حسان الزين

جهده في الأمم المتحدة "مبادرة خاصة" أم مهمّة كلّفته بها الجمهورية اللبنانية؟

شارل مالك مفكر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومايسترو صناعته

20 كانون الثاني 2024

02 : 03

حدث غيّر حياة شارل مالك: التواصل مع الفيلسوف البريطاني وايتهد

لم يصل شارل مالك (١٩٠٦ - ١٩٨٧) إلى مقر الأمم المتّحدة عبر طريق أكاديمي أو شخصي، إنما كدبلوماسي لبناني. على الرغم من ذلك، يَطرح عنوان كتاب «شارل مالك: دور لبنان في صنع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» سؤالاً عما إذا كان الدور الذي أدّاه مالك، في هذا المجال تحديداً، هو تنفيذ لمهمّة رسمية كلفته بها الجمهورية اللبنانية، وكانت له مرشداً، أو هو «مبادرة خاصة» لشخص نشيط وذي ثقافة واسعة ومتطلّع؟ والغريب أن الكتاب ينسى عنوانه الأقرب إلى الشعار ذي الصلة بصورة لبنان الأكبر من حجمه، والجسر بين الشرق والغرب، وينشغل بما فعله مالك في «صنع الإعلان» وبسيرته وفكره وشخصيّته وعلاقاته. ونظراً لأهمية الكتاب، أصدره حديثاً «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»، بعد نشره في الذكرى الخمسين للإعلان، في 1998، عن «نوفل».



فيما يبقى السؤال عمّا إذا كان جهد شارل مالك لإنجاز الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مبادرة خاصة أم مهمة رسمية مطروحاً وبلا جواب، يكشف حبيب مالك أن إعداد الكتاب انطلق بجهد شخصي لجمع مخطوطات والده وآثاره ودفعها إلى النشر متسلسلة. وأوّل ما يشير إليه ذلك هو غياب أي دور للدولة اللبنانية ووزارة الخارجية، أو أي جهة رسمية معنيّة، في توثيق تلك المحطة العالمية والإنسانية والحقوقية. والأمر ليس مستغرباً في الدولة اللبنانية التي لا يُعرف كيف تدير محفوظاتها، ومنها الديبلوماسية، وإذا ما كان هناك أصلاً آلية علمية للحفظ والصون.

وأكثر من ذلك، حين يَذكر مالك الإبن أماكن الوثائق والمحفوظات التي يبحث عنها ويعود إليها لتشكل الحجر الأساس للكتاب، لا ترد الدولة اللبنانية. يكتب: «ولم يكن تأريخ هذه المرحلة الصاخبة من حياة شارل مالك وكفاحه في سبيل حقوق الإنسان بالأمر اليسير، نظراً لضخامة الوثائق وشتاتها بين واشنطن، وفي محفوظات الأمم المتّحدة وجامعة هارفرد ومكتبة الكونغرس، فضلاً عمّا تحتوي محفوظات الرجل الشخصيّة من ملفات حسّاسة، وألوف الصفحات المدونة بخط يده والمودعة في أحد المصارف الأميركية الكبرى، وهي تؤلّف مجموعة يوميّاته ومذكّراته الفريدة التي تعهدها بصورة يومية منتظمة طيلة ما يزيد على ستين عاماً».

وإذا ما عدنا، مثلاً، إلى مذكّرات رئيس الجمهورية الأوّل بعد الاستقلال، بشارة الخوري، الذي كان على رأس الدولة (1943 - 1952) حين كان مالك في أروقة الأمم المتّحدة، لا نعثر على ما يشير إلى أي اهتمام لا بدور مالك ولا بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فمالك الذي قل أن يرد اسمه في المذكرات تلك، يحضر باعتباره ديبلوماسياً يمكن الإفادة من معرفته بواشنطن ومراكز القرار في الغرب.

يروي الرئيس مؤلّف «حقائق لبنانية» عن لقاء جمعه والرئيس السوري شكري القوتلي، في بحمدون في 5 كانون الثاني 1949: «ومن أهم ما تناوله الحديث، إنعزالية العرب وسلبيّتهم تجاه الدول الغربية الكبرى، وقد ظهر لهم من تقاعس هذه الدول ومن قلة إنصافها لهم في قضية فلسطين ما ظهر، ولاح لنا أن هذه القضية ستبقى حجر عثرة بين الفريقين... ولم نبت الأمر واتفقنا على دعوة شارل مالك وزيرنا المفوّض في واشنطن والموجود حالياً في بيروت لنعرض الموقف وإياه ونكوّن فكرة صريحة تصلح لاتخاذها أساساً في بحث القضية في الجامعة العربية». ويضيف: «دعوت شارل مالك إلى مقابلتي بحضور رياض الصلح، فقال لنا إن العرب أمام أمر واقع وهو اعتراف الدول الكبرى بإسرائيل، فعليهم أن يأخذوا ذلك بعين الاعتبار دون أن يغيّروا موقفهم السلبي من الغاصب، وبمقدورهم أن يحسّنوا علائقهم بتلك الدول الكبرى لتخفيف وطأة اعترافها بالعدو لعلّنا نَحُدّها عن مساندتها له» (الجزء الثالث، 188).

ربما يُقال، هنا، إن مذكرات رئيس الجمهورية ليست مستنداً حاسماً، لكن هذا غير مقنع، إذ لو كان الإعلان وفلسفته وصنعه من اهتمامات جمهورية الميثاق الوطني والاستقلال وإرشاداتها، لكان رئيسها فاخر به، وهو الذي لا ينسى إنجازاته، بما في ذلك تصفيق الأهالي له أثناء مرور موكبه من إحدى القرى.

البدايات والآفاق

وفيما لا يذكر الكتاب الدولة اللبنانية إلا حين تكليف مالك بوظيفته الدبلوماسية، يركّز على سيرة مالك التي تقول في كل كلمة إن جهده في صنع الإعلان «مبادرة خاصّة». وممّا فيها:

ولد في بلدة بطرّام بمحافظة لبنان الشمالي. وبعدما أنهى دراسته الابتدائية والثانوية في الكورة وطرابلس تحت ظروف الحرب العالمية الأولى وأهوالها، التحق بالجامعة الأميركية في بيروت سنة 1923 وحصل على شهادة (B.A.) في الرياضيات والفيزياء. وكان والده (طبيب) قد نزح إلى مصر سنة 1922 واستقر فيها، ثم التحق به أفراد العائلة سنة 1924، وتبعهم شارل سنة 1929. وهو ما انفك خلال تلك المرحلة الانتقالية يوظّف نشاطه الفكري والاجتماعي في مجالات ملائمة لطموحه ومواهبه. فكتب لـ»المقطف» في القاهرة ولـ»العروة الوثقى» في بيروت، وتابع قراءته الفلسفية باهتمام، كما وضع دراسة علمية حول مرض البلهارسيا المنتشر في مصر بتكليف من مؤسّسة فورد. ولكنّ الحدث الأهم، الذي غيّر مجرى حياته، هو قراءة الفيلسوف البريطاني وايتهد أستاذ الفلسفة بجامعة هارفرد الأميركية يومذاك. وكتب إلى المعلم الكبير يقول: «أرغب إلى أبعد مدى في دراسة الفلسفة على يديك، ولكن إمكاناتي المادية المتواضعة تحول دون تحقيق هذه الأمنية الغالية».

لم يكن مالك يأمل في الحصول على جواب وشيك، وأحسّ أن تلك الرسالة ذهبت مع الريح. غير أن تلك الهواجس ما لبثت أن توارت عندما فوجئ صاحبها بالجواب العاجل يأتيه من وايتهد، وفيه يقول: «أدعوك إلى هارفرد وتحصيل الفلسفة عندي. لكن عليك أن تؤمّن نفقات السفر وأكلاف معيشتك خلال الفصل الأول، وبعدها نرى».

كانت تلك فاتحة الآفاق العريضة وصولاً إلى الهدف المنشود، فجمعت العائلة كل مدّخراتها واستدان شارل ما تيسّر من أصدقائه، حتى أمّن الحد الأدنى المطلوب من الذخيرة الماليّة، وغادر مصر سنة 1932.

وصل مالك إلى الولايات المتحدة والتحق بدائرة الفلسفة في جامعة هارفرد، فأبدع وتفوّق. واقترن اجتهاده بإبداعه، فاستدعاه أستاذه وايتهد وأبلغه أن الإدارة اختصته بمنحة دراسية لمدة عامين يستطيع السفر والإقامة خلالهما في أي بلد أوروبي على نفقتها للاحتكاك بأعظم عقول العصر والتحصيل على الفلاسفة الكبار الذين كانت تزخر العواصم الأوروبية بهم في الثلاثينات.

لم يكن شارل يتوقّع مثل هذا السخاء، وقد دأب خلال الفصل الأول على توفير ماله الضئيل وتكثيره قدر المستطاع بتعليم اللغة العربية لبعض المستشرقين وطلاب الدراسات الشرقية في الجامعة.

إختار مالك ألمانيا وبالتحديد جامعة فرايبورغ التي كان يتولى الدائرة الفلسفية فيها أحد روّاد الوجودية والظُهورية الفيلسوف الكبير مارتن هايدغر.

رفسة نازية

لكن ظروفاً خاصّة حالت دون وصول المفكر الشاب إلى ألمانيا قبل سنة 1936، وهي السنة التي بلغت فيها النازية أوجها. وواجه مالك ضغوطاً ومضايقات، يقول في مذكّراته أنها بلغت حدّ رفسه من قبل ضابط في جهاز الـ (S.S) التقاه صدفة في أحد شوارع فرايبورغ، وما إن تبيّن ذلك الضابط ملامحه الشرقية حتى ركله بجزمته ذات النعل المدبّس والرأس الحديدي وتركه ينزف ليلاً في الشارع مغميّاً عليه.

لم يحتمل شارل، بعد ذلك الحادث وما سبقه من حوادث الاضطهاد النفسي والاحتقار المعنوي... فقرّر اختصار إقامته وغادر ألمانيا بعد أربعة عشر شهراً فقط من وصوله إليها، عائداً إلى الولايات المتحدة.

ويمكن القول إن تلك التجربة الفريدة في ألمانيا النازية، وما عاينه الرجل من هشاشة الصيرورة البشرية على سطح هذا الكوكب وخطر النظرة الفوقية إلى العالم من برج القوة وبمنطقها البربري التصفوي، كانت بمثابة الزناد الذي بعث الشرارة في نفس شاب ألمعي لا تزال تدوي في أعماقه روايات أبيه عن نكبات الحرب العالمية الأولى وأهوالها. فبدأ شارل يفكر تفكيراً منهجيّاً أكاديميّاً فلسفيّاً بحقوق الإنسان.

عاد مالك إلى لبنان مطلع 1939 بعدما كتب إلى رئيس الجامعة الأميركية في ذلك الحين الأستاذ بايرد دودج، منبّهاً إلى خلوّ فروع الجامعة من العلوم الإنسانيّة، ومشدّداً على حاجتها الملحّة إليها. وانطلاقاً من هذا التوجّه الذي وقع من نفس الرئيس دودج موقع التقدير، تمكّن مالك من تحقيق حلم طالما راوده في سيرته الأكاديمية، وهو تأسيس دائرة للفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت.

قرف واشمئزاز من السياسة

أدرك مالك عبر قراءته المنطقية البصيرة لأحداث الحرب العالمية الثانية، ومن خلال تجربته العلمية والحياتية في الولايات المتحدة وألمانيا، واتصاله الذي لم ينقطع بالغرب عموماً، أن ميزان القوى بدأ سنة 1943 يرجح كفّة الحلفاء. وبالرغم من إيمانه المبدئي بحرية الشعوب وحقّها في تقرير مصيرها، يبدي بعض التحفّظ على توقيت معركة الاستقلال في لبنان سنة 1943، ويعتبر ذلك الاستقلال سابقاً لأوانه ما دام لبنان لم يؤمّن له الإعداد المنهجي والكفاية اللوجستية سلفاً، وما دام النظام العالمي الجديد لن يستتب أو تتضح معالمه إلا بعد نهاية الحرب.

كان لا بد للدولة المستقلة الفتية من الاستعانة بشخصيات لبنانية ذات ثقافة أنغلوساكسونية لإنشاء سفارتي لبنان في لندن وواشنطن. وسرعان ما اتجهت أنظار المسؤولين إلى الرئيس كميل شمعون والدكتور شارل مالك. وقد فاتح الرئيسان بشارة الخوري ورياض الصلح مالك بهذا الأمر، ودُعي إلى حفل عشاء مع قرينته في دارة رئيس الجمهورية في عاليه لتقديمهما إلى المجتمع السياسي اللبناني والأجنبي في صيف السنة 1944. لكنه ما إن تسنّت له المواجهة الواقعيّة مع السياسة والسياسيين للمرة الأولى في تلك المناسبة الرسمية حتى جنح في قرارة نفسه إلى ما يسميه في مذكراته «نوعاً من القرف والاشمئزاز».

وكان شارل قد استمهل الرئيسين في الجواب على اقتراحهما. ثم عاين من قرينته رفضاً قاطعاً للانخراط في العمل السياسي. إلا أنه بالرغم من ذلك النزوع في طبيعته إلى الرفض، لم يهمل إشارة عقله وإيماءة وطنيّته في وجوب ركوب تلك المطيّة لخير لبنان واستلحاق ضمّه إلى المجتمع الدولي في مناسبة قد لا تطرأ في التاريخ مرّة ثانية.



عمل شارل مالك كي لا يبقى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حبراً على ورق



رسالة قيميّة وموازين القوى

كانت ألمانيا الهتلرية قد انهارت والحرب مستمرة ضد اليابان، فبدأ مؤتمر سان فرنسيسكو في 25 نيسان (1945) وانتهى بصدور ميثاق الأمم المتحدة في 26 حزيران.

ألقى مالك (وزير مفوّض) بتاريخ 28 نيسان خطاباً في الجلسة العامة للمؤتمر. وقد ركز فيه على أن مؤسّسة كالأمم المتحدة يجب أن تكون ذات رسالة قيميّة خلقية، وهو أمر يفسح في المجال أمام الدول الصغيرة لمشاركة الدول العظمى في تقرير المصائر الإنسانية.

ويتحدث مالك في مذكراته بصراحة عن الأزمة النفسية التي ألمّت به في سياق المؤتمر وخلال تمرسه بالحياة السياسية، فيبدي أسفه للصدود الذي كان يلقاه من وفود بعض الدول الغنية والقوية باعتباره يمثل بلداً صغيراً حديث العهد بالاستقلال لا قيمة له في موازين القوى.

توجه مالك إلى واشنطن فور انتهاء مؤتمر سان فرانسيسكو لتأسيس السفارة اللبنانية في العاصمة الأميركية، وتمّت ترقيته لاحقاً إلى رتبة سفير ومندوب دائم للبنان في الأمم المتحدة.

السيطرة واحتكار النفوذ

تعتبر السنة 1946 نقطة ارتكاز لتحول شارل مالك إلى شخصية عالمية بارزة تصدر الفتاوى الإبداعية المميزة في الشؤون المصيرية. وقد تجلى أول اعتراف دولي بتلك الشخصية في إعادة انتخابه عضواً في المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وهو العمود الفقري للمنظمة الدولية والهيئة الرسمية التي أنيطت بها أصعب المهام وأدقّها لبعث المجتمع البشري بعد الحرب، وفي عداد هذه المهام الرئيسية وضع شرعة لحقوق الإنسان حسبما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة. وتم في 16 شباط 1946 تأليف لجنة أولية خاصة بحقوق الإنسان من تسعة أعضاء في المجلس الاقتصادي والاجتماعي. ثم تضاعف أعضاء هذه اللجنة فأصبح 18 عضواً في أواخر السنة نفسها، بينهم مالك، وأناط المجلس باللجنة المذكورة وضع الشرعة المتعلقة بحقوق الإنسان.

ويقول مالك في دفاتر يومياته، إن عنوان حقوق الإنسان كان يثير تحفظات الدول الكبرى أهمها الرغبة في السيطرة واحتكار النفوذ بالنسبة لبعضها، أو الرغبة في المحافظة على المكاسب الاستعمارية بالنسبة لبعضها الآخر.

ما إن تسلّمت لجنة حقوق الإنسان من الأونيسكو (تأسست في 1946) آراء الفلاسفة والمفكرين العالميين الذين استشارتهم في مسألة الحقوق المشار إليها، حتى بدأت سلسلة اجتماعات مكثفة من 27 كانون الثاني إلى 10 شباط 1947، في نيويورك، أقرّت اللجنة خلالها تثبيت السيدة روزفلت في مركز الرئاسة ومندوب الصين بنغ تشونغ تشانغ نائباً لها، وانتخبت مالك مقرّراً.

مبارزة عقائدية

ولا بد لنا من وصف الأجواء التي سادت الاجتماعات من التوقف عند ظاهرتين أساسيتين:

الأولى هي التباين بين آراء مالك الأرسطاطاليسي التومائي المسيحي، وآراء تشانغ الكونفوشي الذي يدعو إلى الفضيلة مجسّدة بنظام الحكم.

الثانية تجلّت في انفجار الوضع خلال المبارزة العقائدية بين مالك والمندوب السوفياتي واليوغسلافي.

وقال مالك: «إن لم أكن مخطئاً في فهمي هذا العصر، فالمعضلة التي نواجه هي الصراع بين الإنسان وشخصيّته الخاصة والحرية، من جهة، والضغط الذي لا حدود له من قبل المجموعات، بما فيها أمته، من جهة أخرى».

ولكن التحديات العقائدية تواصلت. وكان مالك يركّز في مداخلاته على المبادئ الآتية:

1. عدم بقاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مجرد حبر على ورق.

2. ضرورة الاستعجال في إنجاز هذه الوثيقة التاريخية.

3. وجوب تحديد الحقوق الأساسية وتمييزها عن سائر الحقوق ذات الأهمية الأدنى.

4. التسليم المطلق بأن سلطة الدولة مستمدة من إرادة الشعب لا من موافقة الشعب.

5. حرية العقل والضمير في اختيار الفرد لموقفه من توجهات الجماعة المسيسة.

6. تعزيز الثقافة والتراث الكلاسيكي للشعوب وتبادل آرائهما بينها، واحترام حرية التغيير وحرمة العائلة والاعتراف بحق اللجوء وحق تقرير المصير.

7. إيلاء الدول الصغيرة ما تستحقه من اهتمام وتزويدها بالمفاعلات القانونية الدولية لتمكينها من فرض آرائها البعيدة عن المصالح الإمبريالية.

8. عدم استثناء أي دولة أو شعب من امتيازات حقوق الإنسان بسبب العرق أو اللون أو الدين، واعتبار جميع الأمم متساوية في الحقوق الإنسانية مجتمعات وأفراداً.


جريمتان

والجدير بالذكر أن مالك بذل جهوداً مضنية في صيف 1947 وخريفه، مندفعاً بروحه الوطنية لإقناع الدول العظمى بعدم التكفير عن جريمة مرتكبة ضد شعب بارتكاب جريمة قد تكون أشدّ وأدهى ضد شعب آخر. والحق يُقال أنه لم يكن في استطاعة رجل فرد أن يقاوم وحده الجارف المرصود الذي عملت الصهيونية على تجييشه خلال قرون. وتقاعد مالك بعد أن صوّب العرب ضد قرار التقسيم بالرغم من كل ما فعله لإفهامهم خطورة ذلك الرفض، وقرر إنقاذ ما تبقّى من طموحه البكر، وهو شرعة حقوق الإنسان. وتشير دفاتر اليوميات إلى أنه كان شبه متأكد من أن تفجير البركان الفلسطيني لن يحدث قبل الربيع أو الصيف. فقرر أن ينصرف خلال شتاء 1948 إلى شرعة حقوق الإنسان لتأمين ولادتها.



حالة طوارئ

ثمّ أن الجمعية العمومية للأمم المتحدة عقدت دورتها العادية في باريس خريف 1948، حيث انتخب مالك في 21 أيلول رئيساً للجنة المعنية بحقوق الإنسان خلفاً للسيدة روزفلت. وكان رينيه كاسان قد فرغ من وضع المسوّدة الأخيرة للشرعة بالاشتراك مع مالك الذي تكفّل تثبيت موادها الرئيسية فضلاً عن تحريره الديباجة. غير أن مناقشة الوثيقة والتصويت عليها فتح باب المزايدة على مصراعيه بين مندوبي الدول الكبرى التي جنحت إلى السلبية.



فقرر، بما يشبه التدابير الاستثنائية في حالة الطوارئ، أن تعقد اللجنة اجتماعات متواصلة ليلاً ونهاراً لمناقشة البنود، وألا يسمح لأي مندوب بمداخلة تتجاوز ثلاث دقائق، ثم أن يتمّ التصويت على مواد الوثيقة بمن حضر.



وأخيراً تحقق الأمل المنشود وتمّ إقرار الشرعة بالأكثرية الساحقة من الأصوات ودون أي اعتراض من أحد، فأذيع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من قصر شايو في باريس، بتاريخ العاشر من كانون الول 1948.



الإعلان وأهل الكهف


كان شارل مالك يعرف، وهو منكبّ على إنجاز الشرعة، أن تلك الوثيقة الفريدة المتكاملة ستنام نومة أهل الكهف على الرفوف المنسية في خزائن الحكومات. لكنّه كان يؤمن بأن النداء الهادف، حتى في صحارى الضياع وشعاب الكواسر والضواري، خير من الصمت المطبق والركون الحزين. وانطلاقاً من ثقته وإيمانه بكون الشرعة واجبة الوجود لتأسيس مجتمع الحرية والحق والاحترام في العالم المعاصر، رأى أن مجرّد إدراجها في تراث الأمم المتحدة سيظل ماثلاً في حافظة الشعوب إلى يوم تنصاع فيه الحكومات لإرادة شعوبها فتنقل تلك الوثيقة النظرية إلى حيّز التنفيذ.


وفي الوقائع المتصلة بسيرة الرجل وأهدافه، أنه ما إن فرغ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في نهاية 1948 حتى عكف بين عامي 1949 و1954، على وضع ملحق لذلك الإعلان يؤمّن تطبيقه من جانب الدول الموقّعة عليه والدول المنضمّة لاحقاً إلى الأمم المتحدة.



غلاف "شارل مالك دور لبنان في صنع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"



شهادات وآراء

يجمع كتاب «شارل مالك: دور لبنان في صنع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»، الذي شارك في تحريره رفيق المعلوف وحبيب مالك وجورج صبرا، بين الفخر والاعتزاز ومحاولة الروي والتأريخ. وفي حين لا يورد الكتاب الآراء المختلفة أو النقدية، ولا يتحقّق منها ويفحصها، يُصدر الأحكام الغيابية في شأنها. كأن يرد: «كل ذلك دفع بالعناصر المشبوهة في الداخل... إلى بث الشائعات وإثارة الاتهامات الباطلة زاعمة أن مالك يستغل قربه من مراكز القرار الدولي لأغراض ومصالح شخصيّة، وأنه مثالي نظري بعيد عن السياسة الواقعية، أو أنّه لا يخدم القضايا العربية، إلى آخر ما هنالك من تخرّصات وأكاذيب، يعرف الباحثون الجدّيون أن القوى الطامعة الغامضة والمتحالفة مع بعض فلول الاستعمار القديم كانت تقف وراءها وتنشط في ترويجها لضرب الرجل من بيت أبيه وإسقاطه في عقر داره بحيث يسقط في ديار الآخرين» (41). وفي مقابل هذا، تُفتح الصفحات لرد مالك والدفاع عنه.

هنا، مجموعة من الآراء والشهادات المتنوعة فيه:

• «شغل الديبلوماسي اللبناني المرموق شارل مالك منصب رئيس اللجنة الثالثة للجمعية العمومية، وأدى دوراً حاسماً في وضع نصّ هذا الإعلان». (كوفي أنان، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة)

• «قام الدكتور مالك بدور أساسي في أعمال لجنة تحضير الإعلان العالمي (لحقوق الإنسان) واشتهر موقفه في إقرار مبدأ حريّة المعتقد الديني». (جوزف مغيزل «كتابات»)

• «في حديث أمام جمهور أميركي في الولايات المتحدة في أواخر الخمسينات، قام شارل مالك... فوصف اللبنانيين في صورة شعرية بأنّهم شعب يمكنه وحده الوصول إلى قدس أقداس الغرب وقدس أقداس الشرق في آن معاً. وهذا ما يضعهم في موقع فريد يمكّنهم من فهم كلتا الحضارتين العالميّتين في أعمق مستوياتهما». (كمال الصليبي «بيت بمنازل كثيرة»)


• «وكان شارل مالك طبعاً جاهزاً للإطناب والتغرير والتشويق لمثل هذا الاتجاه الانحرافي للسلطة اللبنانية (دعم أميركا للتجديد للرئيس كميل شمعون)، كيف لا وقد رأى في الأمر محاولة لربط دويلة لبنان بمحور الحضارة المسيحية الأوروبية الأصيلة، وبجعل نهر الليطاني ينصب في أنهر الهودسون والتنسي... والرجل مأخوذ بالحضارة الأصيلة إلى درجة أنه لا يدرك أن كل حضارة في العالم- وربما الحضارات الشرقية أكثر من الحضارة المادية الغربية ونكاد لا نسمّيها حضارة لولا العلم بل مدنيّة- لا يدرك أن كل حضارة في العالم تعكس شيئاً من أصالة الإنسان وقيم جوهر ذاته... ولعل في العودة إلى حضارات الشرق هذه- واليونان القديمة شرق في الواقع وفي هذا المعنى- أفضل دواء للمدنية الغربية المسيطرة للخلاص من الورطة الماديّة التي حشرت نفسها فيها». (كمال جنبلاط «حقيقة الثورة اللبنانية»)


• «لا أحد يجهل قوّة الإقناع التي يتمتّع بها شارل مالك. فهو صانع أجيال ومكيّف عقول ومهندس رجال من الطراز الأوّل. والذين يعرفون مكانته في أميركا، مثلاً، يروون الحكايات باعتزاز عن مدى الإجلال الذي يكنّه له المثقّفون الأميركيون وعن مدى نفوذه الفكري هناك. غير أنه هنا، وفي كل مرّة يكتب في الإيمان تكتسب قوّة الإقناع لديه حجماً إضافيّاً هو الحجم الإنساني البشري المحسوس ببساطة يندر أن نجدها عند فيلسوف حين يكتب في شؤون المعرفة الأخرى». (أنسي الحاج «كلمات كلمات كلمات»)


• «كانت حداثة أنطون سعادة غير الحداثة الليفانتينية التي مثّلها لنا أساتذتنا في الجامعة الأميركية، وبخاصّة شارل مالك، والتي كنّا نقف إزاءها بخشوع واحترام، والتي دعا أنطون سعادة إلى محاربتها والتغلب عليها واستبدالها بحداثة قومية مستقلّة. لم تكن الحداثة بالنسبة له تلك التي تستورد من الغرب بل تلك التي تنبع من داخل المجتمع وتراثه الحي. وكان اعتقاده جازماً بأن المجتمع السوري قادر على الخلق والتجديد دون اللجوء إلى النماذج الأجنبيّة، وأن في النفس السورية كل علم وفلسفة وفن. كانت الحضارة الغربية بالنسبة له واحدة من بين الحضارات العالمية، وليست، رغم هيمنتها المادية والعسكرية، الحضارة القدوة أو المثال (كما كانت بالنسبة لشارل مالك)». (هشام شرابي «صور الماضي: سيرة ذاتية»)


• «وبشكل طبيعي، جلس بشير (الجميل) على مقعد الشرف في صدارة الطاولات التي وزّعت على شكل U، عيَّنَ الكرسيَّ إلى يمينه، وطلب باحترام من عميد السن، شارل مالك، أن يرأس الجلسة... وكان (مالك) بهامته المهيبة ووجهه الممدد بأنف بارز، يرتدي دائماً زيّاً مفصّلاً على الطريقة الأميركية القديمة. وكان، بسنواته التي ناهزت السبعين وبصوته الجهوري، ومازجاً في كل أحاديثه العربية بالإنكليزية، بمثابة الضمير ومرجع الزعيم المسيحي الشاب في الشؤون الدولية». (آلان مينارغ «أسرار حرب لبنان»)

MISS 3