عيسى مخلوف

وقفة من باريس

الغريب في دياره

27 حزيران 2020

02 : 00

في التظاهرات التي شهدتها الولايات المتّحدة الأميركيّة إثر مقتل جورج فلويد، رفعت امرأة يافطة كُتب عليها: "لسنا غرباء في وطننا". تُحيل هذه العبارة إلى أحد المواضيع الأثيرة التي شغلت الكاتبة الأميركية توني موريسون، الحائزة على جائزة نوبل للآداب، وسبق أن أتينا على ذكرها في هذه الصفحة: "الغريب في دياره" أو "الغريب في بلاده". وهو أيضاً الموضوع الذي اختارته يوم دعاها متحف "اللوفر" في باريس لتقدّم سلسلة محاضرات ولقاءات تتمحور حول الغربة كما تناولها الأدب والفنون التشكيليّة والرقص والسينما.

سؤال الغربة هذا يستتبع أسئلة أخرى أوّلها: هل للغريب مكان حقّاً؟ قد يكون المرء غريباً داخل وطنه، حيث وُلد ونشأ وحيث يمضي حياته، وهذه هي حال الفلسطينيين وهنود أميركا وأهل أستراليا الأصليين. الغرباء هم أيضاً الذين يعيشون في دول لا تنتهي فيها النزاعات الطائفيّة والمشاكل والحروب، تتناسل عاماً بعد آخر وجيلاً بعد جيل، ويشكّل لبنان النموذج الأمثل لهذه الحالة.

عندما نزل الشباب والشابّات إلى الشارع في السابع عشر من تشرين الأوّل مطالبين بالتغيير وبمحاربة الفساد، اتّهمهم القابض على دفّة الحكم بأنّهم مأجورون وعملاء للخارج. منذ البداية، أراد الذين يأخذون البلد رهينة، ويصادرون حاضره ومستقبله، أن يجهضوا الثورة ويدفعوا الجيل الشابّ إلى اليأس والهجرة، وأن يتمنّى الأهل أيضاً أن يذهب أولادهم ولا يعودوا. وهذا ما سيحدث مع الانهيار غير المسبوق الذي وصل إليه لبنان. منذ الآن، هناك الألوف من الشابّات والشباب يستعدّون للرحيل ما إن تفتح المطارات وتُستأنف حركة الملاحة الجوّيّة. سيهاجر هؤلاء كما هاجر الذين سبقوهم.

غرباء هم أيضاً الذي وجدوا أنفسهم في دول تحكمها أنظمة استبداديّة، وهي حال القسم الأكبر من الأنظمة العربية. الإقامة في تلك البلدان، منذ أكثر من نصف قرن، أشبه بالإقامة في جحيم يصغر أمامه جحيم الأديان التوحيديّة.

لا مكان للغريب في هذه النار التي لا تخبو والتي تلاحقه منذ الولادة حتى الموت، ولذلك يبحث عن أرض أخرى، إذا استطاع الهرب، أو يصبح لاجئاً، أو يرمي نفسه في البحر لعلّ قوارب المطّاط تحمله إلى ضفاف أخرى. والغريب الذي يولد في جحيم تلك الدول مجتمعةً يعيش اليوم غُربة مزدوجة: الغربة التي فرضها وباء كورونا على البشر أينما كان، وتلك التي ترافقهم كظلالهم في أوطان ممزّقة كخِرَق بالية وملغومة بالرعب والخوف والقلق. أوطان يشعر فيها المرء بالاقتلاع وإن لم يبارح مكانه، ويشعر بأنه متّهم بمجرّد أن يتلفّظ بكلمة تعارض سياسة المتحكّمين في مصيره وفي وجوده، أولئك الذين يدّعون امتلاك الحقيقة لدرجة أنّ الاختلاف معهم في الرأي يصبح اختلافاً مع شيء مقدّس لا يمكن مسّه. في هذه الحال، ما معنى الانتماء إلى مكان يخلو من التعدّديّة والممارسات الديموقراطيّة، ولا رؤية معرفيّة وثقافيّة فيه، ولا احترام لإنسانيّة الإنسان ولأبسط حقوقه ولحرّيته في التعبير وتبنّي أفكار تخالف الحقائق القَطعيّة المُطلقة والتوجّهات السائدة؟

تقول توني موريسون: "لا مَخرج حين يحلّ العنف محلّ اللغة". وهي تقصد، هنا، لغة الحوار. اللغة التي تُحيي، لا اللغة التي تَقتل. خارج الحوار، يصبح الآخر المختلِف عدوّاً بالضرورة، ويُصبح مُسَوّغاً القضاء عليه باسم القضاء على نهجه وتفكيره. تصبح الفكرة الواحدة، حتى لو كانت صحيحة، مصدر خصومة ونزاع. في الواقع، لا توجد فكرة واحدة بل ملايين الأفكار، ولا توجد ديانة واحدة بل ديانات، ولا حقيقة واحدة بل حقائق. الحقيقة المُطلَقة تفتح باب الاستبداد، وتؤسّس للصراعات، وهي أساس النزاعات والحروب منذ بداية العالم.

في القرن الخامس قبل الميلاد، عرفت البشرية مع الفلاسفة الإغريق ابتكاراً كبيراً لا يقلّ أهمية عن ابتكار الكتابة، ألا وهو ابتكار الحوار. وإذا كان الحوار يطالعنا في نصوص أكثر قِدَماً، منقوشاً في الحجر والآجُرّ ومكتوباً على ورق البردي، أو ماثلاً في الأساطير التي تختصر جزءاً مهمّاً من تاريخنا القديم، فإنّ الحوار الذي يستوقفنا ونشير إليه الآن هو الحوار المبني على العقل، وهو وحده القادر على مواجهة الغرائز السلبيّة والتمهيد لخروج الإنسان من زمن إلى زمن آخر.


MISS 3