عيسى مخلوف

البحث عن المعنى خارج ثقافة الفكر المُطلَق

13 كانون الثاني 2024

02 : 00

مكتبة عامّة في باريس تحمل اسم محمّد أركون

لم يغب المفكر الجزائري محمّد أركون عن المشهد الثقافي والفكري في باريس حيث أمضى الجزء الأهمّ من حياته، وهو لا يحضر فقط من خلال المكتبة التي تحمل اسمه اليوم في شارع «موفتار» في الدائرة الخامسة، بل يحضر أيضاً، وفي المقام الأوّل، عبر أفكاره التي تؤلّف جزءاً من الأفكار التنويرية في القرن العشرين. ولئن كانت تتناول الإسلام موضوعاً لها، لكنّها تتوجّه، في آن واحد، إلى العالم العربيّ والإسلاميّ وإلى الغرب بشكل عامّ.

عمل محمد أركون طوال أكثر من نصف قرن على تقديم قراءة جديدة للإسلام بالاعتماد على مرجعيات ومناهج علمية تنطلق من الفكر النقدي العقلاني. وتبقى أفكاره، حتى بعد رحيله في العام 2010، مدار بحث في الأوساط العلمية والجامعية، غير أنّ مشروعه الفكري لم يخضع حتّى الآن إلى قراءة معمّقة في المجتمعات العربية والإسلامية، فهو لا يزال محصوراً في بعض الأوساط الجامعية والثقافيّة التي تبحث عن نوافذ أخرى وسط عالم يزداد انغلاقاً على نفسه.

لقد أراد أركون أن يوسّع ميدان الدراسات الإسلامية ويذهب إلى دراسة الظاهرة الدينية ككلّ، أي أنّه انتقل إلى تقديم دراسة نقدية مقارَنة للأديان الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام. فالمستشرقون لم يعتنوا بهذا الاتجاه ولا تزال دراسة الإسلام عند الغربيين مركّزة على الإسلام وحسب، وهذا ما دفع أركون إلى توسيع النظرة إلى الأديان، لأنّ ذلك، في رأيه، يفتح آفاقاً جديدة لتدريس الإسلام ولفهم أعمق للثقافة العربية.

لم يكن أركون بعيداً عن واقع الأوساط العلمية في العالم العربي، وكان يستقبل في جامعة السوربون الكثير من الطلبة ومن ضمنهم أولئك الذين يأتون من العالم العربي الإسلامي، وقد تبيَّن من خلالهم طرق التعليم في بيئاتهم المحلّية في الفترة الممتدّة بين ستينات وتسعينات القرن العشرين، واكتشف أن التكوين العلمي لهؤلاء الطلبة يتراجع سنة بعد أخرى، كما اكتشف ابتعاد الأساتذة عما كان يُنتج باللغات الأجنبية في العلوم الاجتماعية والأنتروبولوجية. لذلك كان يدعو دائماً إلى الاهتمام بدراسة المواضيع الجديدة كتلك التي تتعلّق بتحليل الخطاب الديني أو الدراسة المقارنة، كمقارنة تعليم الكلام عند المسلمين واليهود والمسيحيين في القرون الوسطى، كمدخل لفهم واقع هذه الأديان اليوم.

في قراءته الفكرية وتحليله النقدي للأديان والعقائد، وقف أركون ضدّ كلّ أشكال السجون والجهل والعنف، وضدّ ما أسماه «السياجات الدوغمائية» من أجل الخروج من عمى الأحكام الواحدة المطلقة والتحليق في رحابة الأسئلة الجوهرية بحثاً عن الحقيقة في أوجهها المختلفة.

ضمن مشروعه لنقد الفكر الإسلامي، تناول محمد أركون أيضاً مسألة فهم الحضارات واحترام الاختلاف، وانتقد الاستشراق الذي ينظر إلى الثقافات الأخرى بصفتها ثقافات غريبة. وحثَّ، انطلاقاً من نزعته الإنسانية المتأثرة بفلاسفة عصر الأنوار، على نبذ العنف والعمل على إرساء حوار عميق بين الحضارات لتفادي النزاعات والحروب التي تعيق النموّ والتقدّم وتعود بالأذى على الإنسانية جمعاء.

ختاماً، أتذكّر تلك اللحظة التي جمعتني بأركون في نيويورك. في العام 2007، يوم كنت أعمل مستشاراً خاصاً للشؤون الثقافية في منظمة الأمم المتحدة، في إطار الدورة الحادية والستين للجمعية العامّة، عُقدت ندوة تمحورت حول «تحدّيات بناء السلام»، وشارك فيها عشرات الكتّاب والمفكّرين والمؤرّخين والعلماء من جنسيات مختلفة. حضر من العالم العربي كلّ من الأكاديمي والسياسي والديبلوماسي اللبناني غسّان سلامة والمؤرّخ الفلسطيني الأميركي رشيد الخالدي ومحمد أركون. في تلك الندوة، علا صوت أركون داخل المقرّ الأممي، وفضح عجز الأمم المتحدة عن القيام بدورها منذ تأسيسها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (كان من أهدافها «منع الحروب مستقبلاً»)، ودعا إلى حوار متكافئ بين الثقافات وليس الاستسلام لمشيئة السلطة الأقوى، إذا كان ثمّة إرادة للخروج من دائرة العنف التي تميّزت بها البشريّة عبر التاريخ. ولم يكن غريباً موقفه هذا، وهو الذي رصد المسار التاريخي في الغرب، في موازاة دراسته للإسلام، ونظر إلى المدى المتوسّطي بأكمله، ومن خلاله إلى العالم أجمع، داعياً إلى تفعيل الميراث الإيجابي للثقافات المختلفة، وإلى إقرار العدالة واحترام حقوق الإنسان، لا سيّما للشعوب التي لا تزال حتى اليوم تنادي بأبسط حقوقها.

MISS 3