حسان الزين

اللاعنف في لبنان: من خلية إلى جامعة

13 كانون الثاني 2024

02 : 00

وُجدت «الخليّة» الأولى للاعنف في لبنان إبّان الحرب. وهذا ليس مستغرباً، فالحرب كفيلة بولادة أصوات وحالات مناهضة لها وللعنف.

لكن، على الرغم من الحرب ومآسيها لم تتحوّل تلك «الخليّة» حركة ثقافية وسياسية على المستوى الوطني. بقيت ضمن إطار محدود، تنظّم أنشطة شبابية ونقابية وتحرّكات شعبية مناهضة للحرب والطائفية.

ولدت «الخلية» تلك بفعل قراءاتٍ وتجارب مجموعةٍ من الشبان والشابات منخرطين في العمل الاجتماعي، الذي بدأ في الستينات بالتزامن مع مشروع الرئيس فؤاد شهاب لتنمية المناطق وتقليص التفاوت بين مناطق الأطراف وبيروت وجبل لبنان. وكانت الفكرة المحرّكة، في تلك البداية ولدى البعض، أن التنمية فعلُ شراكة بين المجتمع والدولة، خصوصاً أن هذه الأخيرة غير قادرة على النهوض بالمهمّة وحدها، وهي محدودة الإمكانات وفي طور بناء الجهاز والمؤسّسات.

لم يكن العمل الاجتماعي لاعنفيّاً بالمعنى الفكري، لكنّه كان يدرك مخاطر العنف الآتي من التفاوت الاجتماعي- المناطقي والتغيّرات الديمغرافية الضاغطة على العاصمة خصوصاً؛ ومن الطائفية ونظامها الرأسمالي؛ ومن التحوّلات السياسية في لبنان والمنطقة والعالم. كان العمل الاجتماعي، وهو ينطلق من عقائد دينية وإنسانية وعلمانية (النموذج هنا المطران غريغوار حدّاد)، وبإمكانات محدودة، يسابق الزمن وانفجار العنف الذي بدأ يختزنه لبنان وقواه السياسية.

وحلّت الحرب، في 13 نيسان 1975. وفيما كانت المتاريس ترتفع، تحرّكت قلّةٌ، منها عاملون اجتماعيون، ضد الحرب. نُظمت تظاهرات وأنشطة عدة. واختار السيد موسى الصدر، الذي كان ناشطاً في العمل الاجتماعي أيضاً، أسلوباً لاعنفيّاً في رفضه حرب أبناء الوطن الواحد. اعتصَم في مسجد في بيروت، واضطُر إلى وقفه لينتقل إلى البقاع بهدف تطويق «حادثة طائفية» ومعالجة ذيولها.

صحيح أن الحرب كانت أقوى، لكن يمكن القول أيضاً إنّ عصب مواجهتها وخطابه كانا غير مبلورين سياسياً وفكريّاً. ولعله يمكن الاستنتاج هنا أن الموقف الوطني والإنساني لم يكن كافياً، وحده. كان بحاجة إلى استراتيجية وحامل اجتماعي، وإلى الاستمرار وامتلاك عناصر الديمومة. وهذا، ربّما، ما جعل حركة المطران حداد، مثلاً، تتهمذش وتنسحب إلى العمل الاجتماعي. أمّا الأسلوب اللاعنفي الذي اعتمده السيد الصدر فصار موقفاً ضميرياً تاريخيّاً في روزنامة الحرب، وتيتّم وهُجر بعدما أسّس إمام المحرومين تنظيماً سياسيّاً عسكرياً (أفواج المقاومة اللبنانية - أمل)، وشارك في الحرب.

وإذا كانت الحربُ أنهت الموجةَ الأولى من رفض الاقتتال والعنف، فإن «السلم» انقض على الموجة الشعبيّة التي ظهرت في السنوات الأخيرة من الحرب المطالِبة بوقف الحرب والخروج من الانقسام وعودة الدولة. فعلى الرغم من أن هذه الموجة لم ترتقِ إلى الفعل المؤثّر، إلا أنها كانت محاولة لرفع اللبنانيين واللبنانيّات صوتهم ضد الحرب. وبعدما شكّلت تلك التحركات بداية نقد للحرب ومراجعتها، جاء «السلم» برعاية خارجية، أميركية وسعودية، وبوصاية سوريّة. وهذا «السلم» الذي انخرطت فيه الميليشيات وقادَته لم ينقلب على الطائف كما لاحظ ألبير منصور فحسب، بل كبح الصوت الشعبي ونسف بدايات نقد الحرب ومراجعتها، واضعاً حدّاً للمساءلة والمحاسبة. فتحت جنح تعب اللبنانيين من الحرب والأوضاع الأمنية والاقتصادية والمعيشية الصعبة التي أنتجتها، سارع نظام «السلم» إلى العفو العام الذي أخفى المتّهمين وحماهم. وفيما ادعى هذا النظام أنه أنهى الحرب وأطلق ورشة إعادة إعمار البلد، جدّد الصراع الطائفي، إذ كرّس قاعدة «غالب ومغلوب». ووسط «الحرب الباردة» هذه، وانشغال الأفرقاء كلٌّ بجبهته (مثلاً: حزب الله مقاومة الاحتلال الإسرائيلي؛ التيار العوني والقوات اللبنانية والكتائب مقاومة الوجود السوري ومعارضة سلطة ما بعد الطائف، وأركان السلطة تثبيت أنفسهم في النظام وغرف المكاسب)، طار نقد الحرب ومراجعتها.

في هذه الأجواء، نشطت حركة اللاعنف التي كانت «خليّة» حيويّة في النصف الثاني من الحرب. والأمر لم يكن سهلاً. فالحرب، وإن كان شبحها حاضراً دائماً في أرض لبنان وسمائه، إلا أن خطاب السلطة وسياساتها أحدثا ما يشبه الفقدان الجماعي لذاكرة الحرب، وحرّما مراجعتها. ما أفقد اللبنانيين فرصة معالجة الأسباب والنتائج، تأسيساً لبناء دولة وصوغ وطنية ديمقراطية. كذلك أفقد اللاعنفَ المادة - المساحة التاريخية والسياسية والاجتماعية التي يمكن أن تكون الحجر الأساس في حركته وخطابه وجاذبيّته. وعلى الرغم من ذلك، طوّرت الحركة نشاطها اللاعنفي والنابذ للطائفية، فنشطت مدنيّاً وتمددت بين الشباب. ولم تكتفِ بالبعد التثقيفي التربوي المدني، بل ترجمت أدبيّات أجنبية (مارتن لوثر كينغ، جان- ماري مولر، وجين شارب)، وأنتج المؤسّسان وليد صليبي وأوغاريت يونان أعمالاً أصيلة. وفي عز النشاط، عاجل المرضُ صليبي (رحل في 2023) وقيّدَ حركته مع شريكة حياته يونان. لكنّهما قاوما ذلك وواصلا النشاط والكتابة. وإضافة إلى ذلك، أسّسا «الكليّة الجامعية للاعنف وحقوق الإنسان» لمأسسة التجربة واستمرارها وتطوير منتجها وتوفير خميرة لتيار فكري يطمح للمساهمة في بناء إنسان وأوطان حرّة وعادلة وقويّة.

MISS 3