حسان الزين

البقاء لمن يتجدد فكرياً وسياسياً

20 كانون الثاني 2024

02 : 02

لا مكان، ولا دور، ولا من يحزنون، للوطنيين، للديمقراطيين، للعلمانيين، للاطائفيين، لليساريين، للمدنيين، للاعتراضيين والاحتجاجيين على النظام وقوى السلطة وممارساتها التدميرية في السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة، باختصار: لكل من يريد بناء دولة القانون والمؤسّسات، إذا لم يغيّروا ما في أنفسهم.

وهؤلاء ليسوا قلّة قليلة، وإن كانوا شراذم، ويتناقصون، يوميّاً، إلى اليأس والإحباط، والهجرة، وخطابات «الواقع» وقواها وحاشياتها وحواشيها، وإلى رحمة الله.

ليست المشكلة في الأنفس فحسب، ولا تُحجز الأماكن والأدوار والنجاحات لمجرد أن يُغير ما في الأنفس. المسألة أعقد وأكبر، لكنّ جزءاً من الحل يبدأ منها.

لقد استنفد هؤلاء كل أساليب الاعتراض والاحتجاج، التي توافرت لديهم. سُدَّت الطرق في وجوههم. قُمعوا. اتُهِموا. شوِّهوا. بُحّت أصواتُهم. راهنوا على الشعب ويقظته. لم ينتظروا ذلك. تحرّكوا، ودعوا المواطنين والمواطنات الواقفين على البلكون إلى الانضمام إليهم في الشوارع والساحات. وإذ فاجأتهم الحشود، لمرات ومرّات، احتفوا بها، ثم تفاجأوا، لمرّات ومرّات، بانفضاضها. ومع كل انفضاض، كان التساؤل عمّا يحرّك الشعب أو ما يخمده يكبر ويزداد غموضاً، كأنه أمر ماورائي.

وقد فرغت الشوارع والساحات. وكان في المشهد ثلاثة نماذج:

1. البعض واصل التحرّك، نحو المؤسسات والإدارات العامة، وأنشطة مطلبية أخرى. هؤلاء، لم يقصدوا الإنابة عن الشعب بل دعوته إلى التحرك، إلى العودة. لكن، وهم يواصلون الانتفاضة، وفي أعماقهم ذاك السؤال، كانوا كمن يدخل بيتاً ولا يجد أهله.

2. وهناك من راحوا، أثناء الانتفاضة وبعد انفضاض الحشود، يؤلّفون المجموعات، في الغالب، بناءً على انسجام خطاباتهم الفردية وتطابقها في ما بينهم. وإذ أخذ عصب الانتفاضة يرخو، باتت المجموعات تتناقص وتكرّر خطاباتها.

3. في الأثناء، كانت الأحزاب المنتفضة وأخواتها من التشكيلات، يميناً ويساراً ووسطاً، متصلّبة أيديولوجيّاً وخطابيّاً، على الرغم من بعض الليونة في الشكل لجذب مجموعات من هنا ولتنظيم تحرّك من هناك ولموقع ودور هنالك. وقد أبقى ذلك تلك الأحزاب والتشكيلات في مواقعها وخطاباتها الماضية. وليس ذلك فحسب، بل أسهم هذا النموذج، والنموذجان الآخران، في عدم استثمار الفرصة للخروج من خريطة الانقسام السياسي المستمرّة من الحرب ومن 2005 وما بعدها.

ولم يفسح ذلك كله، بنماذجه الثلاثة الكبرى، المجال لانتقال انقسام 8 و14 آذار وخطاباته الإقليمية - المذهبية إلى الانتفاضة فحسب، بل حال دون ممارسة السياسة، ودون عقد علاقة منظّمة مع «الجمهور»، ودون الشروع في إنتاج مشاريع وبرامج عمل وأطر سياسية تنظيمية جديدة.

اليوم، بعد تلك التجارب، وفي ظل التغيرات الدولية والإقليمية المهولة والخطيرة، وتعليق لبنان في الفراغ والانتظار وترنح نظامه وتآكل دولته، لا مفر لمن يريد حماية لبنان ومجتمعه، وبناء دولة وإحياء الحياة السياسية، من تقييم الماضي والتحرر من الخطابات الأيديولوجية والانقسامية، ومن التفكير المقرون بالعمل الجماعي والديمقراطية والتواصل مع المجتمع، في المتغيرات الدولية والإقليمية والداخلية، وتلمّس «المطلوب» فكريّاً وسياسيّاً وعمليّاً.

بات ضرورياً الإقلاع عن تقديس جمود الأنفس وخطاباتها، ودعوة الواقع والشعب إلى التغير وفق إملاءاتها. وبات ضرورياً الانتماء إلى المجتمع - الناس ومغادرة الانتظار الماورائي.

من دون ذلك يصعب، بل يستحيل، ارتقاء حالات الاحتجاج وقوى الاعتراض إلى معارضة سياسية هي ممكنة وحاجة. والأهم أن من دونه سيستمر تقلّص تيار الاعتراض والاحتجاج وتشرذمه وتبدّده، وستتسع الهوّة بينه وبين المجتمع، وستخلو الساحة لتياري الانقسام الإقليمي... وسيتفاقم الخطر على لبنان ودولته ومجتمعه.

البقاء لمن يتجدّد، ويتقن قراءة الواقع والتغيرات، ويستعد فكريّاً وسياسيّاً وعلى مستوى النفس.

MISS 3