أمين حسين صالح

موازنة الدولة للعام 2024: جريمة ضد الإنسانية

23 كانون الثاني 2024

20 : 16

ورد في مقالة في جريدة Le Monde في نوفمبر 2020 " لبنان لم يعد دولة ... لبنان الدولة وحش لا يمكن السيطرة عليه ".

مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة وصف المشكلة المالية في لبنان بأنها " الجريمة ضد الإنسانية " إن حكومة لبنان تقوم بإفقار وحشي للمواطنين وتخريب حياة الناس .. 77% من العائلات ليس لديها ما يكفي من الطعام ... لبنان هو الدولة الأكثر تعاسة والأقل سعادة... ".


فماذا عسى العاقل والعالم بأمور الإقتصاد والمال أن يقول بعد إقرار المنظومة السياسية المالية الحاكمة مشروع موازنتي الدولة للعامين 2023 و2024 ، أقل ما سيقوله بهما أنهما " جريمة ضد الإنسانية " .


هل يعقل أن يقال أن حكومة ترتكب جريمة إنسانية بحق شعبها ؟ نعم هذا ما يحصل فعلاً.


بداية لا بد من التعريف بأن الجريمة ضد الإنسانية تعني بالتحديد أي فعل من الأفعال المحظورة والمحددة في نظام روما متى أرتكبت في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين وتتضمن مثل هذه الأفعال القتل العمد _ الإبادة _ الإغتصاب _ العبودية الجنسية _ الإبادة الجماعية _ الإبعاد أو النقل القسري للسكان وجريمة التفرقة العنصرية وغيرها .


الجرائم ضد الإنسانية عرضة للعقاب بصرف النظر عن إرتكابها وقت الحرب أو السلام.


وفي تعريف آخر للباحث وليم نجيب جورج نصار، هي : تلك الجرائم يرتكبها أفراد من دولة ضد أفراد آخرين من دولتهم أو من غير دولتهم وبشكل منهجي وضمن خطة للإضطهاد وأو التمييز في المعاملة بقصد الإضرار المتعمد ضد الطرف الآخر وذلك بمشاركة مع آخرين لإقتراف هذه الجرائم ضد مدنيين يختلفون عنهم من حيث الإنتماء الفكري أو الديني أو العرقي أو الوطني أو الإجتماعي أو لأية أسباب أخرى من الإختلاف.


وغالباً ما ترتكب هذه الإفعال ضمن تعليمات يصدرها القائمون على مجريات السلطة في الدولة أو الجماعة المسيطرة ، ولكن ينفذها الأفراد . وفي كل الحالات يكون الجميع مذنبين من مصدري التعليمات الى المحرضين ، الى المقترفين بشكل مباشر ، الى الساكتين عنها على الرغم من علمهم بخطورتها.


تعد جرائم ضد الإنسانية : القتل العمد ، الإبادة : وتشمل فرض أحوال معيشية من بينها الحرمان من الحصول على الطعام أو الدواء بقصد هلك جزء من السكان – إجبار الضحايا العيش في ظروف ستؤدي حتماً الى هلاك جزء من مجموعة من السكان ، الإسترقاق ، إبعاد السكان ، السجن أو الحرمان الشديد ، التعذيب ، ..... ومنها الإفعال اللإنسانية الأخرى ذات الطابع المماثل التي تتسبب عمداً في معاناة شديدة ، أو في أذى خطير يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية.


إن الإثبات على ما تقترفه المنظومة الحاكمة من أعمال لا إنسانية لا يحتاج الى جهد ، فبمجرد قراءة أرقام مشروعي موازنة العام 2023 والعام 2024 والمقارنة بينهما ليتبين حجم الجريمة التي تنوي الحكومة إرتكابها بحق الشعب اللبناني (ونشير هنا الى أننا تجاوزنا مشروع موازنة العام 2023 باعتبار مشارفة السنة على الإنتهاء).


أولاً : أرقام الموازنة / مليار ل.ل


وبالإضافة الى ما تقدم ، فإنه لا شيء يبرر الزيادات في أرقام الموازنة بين مشروعي موازنة العامين 2023 و2024 إذ أنهما أعدتا في ذات التاريخ تقريباً في شهري تموز وآب من العام الجاري ، وعليه فإن الوحيد الثابت هو أن المنظومة السياسية المالية الحاكمة مستمرة في تنفيذ سياسة التمويل بالتضخم وإفقار الشعب وتجويعه والدفع الى القعر السحيق للإنهيار الشامل والكامل للبلاد والعباد.


ثانياً : توزيع النفقات العامة

الموازنة العامة للدولة وفقاً لدساتير الدول ولعلم المالية العامة هي قانون تحدد بموجبه نفقات الدولة ووارداتها عن سنة مقبلة والنفقات تعني قيام الدولة بوظائفها الدفاعية والأمنية والخارجية والعدالة والوظائف الإقتصادية والإجتماعية ولا سيما الصحة والتربية والتعليم والخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء والمواصلات والإتصالات وغيرها ، وواردات الموازنة هي الأموال اللازمة لتأمين النفقات المذكورة ، ويتم تأمين هذه الأموال من الضرائب والرسوم التي تجبيها الدولة من مواطنيها ومن أملاك الدولة العامة والخاصة ، وإذا زادت النفقات عن الواردات تلجأ الحكومات عادة الى الإستقراض من الداخل والخارج . الموازنة بهذا المفهوم القانوني والمالي يقتضي أن تؤمن الإستقرار الإقتصادي والإجتماعي ، وهذا ما نص عليه القانون المالي في فرنسا مثلاً ، ذلك أن الموازنة ليست فقط لجمع المال لتغطية نفقات الحكومة بل أداة مالية أساسية بيد الدولة لتحقيق النمو والإستقرار الإقتصادي والإجتماعي أي أن هدف الموازنة يقتضي أن يكون تأمين التوازن والإستقرار في الإقتصاد أي لا يجب أن تحدث الموازنة آثار تضخمية أو إنكماش في الإقتصاد ، ولا يجب أن تحدث خللاً في البنية الإجتماعية للمجتمع إذ عليها أن تسعى الى مكافحة الفقر والبطالة والجوع وتؤمن حداً معيناً من الرفاهية للمواطنين.


إن الموزازنات العامة للدولة اللبنانية منذ العام 1993 وحتى الآن لم تكن إلا مجرد بيانات مالية تتضمن نفقات الدولة ووارداتها فقط ، زيادة في الإنفاق وتزايد في الضرائب ، ولم تكن لها أي أهداف تنموية بل كانت تقتصر على ثلاثة بنود رئيسية هي نفقات الرواتب والأجور والكهرباء وفوائد الدين العام التي تراوحت بين 38 و42% من مجموع الإنفاق الحكومي ، وكانت النفقات الجارية أي الإستهلاكية تعادل 93% في حين لم يبلغ الإنفاق الإستثماري ( البنى التحتية ) الـ 7%.


إن موازنة العام 2024 لم تخرج عن هذا المسار ، بل إنها أسوء الموازنات على الإطلاق لأنها تعد في خضم أزمة إقتصادية مالية نقدية معيشية لم يسبق أن شهدها لبنان ، ومشروع هذه الموازنة جاء لتوسيع وتعميق هذا الإنهيار . إن موازنة العام 2024 هي بإمتياز موازنة ضرائب ورواتب وفوائد ولا شأن لها بمعالجة الإنهيار الحاصل.


فقد خصصت لإعتمادات الإنشاء والتجهيز أي النفقات الإستثمارية في البنى التحتية حوالي 16 ألف مليار ما يعادل 5% من إجمالي موازنة العام 2024 وتتضمن نفقات الإستملاكات والتجهيزات والإنشاءات والصيانة.


أما إعتمادات قوانين البرامج والمقدرة بـ 1196 مليار ل.ل ومنها تجهيزات لصالح الجيش ومقدرة بـ 440 مليار ل.ل فقد تم ترحبلها من 2022 الى 2023 والى 2024 وأسقطت بالتالي إعتماداتها كافة.


وتبين مما تقدم بأن الحكومة ليس لديها نية لتأمين الخدمات الأساسية للمواطن من مياه وكهرباء ومواصلات وإتصالات وطرق ومبان حكومية ، وهذا يعني أنها تركت على المواطن عبء تأمين هذه الخدمات من ماله الخاص بالإضافة الى تدفيعه رسوم هذه الخدمات شبه المعدومة . وبذلك تفرض الحكومة أحوال معيشية بائسة من بينها الحرمان من الحصول على الطعام أو الدواء بقصد هلك جزء من السكان وإجبار المواطنين على العيش في ظروف سنؤدي حتماً الى هلاك محموعة من السكان ، وهذه الأعمال لا إنسانية تقوم بها حكومة يفترض بها تأمين الرفاهية والسلامة لشعبها.


أما لناحية النفقات الجارية فقد قدرت بـ 95% من إجمالي الموازنة وبلغت حوالي 285 ألف مليار ل.ل وتتضمن هذه النفقات المواد الإستهلاكية ( لوازنم مكتبية وملابس ومحروقات وأدوية وبدلات المياه والكهرباء والإتصالات وخلافه ) ، الخدمات الإستهلاكية ( إيجارات – صيانة – بريد - إعلانات – مطبوعات – تأمين وبدلات أتعاب ) نفقات موظفي الدولة ( المخصصات والرواتب والأجور وملحقاتها والمنافع الإجتماعية كمعاشات التقاعد وتعويض نهاية الخدمة والتقديمات الإجتماعية والإشتراكات والمساهمات في صناديق التعاضد ) ، مساهمات للرواتب والأجور في المؤسسات العامة ومساهمات وعطاءات لهيئات لا تتوخى الربح ، النفقات المختلفة ( نقل وإنتقال ونفقات إستشغاء ) والنفقات المالية وهي فوائد الدين العام بالليرة اللبنانية والعملات الأجنبية.


وفقاً للتصنيف الإقتصادي بلغت تقديرات هذه النفقات كما يلي ( ألف مليار ل.ل ):



يتبين مما تقدم بأن نفقات موظفي القطاع العام قد بلغت حوالي 60% من إجمالي الموازنة و63% من الإنفاق الجاري ، إلا أنها من ناحية القدرة الشرائية مقيمة بالدولار تساوي حوالي 2.08 مليار $ فقط وهي تساوي 29% فقط من القدرة الشؤائية للرواتب عام 2019 عندما كان سعر الصرف 1507.5 حيث فقدت رواتب القطاع العام ما بين 85 الى 90% من قيمتها الشرائية.


وبالرغم من الحجم الضخم لكتلة الرواتب والأجور في القطاع العام بالعملة الوطنية إلا أنه ليس من شأن ذلك إعادة تسيير الإدارات العامة بأكثر من يومي عمل من أصل خمسة أيام عمل و15 ساعة من أصل 35 ساعة أسبوعياً أي حوالي 44% فقط من قوة عمل الإدارة . هذا فضلاً عن أن مشروع الموازنة لا يتضمن بنود إدارية إصلاحية ، علماً بأن الحكومات لم تطبق أي من الإصلاحات الإدارية التي نصت عليها الموازنات السابقة فيا يتعلق بالمسح الوظيفي وملء الشواغر وتصنيف الوظائف وتصفية الفائض وخاصة غير الشرعي منه.


ومن المفارقات الغريبة أن الحكومة خصصت للإنفاق الإستثماري ما يعادل تقريباً فوائد الدين العام بالرغم من أنها أعلنت ومنذ آذار 2020 عن عجزها عن تسديد أصل الدين العام وخدمته بالعملتين الوطنية والأجنبية ، ولم تتضمن هذه الموازنة أي نص يتعلق بمسألة الدين العام الذي كان أساس الإنهيار المالي والنقدي.


أما وفقاً للتصنيف الوظيفي ، فقد قدرت النفقات كما يلي ( ألف مليار ل.ل ):


ويلاحظ من الجدول أعلاه إنخفاض نسبة الإنفاق على الصحة التي بلغت 10% والإنفاق على التعليم 3.41 % بينما كان في السنوات السابقة حوالي 8.7% ، وهذا يعني أن أهم شأنين إجتماعيين هما الصحة والتعليم ويمسان حياة كل المواطنين ولا سيما الفقراء والمعوزين وأصحاب الدخل المحدود لا يتجاوز 13.7%، مما يعني أن المنظومة السياسية المالية الحاكمة تتعمد جعل المواطن بدون علم أو صحة أو في مستويات متدنية جداً ، وهذا يعتبر من الأفعال اللإنسانية وذات طابع عام شامل التي تتسبب عمداً في معاناة شديدة أو في أذى خطير يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية للإنسان في لبنان.


أما فيما يتعلق بالواردات المقدرة في مشروع موازنة العام 2024 فهي إيرادات الضرائب والرسوم وإيرادات غير ضريبية من حاصلات إدارات ومؤسسات عامة وأملاك الدولة العامة والخاصة ومن القروض ( الدين العام ) وقد بلغت الإيرادات من الضرائب والرسوم 208 ألف مليار ل.ل ونسبتها 69% وبلغت الإيرادات غير الضريبية 51 ألف مليار ونسبتها 17% ، أما القروض وقد بلغت 42 ألف مليار ونسبتها 14% . ويتبين مما تقدم ، بأن المنظومة الحاكمة اعتمدت لتمويل نفقات الدولة على الزيادة المفرطة في الضرائب والرسوم غير المرتكزة على زيادة النمو الإقتصادي وإرتفاع حجم الناتج المحلي بل بالعكس من ذلك كان الناتج المحلي تراجع من 53 مليار $ عام 2019 الى حوالي 18 مليار د.أ أي نسبة الثلثين وفقاً لتقدير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وتراجعت القدرة الشرائية لليرة اللبنانية بمعدل 98.5% وبالتالي القدرة الشرائية لمداخيل معظم اللبنانيين ويعاني الآن لبنان من تضخم انكماشي في الإقتصاد حيث أن ارتفاع الأسعار لم يكن ناتجاً عن زيادة الطلب على الإستهلاك وإنخفاض عرض السلع والخدمات بل هو ناتج عن تدني قيمة سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي وذلك كله ناتج عن السياسات الإقتصادية والمالية والنقدية الفاشلة وعمليات النهب والهدر للأموال العامة وسوء إدارة موارد المجتمع التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة منذ العام 1993 ولغاية تاريخه، والحكومة الحالية التي كان يقتضي عليها إعداد خطة للإنقاذ الإقتصادي والمالي والنقدي ومعالجة مسألتي الدين العام وعجز الموازنة المتفاقم ، وحل مشكلة الودائع واسترداد الأموال المنهوبة ، فإنها وخلافاً لذلك تعمد الى استغلال التضخم الإنكماشي ولا سيما تدهور سعر صرف الليرة لزيادة الضرائب والرسوم وجبايتها على أساس سعر صرف يتراوح بين 85500 ل.ل و89300 ل.ل للدولار الواحد ، وعمدت الى تحويل رسوم بعض الخدمات من الليرة الى الدولار على أساس سعر الصرف الرسمي 1507.5 ل.ل وأمرت بجبايتها على أساس سعر الصرف في السوق السوداء والذي بلغ 89300 ل.ل ولا سيما فيما يتعلق بجباية الرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة ورسوم المرافئ والمطارات والكهرباء والمياه والإتصالات وغيرها ، وجميع هذه الضرائب والرسوم هي ضرائب على الإستهلاك( غير مباشرة ) يتحمل عبأها الأساسي المواطن الفقير ومتوسط الدخل ولا يتأثر بها أصحاب الثروات والرساميل ، ودليلاً على ما تقدم فإن الجدول التالي يشرح بنفسه حجم الإفراط في زيادة العبء الضريبي على المواطنين:


جدول إجمالي




يتبين مما تقدم بأن الزيادة في الضرائب غير المباشرة التي تنوي السلطة تحميلها للبنانيين تساوي ثلاثة أضعاف الزيادة في الضرائب المباشرة علماً بأن الضرائب غير المباشرة تشكل العبء الأكبر على ميزانيات الأسر الفقيرة والمتوسطة الدخل بينما الضرائب المباشرة يتحمل عبئها على العموم الطبقات الغنية والميسورة، إذ تمثل الضرائب المباشرة حوالي 20% فقط من إيرادات الموازنة العامة والضرائب غير المباشرة تشكل 80% علماً بأن الضرائب على الرواتب تطال فئة الموظفين والمستخدمين الذين أصبحوا من الفئات على خط الفقر.


إن الضرائب المقترحة سوف تؤدي حتماً الى إنهيار العدالة الضريبية وتفاقم التفاوت بين فئات وطبقات المجتمع ، وستنتهي الى عدم إستقرار إجتماعي يليه عدم إستقرار سياسي وهذا يقود البلاد الى الفوضى . إن ما تقدم عليه السلطة الحاكمة لا يعدو أن يكون إلا أعمالاً لا إنسانية بحق شعبها يعاقب عليه القانون.


وبالختام نقول ، إن مشروع موازنة العام 2024 يشكل بالقدرة الشرائية وعلى أساس سعر صيرفة 85500 حوالي 3520 مليون دولار ما يعادل 20% فقط من موازنة العام 2019 سنة بدء الإنهيار ، وهذا الحجم لن يستطيع إنقاذ البلاد من إنهيارها بالرغم من كل وحشيته ولا إنسانيته في فرض الضرائب على الشعب المسحوق ، إن هذه الموازنة ما هي إلا جريمة ضد الإنسان اللبناني.


أمين حسين صالح

المدير السابق للمحاسبة العامة في وزارة المالية

النقيب السابق لخبراء المحاسبين المجازين في لبنان

أستاذ جامعي سابقاً

MISS 3