حسان الزين

"الاحتلال هو القضية ولا بد من إنتاج استراتيجية... وإنسانيتنا هي أخلاقيتنا"

أوغاريت يونان: القضية الفلسطينية النبيلة لا تستحق إلا نضالاً لاعنفياً

13 كانون الثاني 2024

02 : 00

أوغاريت يونان

لم تُخَض تحت شعار«لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» الحروبُ ضد العدو والاستعمار فحسب، بل قَمع أصحابُه الأصوات الأخرى. والآن، لا صوت يعلو فوق صوت العنف. لكن صوت اللاعنف موجود. الإصغاء ضروري لسماعه وتبيانه على حقيقته. ثمة التباسات حوله. هذا واضح وأكيد. كأن يُقال إنه دعوة إلى الاستسلام والتطبيع والتفريط بالحقوق وترك الظالم يسرح ويمرح، قتلاً وتدميراً وتهجيراً وتوسّعاً وتمييزاً عنصريّاً... في حين يقول روّاد اللاعنف، ومنهم الدكتورة أوغاريت يونان إحدى مؤسّسي «جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان»، إنه مقاومة. ويتأسّس اللاعنف على أن نبل الغاية يقتضي نبل الوسيلة. والمهم، بالنسبة إليه، ألّا يتحوّل المظلوم والمقهور والمقاوم إلى قاتل مثل الظالم. فلنُصغِ إلى يونان، لعلّنا نسمع أصواتاً تتردّد في أرجائنا:

في ظل العنف المنتشر في العالم والمتحكّم في كثير من العلاقات والصراعات الدولية، هل من مكان للاعنف؟

المسألة مسألة صراع، فكري وسياسي، وصراع مصالح. الموضوع ليس أن جماعات العنف لم تجد طريقة ثانية، هناك مصالح من وراء العنف. العنف له منافعه، سياسية واقتصادية أيديولوجية وحتى دينية أحياناً، عند الظالم أو عند المظلوم. وفي المقابل، هناك تيارات لاعنفية كبيرة في العالم. لذلك ليس محسوماً أن العنف هو الذي يكسب. اللاعنف يحتاج إلى بناء نفسه. الأموال تذهب إلى الحروب والتسلط والفساد واللاعدالة. اللاعنف يكافح من ذاته أو بدعم محدود. لكنه ينتشر. وقد أجرى باحثون لاعنفيّون جديون جردة للتحركات التي حصلت في التاريخ، وخلصوا إلى أنه لدى كل الشعوب وفي كل الأزمنة تحركات لاعنفية، ولكن نشرها بقي مهمّشاً ومحدوداً. حتى التاريخ المعد للمدارس يحدثنا عن أبطال العنف. في «جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان AUNOHR»، عندما يدرس الطلاب عن روّاد اللاعنف ومَن غيّروا في التاريخ، يتساءلون لماذا لا نعرفهم؟ وهناك دراسات حديثة عن القرنين العشرين والواحد والعشرين، وجدت أن معظم التحركات في العالم، ولقضايا متنوعة، وطنية وجزئية ولتغيير نظام أو بيئية، هي لاعنفية. وأكثر من ذلك، وجدت تلك الدراسات أن التحركات اللاعنفية نجحت وكسبت أكثر من التحرّكات العنفية.

إضافة إلى الدراسات والاحصاءات توجّه اللاعنف موجود في العالم ويتّسع. ما ينقصه هو الجمع والتنظيم. خذ مثلاً من المنطقة العربية: نحن بدأنا منذ 1983. في البداية، واجهنا الاستهزاء والرفض. أيّدتنا قلّة، على الرغم من النفور من الحرب. وعربيّاً، كانوا لا يتجرأون على قول كلمة لاعنف. في الدعوة الأولى إلى ندوة عن هذا الموضوع رفضت إحدى الصحف نشر الخبر واستخدام كلمة لاعنف. كان الاعتقاد السائد أن الأمر استسلامٌ لإسرائيل، وخافت أن يحسب ذلك موقفها. فاضطر منظِّمو الندوة إلى دفع بدل إعلان. لكن اليوم انتهى الأمر، اللاعنف تأسّس وتمأسس في لبنان بفضل عمل ريادي ودؤوب، فكري وميداني. خلال الخمس عشرة سنة الماضية، أينما ذهبت في العالم العربي هناك رغبة أكثر في اللاعنف. وأنا أسأل مَن يعربون عن رغبتهم به عن أسباب ذلك، وقد تلقّيت في العراق جواباً جميلاً: لأننا نعرف العنف ونرفضه نريد بديلاً منه! وهذا منطقي.

اللاعنف متقدّم في أماكن كثيرة. مؤكّد أن العنف حاضر أكثر، لأن له من يمجّده ويقوم بالتنشئة عليه وينشره بكثافة ويدعمه بسخاء وينتفع منه. لكنّ اللاعنف بات موجوداً أيضاً بقوة. هل يستطيع أن يفعل وتكون لديه القدرة الأكبر؟ هذا أمر آخر، ويتوقف على الاستراتيجيا وخطط النضال وليس على سؤال إذا ما كان ينفع أو لا.

في ما يخص العلاقات الدولية، العنف واللاعنف موجودان، والأمر لم يحسم. في المؤسّسات الأممية والإقليمية والدول، كثيرون مع اللاعنف، مع رفض الحرب والأدوات العنفية. ولكن تنظيمات المؤسسات التي تجلس فيها القوى العظمى والدول والأمم، تغلّب الفوقية والأحادية. في مجلس الأمن في الأمم المتحدة خمس دول تقرر، ودولة واحدة يمكن أن تحسم بحق الفيتو. وهذا فعل هيمنة. أنشأوا الأمم المتحدة ووضعوا السلام في الميثاق، ولكنهم شرعوا الحرب فيه. ما معناه أن الصراع موجود في العالم. وهذا الصراع سينتج في الأخير شيئاً آخر. والشيء الآخر هذا هو اللاعنف الذي يزيد في العلاقات الدولية. هناك رغبة كبيرة للاعنف.

يقول وليد صلَيبي: «نحن في عالم لم ينتصر فيه العنف. نحن في عالم لم ينتصر فيه اللاعنف كفاية بعد». [أكيد العنف لديه انتصارات، لكنّه لن ينتصر بمعنى أن يكون هو الجواب والطريق].

هل تعتقدين أن هناك حتمية تاريخية لانتصار اللاعنف؟

خذ مسألة العبودية أو الإعدام أو العنصرية... كل هذه الأمور التي هي العنف وتحكم البشرية واستمرّت لقرون، العالم لم يتخيل أنها يمكن أن تنتهي؟ اليوم 147 دولة ألغت الإعدام. وقريباً، ستصبح كل الدول في هذا الاتجاه. مثال ثانٍ: تقول صديقتنا الأيرلندية الشمالية الحاصلة على جائزة نوبل للسلام 1976، ميريد مغواير (مناضلة لاعنفية نشطت مع النساء ضد الأسلحة النووية ونشطت لفكّ حصار غزة): «فلنتذكّر أنّ البشرية ألغت العبودية ومن ثمّ العنصرية. والآن، لا تقلّ مهمتنا عن إلغاء العنف والحرب». وأنا اعتقد ذلك. وعدد الذين يفكرون على هذا النحو يزداد. ليس بالعنف نحل القضايا.

ويقول الفيلسوف الألماني كارل بوبر: «ترتكز الحضارة أساساً على تقليص العنف». تقلّص العنف هو المعيار للتقدم الحضاري. لم يقل إلغاء العنف بل تقليصه، لأن العنف لا يُلغى. الصراع سيبقى. كما لو ألغيت الإعدام في مجتمع ما، سيبقى هناك أشخاص معه. هذا جدل.

تدعو خطابات الحكومات إلى السلام العالمي، وتندّد بالحروب والعنف، وتحثّ على حلّ الخلافات والنزاعات بالحوار وطرق أخرى بعيداً من العنف، لكن عند تهديد المصالح والدفاع عنها نجد اندفاعاً إلى العنف، ألا يبدو لك ذلك كذب الخطابات وتجذّر العنف في السياسة الدولية والداخلية، وربما في الإنسان... وبالتالي هشاشة خطابي السلام واللاعنف؟

لنميّز بين خطابات الحكومات وبين اللاعنف. كذلك بين الحكومات والشعوب. خطابات الحكومات هي ما يناسبها في ظروف وتحالفات محددة، ولا علاقة لذلك حكماً بالسلام. الحكومات كلها تقول إنها مع السلام. تقرأ ميثاق الأمم المتحدة تجد: الامن والسلم الدوليين، ثم تعود لتجد تشريع الحرب. وهذا ليس دليلاً على هشاشة خطاب اللاعنف بقدر ما هو دليل على قوة المصالح وخطابها. وطبعاً، العنف مفيد لكثيرين. لكن ليس كل من هم في مواقع السلطة يتبنون خطاب العنف والمصالح. أنظر إلى الحرب الراهنة في غزّة، هناك كثيرون في السلطة أعلنوا أنهم ضد الحرب. حتى الدول التي أعلنت تأييدها لإسرائيل، كثر فيها أعلن أنه ضد الحرب. العبرة كيف يفهمون السلام. والسلام ليس اللاعنف. وقد سُئل غاندي لماذا لا تقول السلام بدل اللاعنف؟ فأجاب بأن الشخص قد يكون مع السلام وأحياناً في ظرف معين يؤيد الحرب لأنه يعتبرها الطريق إلى السلام. اللاعنف هو «لا» حاسمة. هذه ليست خطابات سلام. فالسلام الذي يُعتقد أن طريقه الحرب ليس سلاماً.

اللاعنف وخطابه جذريان. وهذا فرق فلسفي وعلمي بين السلام واللاعنف. لا يمكن أن يُدمجا. كثيرون مع خطاب اللاعنف، ولكن ذلك لا يُمنح في الإعلام القوة نفسها التي تُعطى للعنف. يقتضي بنا الحديث عما يحتاج إليه خطاب اللاعنف كي ينتشر ويتبناه الناس أكثر فأكثر. وليس صحيحاً أن الناس تنجذب إلى العنف ولا تهتم باللاعنف، فعندما تحدث تحركات لاعنفية قوية ومؤثرة تكون هي الرقم 1.

الأقوياء يستخدمون العنف وهم أقوياء بالعنف، هل يمكن أن يكون اللاعنف خيار الضعفاء في وجه الأقوياء، ألا يفضي ذلك إلى الضعف، إلى الاستسلام؟

أميّز بين القوة والعنف. الأقوياء يستخدمون العنف لأنهم يعتبرون أنهم أقوياء به. من يختار العنف يحتاج إلى أن ينتصر بالعنف، وهذا بديهي. الظالم يستعمل العنف ليصل إلى ما يريده. والمظلوم يستخدم العنف لتحصيل حقوقه، فهو في هذا النمط، أو طبع به، أو لم يعد باستطاعته الخروج منه، أو لم يفكر ويبحث للخروج منه. وهنا، يقدم التبريرات وهي الأخطر. تولستوي يقول: العنف مسألة بشرية والخطأ فعل بشري. أما تبرير العنف فهو ما يمأسسه.

إن من يلجأون إلى اللاعنف يمارسونه كونه قوة. هناك مَن غيروا أنظمة وقوانين وحصّلوا حقوقاً وتحرّروا من الاستعمار والعنصرية والتمييز باللاعنف. اللاعنف خيار الأقوياء في وجه العنف. لأنه هو لا للعنف. واللاعنف إذا لم يكن قوياً لا يكون لاعنفاً.

الفيلسوف اللاعنفي الفرنسي جان- ماري مولر، الذي رحل منذ سنتين، سأله طلاب جامعتنا من لبنانيين وفلسطينيين وسوريين وعراقيين، لماذا تطرحون اللاعنف على المقهور والمظلوم، ولا تطرحونه على الظالم، هذا أريح، وهو من ينبغي به أن يوقف الظلم؟ فكتب نصاً جميلاً جاء فيه: بالدرجة الأولى يجب أن نطرحه على المظلوم، لأن الظالم ظالم والعنف أداته. أنا أطرح للمظلوم ألا يكون مثله. أطرح عليه البديل. لا أظلمه حين أعطيه اللاعنف. ولكن هو مَن يفهمه ضعفاً. لذا، يفكر أنني أقدم له شيئاً بلا قيمة، أو يعتقد أنني أقدم له شيئاً ليستسلم ويترك الظالم.

وألفت إلى أن البعض يستخدم العنف عن جهلٍ باللاعنف وليس دوماً عن تصميم حاسم. والبعض يستخدم العنف عن إيديولوجيا. والبعض عن انتفاعٍ بالعنف. إنّها مسؤولية اللاعنفيّ على ما يبدو، حيث بجانب الصراع من أجل قضيّة، يأخذ على عاتقه نزع أشواك الجهل والانتفاع والإيديولوجيا ومواجهتها. النضال اللاعنفي إصلاحٌ مضاعف. عمل متلازم في أكثر من اتجاه.

في منطقة مثل منطقتنا من العالم، حيث يوجد صراع عنيف (العربي الفلسطيني - الإسرائيلي)، كيف يمكن مقاربة الوضع لاعنفيّاً، وخصوصاً ما يجري في غزة وفلسطين؟

بعد تأكيد محبّتي وتضامني مع أهل غزّة وفلسطين، أتوقف عند ثماني نقاط كي نفكّر معاً:

1. إنسانيّتنا، قبل كلّ شيء وفي مقدّمة كلّ شيء. الإنسانيّة، ليس بالمعنى التبسيطي عن شفقة أو ترحّم على الضحايا أو لوعة وبكاء على الأطفال، فهذا حدّ أدنى، ولا المساعدات والإعاشات، ولا العمل الخيري لإراحة الذات، ولا حتّى «القانون الدولي الإنساني» المستَهلَك في لملمة الجراح أثناء الحرب والمضروب به عرض الحائط في أكثر الأحيان. إنسانيّتنا هي أخلاقيّتنا. أخلاقيّة العمل السياسي والموقف السياسي. فالسياسة هي أخلاقيّة وفعّاليّة في آن. كلّما ابتعدت الفعّاليّة عن الأخلاقيّة، وقعت في العنف وراحت تبرّره. إنسانيّتنا هي الضمير. والضمير، «القانون الأعلى» بتعبير المفكر هنري ديفيد ثورو مبتكر مصطلح «العصيان المدني»، يتنافى مع العنف جذريّاً. الموقف من العنف، كلّ عنف، هو السؤال الأساس في إنسانيّتنا.



كيف نتربى



2. وقف النار على الفور ومعه فكّ الحصار عن غزّة وليس إدخال مساعدات، وإعادة المخطوفين من الإسرائيليّين وجنسيّات أخرى ورُفات مَن قُتِل منهم وفي مقدّمها تحرير كل المعتقلين الأسرى الفلسطينيّين في سجون إسرائيل وإعادة الجثامين. في اللحظة الحالية لا يمكن إلاّ الإصرار على وقف الشرّ. الذكاء الآن يكون في وقف النار من الجميع. فهذا ليس بهزيمة، بل براعة في الاستمساك باللحظة. وقف النار، بدون أيّ شرط، فحياة الناس أَولَى من أيّ شرط. الوقت الآن ليس لرفع راية النصر والاستمرار في تصعيدٍ يوازيه تصعيدٌ أكبر بعنفٍ أكبر وأكبر، ولا للانبهار بمشهديّة عسكريّة وبالمزايدة في الانتقام. أساساً، لا يمكن النصر على الأشلاء.

3. احتلال فلسطين هو القضيّة. والسؤال ما زال هو هو: كيف نعود ونُوجِد الدولة المستقلة الكاملة التي اسمها فلسطين؟ إنّه سؤال وجوديّ واستراتيجيّ، لا معركة من هنا أو اشتباك من هناك أو حسابات تعني أميركا وإيران والسعودية وأوروبا. ها نحن في مطلع العقد الثامن لقضيّة فلسطين التي لا تزال تحرّك العالم، ولا حلّ ولا عدالة لغاية الآن. مبدأ الاحتلال هو الذي عمل داعمو اسرائيل ومشروعها على محوه وإبطال معناه بما يشبه الإنكار denial. لذا، لا حلّ إلاّ بالعودة إلى جذر المشكلة. لسنا أمام حلّ لنزاع محدود أو حالة ظرفيّة. كلّما تأخرنا وأخطأنا في الاستراتيجيّة، سيعود العنف باستمرار وبفنونٍ أعنف و»أرفع شأناً». إنّها مسألة وجوديّة، لفلسطين، والمنطقة، وللعالم أجمع. المسألة اليوم ليست خرقاً عسكريّاً أو مجموعة أسرى جديدة ولا حتّى «حماس» أو «غالانت ونتنياهو» ولا حتّى حصار غزّة... الاحتلال هو السبب الأول والجذري، والقضية اسمها فلسطين. هذا ما يجب أن يتذكّره الجميع.

4. المشهد تائه بين شهوة العنف واستثمار العنف والنفور من العنف. للأسف، وعلى الرغم من كلّ ما حصل، شهوة العنف واستثماراته مستمرّة ومتصاعدة. ولحسن الحظّ، وربّما لفظاعة ما حصل، النفور من العنف والمواقف ضدّه مستمرّة ومتزايدة.

5. النتيجة السياسية هي السؤال. يقول مؤيّدو إسرائيل إنّ من حقّها الدفاع عن النفس وضرب «حماس» وتدميرها. وهذا ما يتمنّاه كثُر، فيصدّقون أو يروّجون أنّ هذه هي النتيجة السياسيّة للمعركة التي تخوضها إسرائيل وأميركا وحلفاء وأتباع، على الرغم من ترويجات مماثلة وفاضحة لم يجفّ دمها بعد (العراق، القاعدة، طالبان، 11 سبتمبر، داعش، إلخ). ويقول مؤيّدو «حماس» وحلفاؤها وأيضاً مؤيّدو «حزب الله»، إنّهم يرسمون من جديد خطّ القوّة بين اللاعبين الكبار أميركا وإيران، بدعم من إيران ومباركتها، ويضيفون أنّ المعركة الآن وما قامت به «حماس» و»حزب الله» أعاد فلسطين إلى المشهد إلى الطاولة على نحوٍ غير مسبوق وبالنصر. الواقع أنّ غزّة هي في خسارة كلّ يوم، والوقت المتمادي هو لحرق الأرض ومَن فوقها وتحتها ولخسائر أفظع سترسم هي النتيجة السياسية. صحيح أنّ موضوع فلسطين يملأ الشاشات، لكن عن أيّ طاولة يتحدّثون وبأيّ ثمن ولمصلحة مَن؟

6. معسكران عنفيّان بإيديولوجيّات دينيّة يديران الحلبة الآن. كيف نقبل بوجود كيان أو دولة قائمة على الاحتلال والأبارتيد والعقيدة الدينيّة التي تدّعي «تفوّق شعبها المختار»، إسرائيل، وفي مداميكها ميليشيات وتنظيمات سياسية عسكرية بعقيدة دينيّة عنفيّة؟ وكيف نؤيّد وجود تنظيم فلسطيني سياسي عسكري بعقيدة دينيّة، مثل «حماس» والتنظيمات المشابهة، ولو كانت تعرِّف عن نفسها بأنّها مقاومة وطنيّة؟ هذان المعسكران يديران الحرب الآن، ومعهما في غرفة القيادة على رأس الطاولة، المعسكران الأكبر، أميركا وإيران. نحن أمام معضلة إضافيّة تتمثّل في الطبيعة السياسيّة والسلطويّة للّذين يديرون الحلبة الآن، في ظلّ تصاعد قوى التطرّف في إسرائيل، وإمساك قوى التطرّف بالمقاومة في فلسطين، والضياع أو النقص في القوّة الجماعيّة لغاية الآن على مستوى الحركات المدنيّة والمقاومة اللاعنفية. وهذا عائقٌ بذاته، أمام أيّ حلّ للعدالة والسلام، وأمام أيّة خطّة للتغيير بغير العنف.

7. لا يمكننا الموازاة بين عنف الظالم وعنف المظلوم. ولا نبرّر أيّ عنفٍ بتاتاً. كما يقول وليد صلَيبي، الذي كتب كثيراً من أجل مقاومة لاعنفيّة في فلسطين: «أن يحدث عنف المظلوم بفعل الغضب واليأس، إزاء القهر والإذلال، أمر إنساني نفهمه، من دون أن نبرّره. أمّا أن يُؤدلَج العنف ويصبح استراتيجيّة عمل ونهج تفكير وحياة وصولاً إلى تمجيده، فهذه مسألة في غاية الخطورة. لا أرى العنف يحقّق غاية عادلة مرجوّة. لسببٍ بسيط، ليس لأنّه لا يمكنه الانتصار في معركة أو أخرى، بل لأنّه يهزم صاحب القضية المُحقّة. إنّ قضية نبيلة تستوجب وسائل نبيلة. ويمكن القول، إنّ لحظة قمّة الانتصار العسكري على الخصم هي لحظة قمّة هزيمة المناضل للقضية المحقّة. هُزِم الخصم عسكرياً، هُزِم المناضل إنسانياً، انتصر العنف. عنف الظالم يخدم قضية الظالم، وعنف المظلوم يخدم أيضاً قضية الظالم. من مصلحة قوى الموت قوى العنف، عَسْكَرَة الصراعات السلميّة. من مصلحة قوى الحياة قوى النضال اللاعنفي، نَزْع عَسْكَرَة الصراعات العنفيّة. نعم للمقاومة لا للعنف».

8. لسنا محكومين بأحاديّة العنف. مسؤوليّة اللاعنفيّين في العالم. العنفيّون موجودون. واللاعنفيّون موجودون. مهمّتنا الأولى، على الفور، جمع هذه القدرات اللاعنفيّة، الفرديّة والجماعيّة، والمتضامنين معها في العالم، ودعمها وإبراز صوتها، والإسراع في ذلك، كي لا تبقى الصورة أمامنا على الشاشات عنف بعنف وكأن لا حلّ آخر سوى توازن الرعب.

أخيراً، قناعتنا، وليد صليبي وأنا، أن القضية الفلسطينية وهي قضية حق ونبيلة، لا تستحق إلا نضالاً لاعنفياً. ولا بد للفلسطينيين من إنتاج استراتيجيا لاعنفية. وأحيل من يريد مزيداً إلى كتاب «نعم للمقاومة لا للعنف» لوليد صلَيبي (2005، وطبعة ثانية 2015).

مع الانقسام الحالي في منطقتنا، وعدم معرفة الغالبية بفلسفة اللاعنف، يبرز سؤال: هل اللاعنف في تيار السلام والتطبيع أم في جبهة المقاومة، أم هو خيار ثالث؟

اللاعنف مقاومة. اللاعنف هو لا للعنف. فلنتوقف عن الجهل، والفهم الخاطئ والمشوِّه لهذه الكلمة، التي هي فلسفة قيم وفعل استراتيجي في آن، للعدالة والخير. إنْ لم تكن هذه معانيها، كيف نكون نحن، أوغاريت ووليد، معها! ميزة العمل اللاعنفي أنه مستقل ويخلق أفكاره بإبداعية مستقلة عن الآخرين. اللاعنف ليس مسألة خيار ثالث أو غير ثالث. في اللاعنف لا حياد. اللاعنف مع المظلوم بوجه الظلم، لكن بأدوات جبّارة من خارج العنف.

هل اللاعنف قادر على ترويض الاحتلال الإسرائيلي العنيف والشرس تجاه الفلسطينيين؟

نعم، هكذا فعل في انتفاضة الحجارة في 1987. كانت حدثاً استثنائياً لنضال لاعنفي معاصر في المنطقة. الإسرائيلي بدأ بالعنف، ومن ثم وجد أنه يستعمل الجنود والأسلحة والطائرات والدبابات ولا يواجه مقاومة مسلحة. تقيّد استخدامه العنف. وعندما كان يستخدمه، الرأي العام العالمي انتفض ضده. فلنتذكّر أنّه حينها كل العالم أيّد فلسطين ولم ينقسم كما حصل الآن. ونسأل، لماذا لا تُعمَّم تجربة هذه الانتفاضة بالأخص بين أجيال فلسطين؟ اللاعنف يستطيع ترويض الظالم ومنعه عن الظلم. بالتأكيد. في استراتيجيات اللاعنف هناك ما اسمه الضغط. بدون الضغط لا يمكنك أن تحصل على نتيجة. أن أضغط على الظالم، لا للقتل بل لاستعادة الحق. لا أقبل أن يحولني إلى قاتل. وأرفض أن أكون مثله.



جائزة غاندي العالمية للعام 2022 إلى أوغاريت يونان ووليد صليبي




القوة وحبها

تعتقد أوغاريت يونان أن «اللاعنف يأتي حيث يوجد العنف. هذا مكانه. حيث يوجد العنف. اللاعنف ليس للأحوال الهادئة أو السعيدة. هو يأتي ليقف بوجه العنف، ليضيف عدالة إلى المشهد القائم. والعنف بكلّ أنواعه. فلننتبه إلى أن كلمة عنف موجودة في كلمة اللاعنف. وهذا عن قصد، كي نتذكّر أنه عنف ومسؤوليتنا مواجهته، وكي لا ننساق لمواجهته بالعنف. إنها فريضة مزدوجة. فاللاعنف لاءان: لا لعنف الذات ولا لعنف الآخرين، للظلم. كما يقول وليد صلَيبي. عندما نحت غاندي هذه الكلمة عام 1919، وتكرست في 1920، لم يفكّر كمثقف هدفه إصدار نظرية، ووجدها مناسبة، إنما أنتجها بفعل حاجة نضالية شعبية. استمر لسنوات يفكر في الكلمة التي سيدعو إليها الناس الذين يعانون من الاستعمار والعنصرية والفقر. كان يستخدم كلمات من اللغتين السنسكريتية والهندوسية، ولكنها لم تكن كفيلة بشد الناس لتنتفض. ولاحقاً، استخدم «المقاومة الجماهيرية الشعبية» و»العصيان»، إلى أن توصل إلى كلمة لاعنف التي تقول لا للعنف.

وتقول إن «علماء اليوم باتوا يقولون إن الإنسان يمتلك في طبيعته مقدرتي العنف واللاعنف معاً. وأنه ما من سلوك إلا ويمكن للتربية والتنشئة والبيئة المحيطة أن تؤثر فيه وتعدّله بما في ذلك الجينات».

وتضيف: «اللاعنف يعترف بوجود العنف، ولا يقول إن الإنسان طيب وحسب، وأن العنف مجرّد غلطة، كلا. لكنه يواجهه. لا يقبل به. في المقابل العنف يرفض اللاعنف أو يستهزئ به أو يحاول أن يهيمن عليه. الموضوع أنه في معظم المجتمعات تُمجَّد ثقافة العنف ومقدرته. هذا ما جعل العنف يبدو كأنه القاعدة والحلّ. منذ صغر الإنسان تتم تنمية مقدرة العنف، في الأسرة والتلفزيون والمدرسة والمجتمع والسياسة وحتى في الدين. اللاعنف إذا لم يُنمّ يذبل. كثيرون يقولون لي إنهم ليسوا لاعنفيين. أقول لهم أنتم ضد أنفسكم، فاللاعنف موجود فيكم، ولكنكم لم تكتشفوه، أو لم يجعلوكم تكتشفونه. هؤلاء، تمكّن العنف منهم وفيهم. أنا لا ألوم الشخص، الذي لم ينمّي اللاعنف فيه، إذا تخيّل أن اللاعنف ضعف. لكني لا أؤيد أن يتابع بالعنف. بل أقول له لا يحق لك أن تعطي خلاصات ورأياً عن أمر لا تعرفه ولم تجربه ولم تنمّه عندك».

وتستخلص: «القوّة ليست العنف. والعنف ليس قوّة. نحن نحتاج إلى أن نكون أقوياء لا أن نكون عنيفين. لقد شوّهوا القوّة حين دمجوها بمعاني العنف. لقد جمّلوا العنف حين أضفوا عليه معاني القوّة. وها نحن نرتكب الإعدام ونقول «عدالة»، نرتكب جريمة عائلية وعاطفية ونقول «شرف»، نعلن «السلام» ونرتكب الحرب، نعلن «اللجوء إلى القوّة» ونرتكب العسكرة، نقول «ثورة» ونرتكب القتل، نقول «تربية» ونرتكب صفع الطفل والطفلة... إنّ مسؤوليتنا الثقافية الأولى هي في إعادة معاني اللاعنف إلى القوّة، وجعل العنف مكشوف المعنى كما هو».

MISS 3