعي استلام تلك الطائرات بدل تسهيلها.

ثمة حدّ أدنى للجهود التي يُفترض أن تبذلها الولايات المتحدة لجعل الحكومة والرأي العام في تركيا يتوقعان ما ينتظرهما إذا شاركت تركيا في هذه الأنواع من التحركات المعادية للغرب، منها تسريع معاقبة الكيانات التركية التي تتهرب من العقوبات الغربية المفروضة على روسيا أو تموّل «حماس» بطرق غير شرعية، والمجاهرة بتلك العقوبات علناً.

في هذا السياق، أطلق هنري ج. باركي التحذير التالي في صحيفة «فورين أفيرز»: «في المراحل المقبلة، يجب ألا تكتفي واشنطن بمعالجة المشاكل السطحية أو تسعى للعودة إلى عصر ذهبي غير موجود في العلاقات الأميركية التركية. من خلال اتخاذ خطوات صارمة ومتماسكة، تستطيع الولايات المتحدة أن تطلق نوعاً جديداً من العلاقات، فتقيم علاقة «طبيعية» مع تركيا».

لكن يبقى القول أسهل من الفعل طبعاً. في النهاية، لا يمكن أن تنشأ سياسة خارجية مبنية على المصالح الخاصة مع الحلفاء بشكلٍ طبيعي بعدما اعتاد الأميركيون الذين يقودون التحالف الغربي على التغاضي عن الأخطاء حين يتبنى حلفاء متقلبون مثل تركيا خطابات معادية للولايات المتحدة أو سياسات معادية للغرب. لكن إذا لم تفرض واشنطن أي تكاليف على تركيا بسبب هذا النوع من التصرفات، ستُشجّع أردوغان وأعوانه بكل بساطة على متابعة المقاربة نفسها.

لمنع هذه العلاقة من الغرق في أزمات متقطعة كتلك التي شهدتها خلال العقد الماضي، تقضي الطريقة الوحيدة إذاً بتحديد معايير واضحة وتطبيقها بصرامة.

MISS 3