منصور بطيش

مع إصلاح ضريبي من دون إرهاق الطبقات المحدودة الدخل بأيّ أعباء إضافيَّة

حسناً فعلتم بزيادة ضريبة أرباح شركات الأموال

30 كانون الثاني 2024

02 : 00

من جلسة مناقشة موازنة ٢٠٢٤ في مجلس النواب (فضل عيتاني)

*رَفع مُعدَّل الضريبة على أرباح شركات الأموال من 17% إلى 25% هو بداية مشوار طويل باتجاه الإصلاح الشامل للنظام الضريبي في لبنان ليُصبح أكثر كفاءَة وعدالة وحيويّة


*تركيبة الضرائب في لبنان تَتّسِم باللاعدالة ولا مثيل لها في أيّ دولة غربيّة حيث الضرائب المباشرة تمثِّل بين 57% و64% من مُجمل إيرادات تلك الدول في حين أنَّها لا تتجاوز 25% في لبنان


*إنَّ التهرُّب الضريبي من الرسوم الجمركيَّة والضريبة على القيمة المضافة يُقدَّر بين مليار ومليار ونصف المليار سنويّاً عَلاوة عن التهرُّب من ضرائب ورسوم أُخرى بما لا يَقِلّ عن نِصف مليار


*يمكن للدولة جباية رسوم وغرامات إضافيّة على كل ما يضر بالبيئة كالمقالع والكسّارات والتعدّيات على الأملاك العامّة النهريّة والبحريّة بما يفوق المليار دولار سنويّاً



للأسف الشديد، أقلّ ما يقال عن جلسات مجلس النواب التي جرت لمناقشة مشروع موازنة 2024، أنَّها كانت استعراضيّة فوضويّة لا ترقى إلى مستوى المخاطر التي يعيشها البلد وتواجه اقتصاده، وشابتها عنتريّات مُستهجَنة، فكان بعض الخطاب مُعيباً «مافيَويّاً» لا يحترم ذكاء اللبنانيين ومعرفتهم العميقة بهذه الطبقة السياسيَّة، أفراداً وجماعات.

لقد أظهرَت الجلسات خفّة بعضهم وعدم تحسُّسهم هموم الناس وإعطاء الأولوية للمصلحة العامة بعيداً عن حساباتهم الضيِّقة. فلا قَطع حساب، ولا إصلاحات، ولا رؤية اقتصاديَّة، وتبجُّح كاذب بصفر عجز كأن سُلفات الخزينة ليست إنفاقاً ولا علاقة لها بالعجز. وناقشوا الموازنة كأنَّ لا غزّة، ولا حرب، ولا أزمة رئاسة ونظام، ولا حاجة ماسّة لإعادة بناء مؤسَّسات الدولة على أُسُس العدالة والقانون.

لمْ يعُد من حاجة للتساؤل لماذا وصَل لبنان إلى هذا المستوى غير المسبوق من الانهيار السياسي والمالي والخُلُقي. فسلوكيّات المنظومة المُتحكِّمة بمفاصِل البلد على مدى 30 عاماً والعابِرة للطوائف والأحزاب، وقُصر نظَرها وتشويهها الحقائق وتهرُّبها من إجراء أي محاسبة ومن إقرار الإصلاحات، كُلّ ذلك كان من الأسباب الرئيسية للارتطام الكبير وتحلُّل المؤسَّسات العامَّة.

إنَّ رَفع مُعدَّل الضريبة على أرباح شركات الأموال من 17%إلى 25%هو بداية مشوار طويل باتجاه الإصلاح الشامل للنظام الضريبي في لبنان ليُصبح أكثر كفاءَة وعدالة وحيويّة. ولا بُدَّ من التذكير بأنّ الضريبة على أرباح الشركات في لبنان كانت بنسبة 29.90% في خلال سنين الخَير قبل الحرب ولغاية العام 1993. وقد جرى تخفيضها إلى 10%على يَد الحكومة الأولى للرئيس الشهيد رفيق الحريري في العام 1993 بحجّة مكافحة التهرُّب الضريبي وتشجيع الاستثمار. فلا الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي ازداد ولا التهرُّب الضريبي جرى لجمه مذَّاك التاريخ، بل على العكس، تحوَّل اقتصاد لبنان إلى مزيد من الريعيَّة وتفاقمَ التهرُّب الضريبي. كما أنَّ الدَين العام أخذ بالتراكُم نتيجة شحّ الإيرادات خصوصاً من الضرائب المباشَرة إذ إنَّ الميسورين فضَّلوا، بطبيعة الحال، إقراض الدولة بفوائد عالية على دفع الضرائب المباشرة على أرباحهم. ومن جهة أُخرى، ازدادت الأعباء في خلال فترة الثلاثين عاماً الماضية على محدودي الدَخل الذين راحوا يدفعون ضرائب غير مباشرة ورسوماً على خدمات يفتَرض أن تكون مُنخفضة على غِرار ما هو سائد في الدول الغربيّة.

كُلّ ذلك دفع بعض المسؤولين إلى إعادة النَظر بمُعدّل ضريبة الـ10% على أرباح الشركات، فعَمدَ وزير المال السابق الدكتور جورج قرم في حكومة الرئيس سليم الحص إلى طرح رفع المعدَّل بنسبة عالية فأُقِرَّت الزيادة إلى 15% عام 1999. مِن ثمَّ، جرت زيادة المعدَّل إلى 17% في العام 2017.





كما نُشير إلى أنَّ البعض يجمع خطأً، منهم عن جَهل ومنهم عن سُوء نيَّة، معدَّل الضريبة على أرباح الشركات مع معدَّل الضريبة على أنصِبة الأرباح، فالأولى تطول الشركة وهي شخص معنوي مستَقلّ، في حين أنَّ الثانية تُصيب المساهمين من حصَّتهم في الجزء الموَزّع من الأرباح فقط وليس أبداً كلّ الأرباح. مع العِلم بأنَّ احتساب معدَّل الضريبة على أنصِبة الأرباح في معظم الدول الأوروبيَّة يَدخل في إطار الصَحن الضَريبي المُوحَّد ذي المُعدَّلات التَصاعُديَّة وبالتالي تُطَبَّق عليها نِسَب ضريبيّة أعلى بكثير ممّا هو مُعتمَد في لبنان. فعَلى ماذا يتباكون؟

إنَّ تركيبة الضرائب في لبنان تَتسِّم باللاعدالة ولا يوجد مثيلٌ لها في أيّ دولة غربيّة حيث الضرائب المباشرة تمثِّل ما بين 57% و64% من مُجمل إيرادات تلك الدول في حين أنَّها لا تتجاوز الـ25% في لبنان. يُضاف إلى ذلك أنَّ إيرادات الدولة اللبنانيَّة هي بُحدود 16%مِن إجمالي الناتج المحلّي كما وَردَ في مَشروع مُوازنة 2024 بينما تبلُغ نسبَتُها في دول أوروبا الغربيَّة ما بَين 38% و44%من إجمالي الناتج هناك. بمعنى آخر، تساوي الضرائب المباشرة في لبنان ومعظمها من الأرباح، نحو 4%فقط من إجمالي الناتج المحلّي (25%من 16%)، بينما تتراوح في دول أوروبا الغربيّة ما بين 23% و 26%من إجمالي الناتج المحلّي.

بَعد كُلّ هذه الأرقام، ألا يخجل هؤلاء الذين يعترِضون اليوم على هذا التصحيح الضريبي المطلوب من صندوق النقد الدولي كبند أساسي من بنود الإصلاح المالي، والمُفترض استكماله بمكافحة التهَرُّب الضريبي؟ وهنا لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ التهرُّب الضريبي من الرسوم الجمركيَّة والضريبة على القيمة المضافة يُقدَّر بما بين مليار دولار ومليار ونصف المليار سنويّاً، عَلاوة عن التهرُّب من دفع ضرائب ورسوم أُخرى بما لا يَقِلّ عن نِصف مليار دولار سنويّاً. كما أنَّه يمكن للدولة جباية رسوم وغرامات إضافيّة على كُلّ ما يُضرّ بالبيئة كالمقالع والكسَّارات والتعدّيات على الأملاك العامَّة النهريَّة والبحريَّة بما يفوق المليار دولار سنوياً.

هذه المعطيات وغيرها تدفعُنا إلى القول إن موازنة الدولة يمكن أن تتجاوز الستة مليارات دولار مع الأخذ في الاعتبار الحجم الحالي لإجمالي الناتج المحلّي، وذلك من دون إرهاق الطبقات المحدودة الدخل بأيّ أعباء إضافيَّة مُشتَّتة. حينذاك، يُصار إلى تصحيح الأجور لا سيّما في القطاع العام، وتأمين بعض من الإنفاق الاستِثماري الضروري ومن الحماية الاجتماعيَّة والرعاية الصحيَّة، وهكذا نبدأ رحلة الألف مِيل نحو الإصلاح والإنتاج والتنمية المتوازنة.

(*) وزير سابق

MISS 3