إن محكمة العدل الدولية القائمة في لاهاي-هولندا ليست محكمة جنائية بل إنها تطبق أصولاً أقرب ما تكون إلى أصول المحاكمات المدنية، وهي تعتبر الجسم القضائي الرئيسي للأمم المتحدة وحيث بالتوازي معه تتمتع بالكيان القانوني المستقل، وغني عن القول تمتعها بالإستقلالية المطلقة في عملها القضائي. تختص هذه المحكمة بنظر النزاعات بين الدول حصراً، فضلاً عن إصدار الأراء الإستشارية بناء لطلب المنظمات المرخص لها مراجعة المحكمة من قبل الأمم المتحدة. وتتم إحالة القضايا أمام المحكمة بشكل طوعي بعد توافق الأطراف المتنازعة على إيلائها الإختصاص لنظر قضية محددة، وإما بشكل إلزامي عن طريق الإتفاقيات الدولية لنظر النزاعات الناشئة بشأنها بين الدول الأعضاء فيها.
وهذه هي حالة الإتفاقية الدولية لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب القرار A/RES/3/260 المتخذ في 9/12/1948 وينضم إليها حالياً 153 دولة من بينها جنوب إفريقيا التي انضمت إليها في العام 1998، وإسرائيل التي وقعتها في العام 1949 وكانت في عداد أوائل الدول الأساسية الموقعة على هذه المعاهدة.
وإذ بالنسبة للقضية موضوعنا، أي قضية تطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في قطاع غزة، المرفوعة من جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، والمؤسسة لدى المحكمة بتاريخ 29/12/2023، فإن القرار الذي صدر مؤخراً بتاريخ 26/1/2024 عن محكمة العدل الدولية تحصر مفاعيله بقبول اتخاذ التدابير الإحتياطية، على ضوء البت بأربع مسائل تمهيدية رئيسية.
أولاً، تأكيد اختصاص المحكمة من حيث الظاهر دون البحث في الأساس بالإستناد على كون النزاع يتمحور حول تطبيق وتفسير إتفاقية الإبادة الجماعية.
ثانياً، تأكيد صفة جنوب أفريقيا للتقدم بالدعوى بغض النظر عن ارتباط الأحداث الجارية بها، وذلك على أساس مبدأ شمولية أحكام إتفاقية الإبادة الجماعية بحيث أن أي خرق لحقوق الجماعات المكرسة من ضمنها تعتبر أنها تمس بمفاعيلها كامل الأسرة الدولية.
ثالثاً، العلاقة بين الحقوق المطلوب حمايتها وبين الإجراءات المطلوبة، حيث رأت المحكمة أن طلب جنوب أفريقيا حماية حقوق الفلسطينيين من الأعمال التي تخرق أحكام إتفاقية الإبادة الجماعية يجد أسساً معقولة على ضوء أعداد القتلى الكبير والمهجرين والجرحى وتدمير البيوت وافتقاد مقومات الحياة الأساسية من الماء والطعام والكهرباء والوقود والأدوية والرعاية الصحية، وعلى ضوء كون الفلسطينيين سكان غزة يشكلون هوية جماعية جديرة بالحماية لكونها مكونة إما على أساس ديني أو قومي أو عرقي أو إثني، وعلى ضوء التحذيرات التي أطلقتها المنظمات الأممية ولا سيما منسق الشؤون الإنسانية والمساعدات الطارئة لدى الأمم المتحدة، وتقرير منظمة الصحة العالمية، والمفوض العام للأونروا، وتقرير مجموعة للعاملين ضمن مجلس حقوق الأنسان، وتقرير لجنة الأمم المتحدة للقضاء على التمييز العنصري، وهو ما قابله عدد من تصاريح أدلى بها مسؤولون إسرائيليون كبار تحط من الإعتبار الإنساني للفلسطينيين وتحمل نمط الإبادة ولا سيما ما أدلى به وزير الدفاع يوءاف غالانت، والرئيس اسحاق هرزوق، ووزير الطاقة ازراييل كاتز.
رابعاً، خطر الضرر غير القابل للتعويض وظرف العجلة الماسة، حيث اعتبرت المحكمة أنه بالرغم من تحرك المدعي العام لإسرئيل بغية ملاحقة قضايا الإعتداءات على المدنيين الفلسطينيين والتحريض ضدهم، وبالرغم من تصريح الحكومة الإسرائيلية أنها قد اتخذت عدة إجراءات بغية تخفيف الظروف القاسية التي يواجهها المدنيون في غرة، إلا أنها ترى أن الفلسطينيين أصبحوا يعيشون في وضع هش ومعرضين للخطر الوشيك بسبب وقائع الحرب التي حصدت ألاف الضحايا ودمرت الأماكن الأهلة والبنى التحتية وتسببت بالنزوح الجماعي وانقطاع مقومات الحياة الأساسية وتعرض 15% من النساء الحوامل للمضاعفات بحسب تقرير منظمة الصحة العالمية وتوقع ارتفاع نسبة وفيات الأطفال حديثي الولادة بسبب انقطاع الرعاية الصحية، وحيث يرتقب أن تزداد الأزمة الإنسانية وقعاً على ضوء تصريح رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو استمرار الحرب لعدة أشهر. وحيث بناء عليه رأت المحكمة قيام حالة الخطر الوشيك والحقيقي بوقوع الضرر غير القابل للتعويض مما يبرر اتخاذ التدابير الإحتياطية حماية للحقوق المحفوظة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.
وقد تمحورت هذه التدابير ضمن ست نقاط:
1. إلزام إسرائيل باتخاذ كل الإجراءات التي تقع ضمن سلطتها لمنع ارتكاب الأعمال التي تستهدف الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة، من خلال القتل، أو إلحاق الأذي الجسدي أو الروحي الخطير، أو إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية قاسية بهدف تدميرها، أو فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال.
2. إلزام إسرائيل أن تضمن وبشكل فوري عدم ارتكاب جيشها لأي من الأفعال التي تشكل جريمة الإبادة الجماعية.
3. إلزام إسرائيل إتحاذ كافة الإجراءات ضمن سلطتها لمنع التحريض على إبادة الفلسطينيين في غزة، وكما لمعاقبة أية أفعال مرتكبة في هذا المنحى.
4. إلزام إسرائيل اتخاذ الإجراءات الفورية والفعالة للسماح بتزويد الفلسطينيين في غزة بالحاجات الأساسية للحياة والمساعدات الإنسانية.
5. إلزام إسرائيل اتخاذ الإجراءات الفعالة لحفظ الأدلة ومنع تدميرها فيما يتعلق بمزاعم ارتكاب الإبادة الجماعية للجماعة الفلسطينية في غزة.
6. إلزام إسرائيل بتقديم تقرير حول التدابير التي اتخذتها بغية تنفيذ هذه الإجراءات الإحتياطية وذلك ضمن مهلة شهر.
والملفت أن المحكمة قد ردت طلب وقف الأعمال الحربية، وكما ردت طلب وقف أعمال تهجير الفلسطينيين من أراضيهم في غزة. بالرغم من أن جنوب أفريقيا قد شددت عليهما وتوسعت في شرحهما. بحيث لا ينبغي اعتبار موقف المحكمة هذا أنه ترجيح لكفة دون أخرى، بل إنها انطلقت من الإعتبار الضمني كون هذه المسائل تخرج عن اختصاصها الضيق في سياق التدابير الإحتياطية والعاجلة إذ أنه ليس كل حرب تعني بالضرورة ارتكاب أعمال الإبادة الجماعية وكذلك الأمر فيما يعني أعمال التهجير. ولعل هذا المنطق يتردد صداه، في أن المرجع الصالح لبت هذه المواضيع هو القانون الإنساني الدولي أو ما يعرف بقانون الحرب الموثق بشكل أساسي ضمن اتفاقيات جينيف الأربعة للعام 1949 والبروتوكلين الإضافيين للعام 1977، فضلاً عن نظام روما للعام 1998 التي أنشئت بموجبه المحكمة الجنائية الدولية وقد عرفت مفهوم الجرائم ضد الإنسانية في المادة 7 منها، وهي كلها أسس تختلف عن جريمة الإبادة الجماعية ذات المفهوم الخاص بحسب القانون الدولي بحيث يقوم على القصد الخاص بشن الأعمال بغية إفناء هوية جماعية محددة وليس أي اعتداء ولو مهما بلغت خطورته ضد أي جماعة أو شخص إن لم يكن مؤسساً على قصد استهداف الهوية الجماعية التي ينتمي إليها.
ومن المثير معرفة أن المحكمة قد ضمنت حيثيات قرارها تحميل منظمة حماس مسؤولية قتل أكثر من 1,200 شخص في هجوم 7 أوكتوبر 2023، وجرح الألاف، وخطف حوالي 240 رهينة ما يزال الكثير منهم في الأسر لدى حماس ومنظمات أخرى، وحيث أعربت عن قلقها الشديد حول مصيرهم ورفعت النداء لإطلاق سراحهم فوراً ودون أي شرط. إلا أنها لم تصدر أي قرار بهذا الصدد كونه يقع خارج إطار القضية المعروضة أمامها وقد ألمحت إلى وجوب إلتزام الأطراف المتقاتلة بضرورة إحترام أحكام قانون الحرب ولا سيما أن أخذ الرهائن والإعتداء على المدنيين يعتبر خرقاً سافراً لأحكامه.
ومن شديد الأهمية تبيان أبرز الأراء التي دونها قضاة المحكمة على هذه التدابير، تبريراً لموقفهم بالتأييد أو بالرفض للقرار الصادر.
القاضية الصينية زي هانكين، شددت على أهمية هذا القرار لناحية تأكيد المفعول الشمولي للأحكام المبدئية للقانون الدولي مما يمنح الصفة اللازمة للمداعاة لأية دولة حتى إن كانت غير معنية مباشرة بالوقائع الجارية بحيث أن ضمان حقوق الشعب الفلسطيني كجماعة محمية تنصب في مصلحة المجتمع الدولي بكليته، إنطلاقاً من أحكام إتفاقية الإبادة الجماعية. وقد بينت تطور موقف القضاء الدولي من هذه النقطة، بحيث كانت سمعة محكمة العدل الدولية قد تلطخت بعدما قررت في العام 1966 رد الدعوى المرفوعة من إثيوبيا وليبيريا ضد جنوب أفريقيا لعلة أن هاتين الدولتين المدعيتين لا صفة لهما بالنزاع المثار إذ أنه مؤسس على مسألة انتهاك جنوب أفريقيا لواجباتها المفروضة عليها كدولة منتدبة لجنوب غربي أفريقيا حيث كانت تطبق عليها نظام الأبارتايد أيضاً، وأصبحت تعرف بدولة ناميبيا بعد نيل الإستقلال في العام 1990. وقد أشارت إلى كون محكمة العدل الدولية قد كرست مبدأ المفعول الشمولي erga omnes للأحكام الأساسية للقانون الدولي ضمن القرار الصادر عنها في العام 1970 في قضية شركة بارشلونا تراكشن (شركة كهرباء) المرفوعة من بلجيكا ضد أسبانيا، وهي قضية مرجعية في القانون الدولي والتي إن انتهت برد الدعوى لعدم توافر صفة بلجيكا للإدعاء دفاعاً عن الشركة المسجلة في كندا، وبالرغم من كون أغلبية الشركاء يحملون الجنسية البلجيكية، إلا أنها أدت إسهاباً كبيراً في مبدأ الحصانات الديبلوماسية للشركات وتم تبيان كون نفاذه هو ذات مفعول نسبي بين الدول المعنية فيه؛ باختلاف جذري عن المبادئ الأساسية المكرسة في القانون الدولي كما هي حال الحماية من الإبادة الجماعية والحماية من العدوان والعبودية والتمييز العنصري وسائر الأحكام الضامنة للحقوق الأساسية للشخص الإنساني. وعلى الهامش لا بد من الإشارة كون قضية شركة بارشلونا تراكشن المستشهد بها شديدة الأهمية لناحية شرح مدى خطورة تدخل الحكومات في تحديد أسواق قطع العملات دون حفظ الحقوق القائمة وفرض الضمانات القانونية المناسبة مما من شأنه التسبب بإفلاس للشركات رغم ملاءتها المالية وتحويل الإقتصاد نحو المضاربات والتجميع بيد الإنتهازيين.
القاضي الهندي دلفير بانداري أدان الهجومات الواقعة على المدنيين في 7 أكتوبر 2023 حيث قتل جراءها 1,200 إسرائيلي وحوالي 5,500 جريحاً واصفاً إياها بالوحشية، إلا أنه أيد القرار باتخاذ الإجراءات الإحتياطية موضحاً أن هذه المرحلة لا تعني الإدانة ولا ثبوت الأدلة والوقائع المعروضة بل تكتفي المحكمة في هذه المرحلة بمجرد كون الطلب معقولاً من أجل اتخاذ التدابير الحمائية للجماعة الفلسطينية في غزة من الأفعال المشكلة لجريمة الإبادة الجماعية، وذلك على ضوء تحول الوضع في هذه المنطقة إلى كارثة إنسانية بفعل إتساع الأعمال الحربية التي وقع ضحيتها حتى الساعة 25,000 قتيل، وألاف المفقودين والجرحى، وحيث قد طال الخراب 26 مستشفى و200 مدرسة ونزوح حوالي 85% من شعب غزة بحسب تقارير منظمات الامم المتحدة.
القاضي الألماني جورج نولتي أنطلق من توصيف مماثل للوضع واستخدم تعابير مشابهة للقاضي الهندي دلفري، إلا أنه شدد على خلفيات النزاع التاريخية والسياسية شديدة التعقيد التي أدت إلى انقسام الناس حول العالم في نظرتهم لهذا النزاع. ومن ثم أوضح متفهماً عدم الرضى الذي قد يثار بصدد كون المحكمة مقيدة باختصاصها ومحصورة بإطار الدعوى ما يعني أنها لا يمكنها تخطي ملاحقة الجرائم خارج عن مفهوم الإبادة الجماعية ولا يمكنها بحث سوى الأعمال التي تقوم بها إسرائيل في حربها على غزة، حيث صرح بوضوح أن هذه الدعوى لا تشمل الإعتداءات المحتملة التي قام بها الأشخاص المرتبطين بحماس فيما يعني أية أعمال قاموا بها قد تندرج ضمن إطار جريمة الإبادة الجماعية أو سواها من أحكام القانون الدولي ولا سيما جريمة الحرب. وحيث تفهم موقف إسرائيل برفض اتهامها بارتكاب الإبادة إذ أنها تأسست في العام 1948 لتكون الوطن الذي يمنح الحماية للشعب اليهودي من الإبادة الجماعية ومن سواها من الأخطار، إلا أن المحكمة لا يمكنها ردّ دعوى جنوب أفريقيا بالإستناد على هذه الأرضية، كون إسرائيل بمجرد إنضمامها لاتفاقية الإبادة الجماعية تكون قد قبلت باختصاص المحكمة بالنسبة للأعمال المعددة في المادة 3 منها.
وقد أكد أن المحكمة لا يطلب منها في المرحلة الحالية تأكيد ثبوت الأدلة على مزاعم جنوب أفريقيا بحق إسرائيل، إنما فقط تسأل أن تفحص ظروف النزاع المعروضة عليها في حال كانت تبرر اتخاذ التدابير الحمائية. وحيث أن المحكمة من أجل ذلك لا تحتاج أن تبحث مفاهيم حق تقرير المصير أو الحق بالدفاع عن النفس أو حقوق الأرض وحيث أن المحكمة يجب أن تبقى متيقظة أن اتفاقية الإبادة الجماعية ليست مصممة لتنظيم النزاعات المسلحة بحدّ ذاتها وحتى لو شهدت إفراطاً باستخدام القوة ونتج عنها عدد كبير من الضحايا.
وقد أبدى تأسفه حيال تشتت النقاش وعدم تأطيره في النقاط المطروحة. بحيث سجل بحق جنوب أفريقيا أنها بالكاد لحظت إعتداء 7 أكتوبر والمجزرة التي تلته، وكما تغافلت عن جهود إسرائيل لإخلاء المدنيين من مناطق النزاع. بينما قد سجل بالمقابل، تغافل إسرائيل تقارير الأمم المتحدة حول الأزمة الإنسانية في قطاع غزة، وكما سجل تغافلها عن مقاربة التصاريح الإشكالية التي أدلى بها مسؤولوها الرفاع بمن فيهم القادة العسكريين.
وحيث أنها ليست المرة الأولى التي تتخذ فيها المحكمة إجراءات إحتياطية في نزاعات متعلقة حول إتفاقية الإبادة الجماعية، إذ كان سبق لها وأصدرت قراراً في هذا المنحى في العام 2020 ضمن قضية غامبيا ضد ميانمار (الدعوى المتمحورة حول إبادة جماعة الروهينغيا).
وتابع أن المحكمة قد وضعت شروطاً صعبة بغية وصم الأفعال المدعى بها بالإبادة فيما يعني مرحلة بحث أساس المطالب، تختلف عن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، في أنها تحتاج من أجل إثباتها إلى توثيق خطة عامة تهدف إلى القضاء على جماعة سنداً للهوية التي تحملها، وفي غياب هذا الإثبات ينبغي أن تكون القرينة الوحيدة المستخلصة من المنهج المتبع في الأحداث لا يمكن أن تدل بشكل معقول سوى على قصد الإبادة دون أي إحتمال سواه. بينما في المرحلة الحالية تكتفي المحكمة بالتحقق من كون طلب الحماية يستند على أسس معقولة، وما إذا كانت الحقوق المطلوب حمايتها واقعة تحت الخطر الفعلي والطارئ بشكل غير قابل للتعويض.
وإن نظرية المعقولية ليست مدروسة بشكل واضح في اجتهاد المحكمة، إلا أنه يمكن الإستخلاص منها وجوب إسناد المطلب باتخاذ تدابير إحتياطية على إبراز الأدلة المادية بما يشمل الأدلة على توافر النية لارتكاب الإبادة، من أجل تبرير هكذا طلب. دون أن يشترط بالضرورة إثبات جسامة الأحداث الجارية. وحيث أن الإرتكاز على التقارير الدولية يشكل دليلاً مقبولاً في هذا الصدد.
وحيث لا يكفي جنوب أفريقيا من أجل تبرير مطاليبها فيما يعني اتخاذ التدابير الإحتياطية بصدد الإبادة الجماعية، الإشارة إلى الموت والدمار الهائل الذي حدث بفعل العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة، ولا على مسألة إستمرار الأعمال الحربية. وحيث لا يكفي جنوب أفريقيا الإرتكاز فقط على الهدف المعلن للعملية بكونها منصبة للقضاء على حماس وتحرير الرهائن، بل ينبغي لها التعاطي مع النداء التي وجهته إسرائيل للمدنيين من أجل إخلاء مناطق النزاع، وينبغي لها التعاطي مع السياسة الرسمية والأوامر للجنود بعدم استهداف المدنيين، والأساليب التي تتقاتل فيها القوات المتنازعة على الأرض، وكذلك السماح بكمية محددة من المساعدات الإنسانية، كلها أدلة مضادة تنشئ إحتمالاً إضافياً للقرائن الممكن استخلاصها من منهج الأعمال الجارية، غير الإبادة الجماعية، مما يجعل كل هذه الأدلة، وإن كانت ليست بالضرورة حاسمة، تؤسس لمعقولية القول بأن العملية العسكرية الإسرائيلية ليست مشنة بنية الإبادة الجماعية.
حيث وإن كان القاضي الألماني كما صرح أنه غير مقتنع بأن العملية العسكرية على غزة قد تم شنها بنية الإبادة الجماعية، إلا انه أيد اتخاذ التدابير الإحتياطية بناء على تصريحات المسؤولين الإسرائيليين التي حملت طابع الجدية بالتحريض على الإبادة مما يجعل خطر حدوث الضرر غير القابل للتعويض مسألة معقولة، وإن كانت هذه التصاريح يمكن أن يفهم منها أنها سيقت بشكل حصري ضد حماس والمجموعات المسلحة الأخرى في غزة، إلا أن لغة التمييز والتجريد من الإنسانية المستعملة يمكن أن تمتد بمغزاها على كامل المجموعة الفلسطينية في غزة، ولا سيما أنه تردد صداها لدى قسم من الجنود الإسرائيليين. وإن ذلك يخلق خطراً جدياً باستتباعه بارتكابات أخرى من أعمال الإبادة، لا تتوقف عند حد التحريض، مما ينشئ المسؤولية على عاتق إسرائيل بمنع الإبادة الجماعية والمعاقبة علىها.
وإن الإختلاف بين تصاريح إسرائيل ومنظمات الأمم المتحدة حول المساعدات الإنسانية ومقومات الحياة الأساسية، من شأنه أن يثير التساؤل المشروع إذا ما كانت إسرائيل تقطع هذه الموارد بشكل غير مبرر عن الشعب الفلسطيني في غزة أو عن قسم منه، ما يجعل الكفة راجحة نحو إجابة طلب اتخاذ التدبير الإحتياطي بإلزام إسرائيل بالسماح بالمساعدات الإنسانية وبسائر مقومات الحياة الأساسية على ضوء شبه الإجماع المتكون في مواقف المنظمات الدولية المتعددة.
القاضية الأوغندية جوليا سيبوتيندي اتخذت موقفاً غير اعتيادي عبر رفض كل التدابير الإحتياطية بجملتها، بالرغم من إمكانية تجزئة الرفض والتأييد بالنسبة لكل تدبير على حدا. وقد مهرت موقفها عبر التعبير كون الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي ذات خلفيات تاريخية وسياسية وهو يتمحور حول حقوق الأرض ولا بل لا يجب الخجل من القول أنه ذات خلفيات إيديولوجية أيضاً، وهو يخرج بطبيعته أن يكون نزاعاً قانونياً يستدعي حلاً قضائياً، إذ أن الغرضية من القضية الراهنة وموضعتها ضمن إطار الإبادة الجماعية هي من أجل تحقيق المكاسب على مستوى هذه الخلفيات بالذات أكثر منه توخي عدالة القانون الدولي، بحيث يستوي نعتها بـ"خفي السندريلا" (بحسب تعبير القاضية). بناء عليه فإن هذا النزاع يجدر حله بالطرق الديبلوماسية وبالتفاوض من أجل الوصول إلى صيغة تأمن التعايش السلمي والدائم للشعبين الإسرائلي والفلسطيني من خلال إلتزام كل الأطراف بتطبيق القرارات الدولية بنية حسنة، وحيث أعادت استذكار لمسار النزاع الذي أعقب قرار التقسيم المتخذ من قبل الهيئة العامة للأمم المتحدة بتاريخ 1947 تحت الرقم 181 (II)، مروراً بكل النزاعات والقرارات الدولية التي صدرت في هذا السياق، والمفاوضات الجارية والحلول الجارية ولا سيما قرارات مجلس الأمن أهمها القرار رقم 242 (1967) و القرار رقم 338 (1973) و القرار رقم 1515 (2003) الذي تبنى خارطة الطريق التي وضعتها المجموعة الرباعية لحل الدولتين، و القرار رقم 1850 (2008)، والقرار رقم 2334 (2016)، وإتفاقيات أوسلو، ومرجعيات مؤتمر مدريد (1991)، بما في ذلك مبدأ الأرض مقابل السلام (1967)، ومبادرة السلام العربية (2002)، وكما استذكرت الرأي الإستشاري الصادر سنة 2004 عن محكمة العدل الدولية في قضية الإرتدادات القانونية لبناء *جدارٍ في الأرض الفلسطينية المحتلة، حيث تم التشديد على أهمية المفاوضات من أجل حلّ النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني.
*(حذفت أل التعريف قصداً، بغية الأمانة لحرفية العنوان المستخدم في الأوراق الرسمية)
وحيث بالنسبة لوقائع النزاع فقد أعادت التذكير بإعتداءات 7 أكتوبر وصرحت بأن أعضاء تابعين لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وهي منظمة سياسية وعسكرية فلسطينية إسلامية سنية تحكم قطاع غزة قد احتلت أرض دولة إسرائيل تحت غطاء ألاف الصواريخ المرمية بشكل عشوائي وارتكبت المجازر والتمثيل بالجثث والإغتصاب وخطف مئات المدنيين الإسرائيليين بما فيهم الرجال والنساء والأطفال وكبار السن والأشخاص أصحاب الإعاقة وحتى الناجين من الهولوكوست بما شمل عائلات بأكملها. وقد بلغ عدد النازحين الإسرائيلين حوالي 110,000 شخص.
وثم على الضفة الأخرى تحدثت على العملية العسكرية التي شنتها إسرائيل "دفاعاً عن نفسها" (حسب تعبير القاضية) وأوردت السردية نفسها التي أعلنتها إسرائيل إلا أنها استعرضت أرقام الحرب الصادمة في وطأتها وأكثرها لفتاً تبيانها كون عدد النازحين الفلسطينيين قد وصل إلى 1,9 مليون إنسان، وعدد الأطفال المقتولين يزيد عن 7,729 شخص، والمفقودين يزيد عن 7,780 حيث يرجح كونهم قتلوا، والجرحى ذات الأوضاع الخطرة يزيد عن 55,243 شخص، والمنازل المدمرة يزيد عن 355,000 بالإضافة إلى الخراب الواقع في سائر الأماكن الحضرية.
وبالنسبة للشق القانوني أخذت على جنوب أفريقيا الفشل في تقديم الأدلة الثابتة على تحقق نية إسرائيل بارتكاب الإبادة الجماعية من خلال عمليتها العسكرية في غزة بشكل ظاهر دون ضرورة التوسع في أساس الدعوى.
أعادت التأكيد بكون المحكمة في هذه المرحلة لا تتطرأ إلى ثبوت ارتكاب الإبادة الجماعية وترتيب المسؤوليات بحق إسرائيل بل إنها تكتفي عند حد اتخاذ التدابير الإحتياطية لحماية الحقوق المدعى بها ريثما يتم بت النزاع بشكل نهائي. وكما أعادت التأكيد أن إختصاص المحكمة يحصر بالقضية الراهنة بإطار إتفاقية الإبادة الجماعية وحيث لا يمكن أن تتخطى التدابير الإحتياطية لتطال مسائل داخلة ضمن مفهوم جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية المحتمل ارتكابها ضمن هذا النزاع.
وتوسعت هنا للقول أن المحكمة يحق لها اتخاذ التدابير الإحتياطية سنداً للمادة 41 من نظامها، إلا أنها مقيدة بثلاث شروط رئيسية: أولاً، تحديد توافر صلاحيتها لبت النزاع بالظاهر حسب ما كرسه إجتهاد المحكمة في قرار اتخاذ التدابير الإحتياطية الصادر في العام 2022 في قضية أوكرانيا ضد روسيا المتمحورة حول إتفاقية الإبادة الجماعية، وكما في قرار التدابير الإحتياطية الصادر في العام 2020 في قضية غامبيا ضد ميانمار المتمحور حول الإتفاقية ذاتها. ثانياً، معقولية الحقوق المثارة واتصالها بالتدابير المطلوبة و استشهدت هنا بقرار المحكمة اتخاذ التدابير الإحتياطية الصادر سنة 2018 بقضية الجمهورية الإسلامية في إيران ضد الولايات المتحدة، المتمحورة حول اتفاقية الصداقة والعلاقات الإقتصادية والقنصلية للعام 1955. وثالثاً، توافر الحالة طارئة والضرر غير القابل للتعويض وحيث تم الإرتكاز على إجتهاد المحكمة في القضية المذكورة سابقاً بين إيران والولايات المتحدة.
وبالنسبة للشرط الأول قد استخلصت عدم ثبوت توافر نية الإبادة الجماعية لدى إسرائيل من حيث الظاهر، ما ينفي شرط معقولية المطالب. وقد تم التوصل إلى هذا الإستنتاج من خلال كون حماس هي التي بدأت الحرب، ومن خلال كون عمليات إسرائيل موجهة حصراً بغية استهداف الأهداف العسكرية المشروعة لحماس، ومن خلال تخفيف إلحاق الأذى بالمدنيين عبر توزيع المناشير لتحذيرهم حيال حصول العمليات الوشيكة وكما عبر بث الرسائل بواسطة الراديو وأيضاً إجراء المكالمات الهاتفية التي تصب بهذا الصدد، وأخيراً من خلال تسهيل المساعدات الإنسانية. ويتعزز ذلك عبر الإطلاع على الوثائق المعتمدة من الحكومة التي تفصل سياسة الحرب وكما عبر الإطلاع على التصاريح الكاملة للمسؤولين في الحكومة، دون اجتزائها من سياقها الذي يحصر بتناول حماس ولا يستهدف المدنيين.
وقد لاحظت أن حجم المعاناة في غزة، لا يفاقمها توافر النية بارتكاب الإبادة الجماعية، إنما توافر عوامل كثيرة ولا سيما تكتيكات حماس التي تتوخى التغلغل بين المدنيين والمنشآت المدنية ما يجعلها عرضة للإعتداءات العسكرية المشروعة.
وبالنسبة للشرط الثاني، لقد استخلصت عدم تحقق أي ارتباط بين التدابير المطلوبة والحقوق المطلوب حمايتها.
بحيث أيدت هنا موقف المحكمة رد طلب وقف الأعمال العسكرية، وذلك تماشياً مع اجتهادها في قضية البوسنا ضد صربيا (قرار التدابير الإحتياطية لسنة 1993)، وكما في قضية غامبيا ضد ميانمار (قرار التدابير الإحتياطية لسنة 2020).
وكما أيدت موقف المحكمة برد طلب منع تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة واستشهدت باجتهاد المحكمة الصادر سنة 2007 في قرارها النهائي في قضية البوسنا والهرزق ضد صربيا والجبل الأسود، حيث اعتبر هذا الحكم أن تهجير الشعب أو السياسة التي تصب في خانة تحقيق التجانس الإثني لا تندرج بالضرورة تحت خانة الإبادة الجماعية (طالما لا تستتبع القضاء المادي على الجماعة). ولاحظت القاضية هنا أن هكذا أعمال يجب قياسها من منظار قانون الحرب وبالتالي تضحى خارجة عن إطار القضية الراهنة لانحصار اختصاص المحكمة فيها ضمن أحكام الإبادة الجماعية.
أما بالنسبة للتدابير الآيلة إلى إلزام إسرائيل بمنع ارتكاب الأعمال المشكلة للإبادة ومنع التحريض والمعاقبة عليه، اعتبرت أنها موجبات أصيلة في متن أحكام الإتفاقية مكرسة في القانون من توه بحيث يستوجب رد أي طلب تسأل فيه المحكمة تكرار نص القانون دون أي إلزام إضافي كنتيجة له.
فيما يعني التدبير الآيل إلى إلزام إسرائيل بالحفاظ على الأدلة حول ارتكاب الإبادة الجماعية، فإنه يجد صداه في اجتهاد سابق للمحكمة في قضية غاميا ضد ميانمار (القرار لسنة 2020)، إلا أنه لا ينهض من الملف أن إسرائيل قد قامت عمداً بتدمير أي أدلة حول ارتكاب الإبادة، مما يجعل هكذا طلب وكما قرار المحكمة الراهن بصدده غير مبني على أسس جدية. وكما توسعت القاضية عبر التأكيد أن إسرائيل غير ملزمة في هذا الصدد في الإتاحة بدخول أي طرف خارجي بغية إعداد التقارير أو تقصي الحقائق وقد استشهدت باجتهاد المحكمة في القضية المرفوعة من كندا وهولندا ضد الجمهورية العربية السورية حول اتفاقية مناهضة التعذيب (قرار التدابير الإحتياطية لسنة 2023).
وكذلك اعتبرت القاضية أن إتفاقية الإبادة الجماعية لا تلزم إسرائيل بالسماح بدخول المساعدات الإنسانية ما يجعل هذا التدبير مفتقداً للأسس القانونية، في حين أن ما ينص على هكذا ألزامات هو قانون الحرب الخارج عن اختصاص المحكمة الراهنة.
وأما التدبير السادس الذي ألزم إسرائيل بإعداد تقرير ضمن مهلة شهر لإطلاع المحكمة حول الإجراءات المتخذة منها لتنفيذ القرار الإحتياطي، اعتبرت القاضية سيبوتندي أنه يفقتد لمقومات مقبوليته بالتبعية للتدابير السابقة. وكما لاحظت أنه من غير العادل فرض إلزامات عل عاتق أحد طرفي الحرب في حين أن حركة حماس هي خارج أفرقاء المحاكمة الراهنة ولا يمكن فرض أية تدابير موازية عليها ما يعطيها أفضلية غير مبررة. وختمت في النهاية تدوينها الإشارة إلى ما رشح للعلن على أثر المحاكمة الراهنة لناحية بروز العلاقات المميزة التي تجمع بعض الأعضاء في حكومة جنوب أفريقيا مع قادة حماس، مما يملي عليها السعي لتحرير الرهائن المحتجزين لدى حماس كبادرة حسن نية وكمقدمة لحل هذا الصراع.
وفي الختام ننهي مع موقف القاضي الإسرائيلي أهارون باراك، وهو يبلغ من العمر 87 سنة. حيث قد طرز رأيه من خلال توطئة استذكر فيها سيرته الذاتية بصفته كناج من الهولوكست حيث كان يبلغ من العمر 5 سنوات حين احتلت الجيوش النازية بلده الأم ليتوانيا في العام 1941 في خضم عملية بارباروسا وقد سيق إلى مخيم الإعتقال في مدينة كوناس مع ثلاثين ألف يهودي. وفي 26 أكتوبر من ذاك العام تم أمر 9,000 من المعتقلين بالتجمع في ساحة الديمقراطية داخل الغيتو وثم أخذوا منها ليعدموا بواسطة الرشاشات الحربية. وثم في مطلع العام 1944 تم تجميع كل الأطفال تحت عمر 12 سنة من المخيم وتم تحميلهم في الشاحنات ليتم قتلهم رمياً بالرصاص، ما عرف بـ "كيندر أكسيون" (عمل الأطفال). إلا أن أهارون تمكن من النجاة عبر وضعه في كيس وتهريبه إلى مزارع خارج المخيم، ومن ثم لحقته أمه وتم تهريبه إلى مزارع آخر حيث اضطر أن يعيش هو وأمه في مساحة ضيقة بين حيطين تم بناؤهما كمخبأ لهما داخل المنزل، ليتم تحريره على يد الجيش الأحمر في الأول من آب 1944. وقد سافر فيما بعد إلى أرض فلسطين الواقعة أنذاك تحت الإنتداب البريطاني في العام 1947. ويقول أنه مؤمن بأهمية وجود دولة إسرائيل إذ أنها لو كانت موجودة في العام 1939 لكان مصير الشعب اليهودي مختلفاً، وكما هو مؤمن بالكرامة الإنسانية. ويتابع أن النازيين صحيح انهم نجحوا في قتل العديد من أبناء الشعب اليهودي إلا أنهم فشلوا في قتل الإنسانية لديه. وحيث على أثر الهولوكست قد نشأت أغلب الأدوات الدولية التي تركز على حقوق الفرد بعد العام 1945، وقد شهدت البشرية ولادة جديدة للإنسان، على أساس مركزية الإنسانية وحقوق الإنسان لكل شخص، وبالتالي إن حماية حقوق الإنسان هي مسألة متجذرة في النظام القانوني الإسرائيلي.
وهو يؤكد أن إتفاقية الإبادة الجماعية لها مكان خاص في قلب الشعب اليهودي، حيث أن التعبير تم ابتداعه من قبل المحامي اليهودي رفايل لمكين في العام 1942، وإن الزخم الدافع لإقرار هذه الإتفاقية تولد على أثر التخطيط المحكم والعمدي لقتل 6 ملايين يهودي خلال الهولوكوست. وحيث يشدد أن الإبادة الجماعية هي أكثر من مجرد كلمة بالنسبة له، فهي تمثل الدمار المحسوب والسلوك البشري في أسوأ حالاته. إنها أخطر اتهام ممكن، ولا بل إنها تجربة تتداخل في أعماق تجربته الشخصية في الحياة.
فلا بدّ هنا وقبل الغوص في في تفنيد رأيه، أن نشير أنه سبق له وتبوأ منصب المدعي العام لإسرائيل بين العامين 1975 و1978 ومن ثم عين عضواً في المحكمة العليا في السنة نفسها ليتبوأ رئاستها فيما بعد بين العامين 1995 و2006. وكان قد عبر عن انتقاده العلني لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو على أثر اندلاع أزمة الإصلاحات القضائية.
ونتابع أن القاضي باراك قد أبدى ضمن اعتراضه الجزئي المدون على قرار التدابير الإحتياطية، أن النهج الذي يحكم تصرفات إسرائيل يقوم على التوازن بين الأمن والديمقراطية وحقوق الإنسان، وقد تركز ذلك من خلال إجتهاد المحكمة العليا. حيث يستذكر أنها في إحدى العمليات العسكرية ضد غزة قد أمرت الجيش بإصلاح قسطل مياه تضرر بفعل الدبابات فوراً وحتى وسط جريان الأعمال العسكرية، وكما أمرت في الحكم ذاته بتوفير المساعدات الإنسانية للمدنيين وبفرض هدنة إنسانية بغية السماح بدفن الموتى (الحكم الصادر سنة 2004 في قضية أطباء من أجل حقوق الإنسان). وفي حكم آخر شددت المحكمة على أن إسرائيل ملتزمة أن تتصرف دائماً سنداً لاحكام القانون الإنساني الدولي بحيث عليها أن تمتنع عن استهداف الإرهابيين متى كان يتوقع حدوث ضرر مفرط للمدنيين (الحكم الصادر سنة 2005 في قضية الجمعية العامة لمناهضة التعذيب في إسرائيل). ويستذكر أنه كتب في أحد الاحكام انه على كل جندي إسرائيلي أن يحمل معه في حقيبة الظهر أحكام القانون الدولي، وكما دوّن في حكم آخر أنه حين تكون دولة ديمقراطية في حرب مع الإرهاب، تكون منخرطة في هكذا مواجهة مع يد مقيدة خلف الظهر. وحتى في خلال حربها مع منظمة لا تلتزم بالقانون الدولي مثل حماس تكون إسرائيل مقيدة بالقانون ومتمسكة بالقيم الديمقراطية. ويذكر أن المحكمة العليا قد قررت أنه لا يسمح باستخدام التعذيب عند استجواب الإرهابيين، وأن الاماكن الدينية ورجال الدين يجب أن يحترموا، وكما يجب إيلاء الضمانات الأساسية للمعتقلين. (الحكم الصادر سنة 1999 في قضية الجمعية العامة لمناهضة التعذيب في إسرائيل)، و(الحكم الصادر سنة 2002 في قضية مركز الدفاع عن الفرد المؤسس من قبل الدكتورة لوتا سالزربرغر).
وهنا يؤكد أن القانون الدولي هو جزء أساسي من القانون العسكري ونظام الآداب للجيش الإسرائيلي، وحيث ينص هذا الأخير حرفياً: "إن جندي جيش الدفاع الإسرائيلي يمارس قوته أو يستخدم سلاحه حصراً من أجل إنجاز مهمته وفقط عند الضرورة. عليه الحفاظ على إنسانيته أثناء القتال وفي الأوقات الروتينية. إن الجندي لن يستخدم سلاحه أو قوته لإيذاء المدنيين والسجناء غير المتورطين وسيبذل كل ما في وسعه لمنع الإضرار بحياتهم وأجسادهم وكرامتهم وممتلكاتهم."
ويؤكد أنه عند خرق هذه المعاير يتحرك المدعي العام لإسرائيل، ومفوض الحكومة، والنائب العام العسكري لاتخاذ التدابير الضرورية لجلب المتورطين أمام العدالة. وللمحكمة العليا دور في إعطاء التوجيهات حول هذه الآلية. فالخلاصة أن هذه النظم والمعايير ثابتة ولا يضيرها تغير الحكومات أو الأشخاص.
وأما الزاوية المختلفة عن أحداث 7 أكتوبر التي حرص على إضافتها إلى جانب تكرار ما سبق تبيانه، هو تصريحه كون الإعتداء وقع في نهار السبت وفي يوم عيد الفرح بالتوراة (سمحات توراه)، وبكون عدد مقاتلي حماس والجهاد الإسلامي بلغ 3,000 شخص، وقد بدأ الإعتداء بالهجوم على مهرجان نوفا للموسيقي قرب كيبوتس ريم، وحيث تم قتل مجموعة وهم نيام فضلاً عن مطاردة من هرب من الإحتفال، وثم تابع بسرد الأحداث المشار إليها سابقاً في كيفية تقتيل المدنيين في بيوتهم، وبالطبع أورد مسألة خطف الرهائن وبأن الصليب الأحمر الدولي لم يسمح بزيارتهم حتى الساعة كما يفرضه القانون الدولي، وذكر أن الصواريخ التي أصبحت مرمية على إسرائيل منذ ذلك الحين بلغت 12,000 صاروخ. واستعاد ما ورد على لسان غازي حمد بأن حماس عازمة على تكرار ما حدث في 7 أكتوبر مراراً وتكراراً حتى القضاء على إسرائيل. وأشار إلى أن حماس تتحصن بين المدنيين كما هي حال الأنفاق المحفورة تحت المنازل والمستشفيات لغايات عسكرية بينما لم تبن الملاجئ للمدنيين، وبأن العديد من الصواريخ التي تطلقها حماس من بين المدارس والمنشآت المدنية تسقط في غزة نفسها وتسبب القتل والدمار للفلسطينيين الأبرياء، هذا فضلاً عن استيلاء حماس على المساعدات الإنسانية وتسخيرها لأغراضها العسكرية. إلا انه عبّر عن تأثره العميق بالموت والدمار في غزة، وأضاء على خطر نقص الغذاء والماء وتفشي الأمراض. وأكد أن السكان يعيشون في ظروف محفوفة بالمخاطر، ويواجهون عواقب الحرب التي لا يمكن تصورها. حيث أبدى أسفه الصادق لخسارة الأرواح البريئة في الصراع الدائر.
وانطلق من ذلك لتحليل الإطار القانوني الذي يجب أن يحكم هذه الأحداث وهو القانون الإنساني الدولي (قانون الحرب) وليس إتفاقية الإبادة الجماعية.
إذ اعتبر أن نية الإبادة غير متوافرة. حيث استشهد هنا بالشروط الصعبة التي كرسها القضاء الدولي من أجل إعلان تحقق النية الخاصة بارتكاب الإبادة الجماعية، وقد استعاد ما ورد في الحكم الصادر سنة 1998 من قبل المحكمة الجنائية الخاصة برواندا في قضية أكاييسو حيث تم وصف النية الخاصة للإبادة بأنها "علاقة نفسية بين النتيجة المادية والحالة العقلية لمرتكب الجريمة" والتي "تتطلب أن يسعى مرتكب الجريمة بوضوح إلى إنتاج الفعل المتهم به"، وقد ذكر بالحكمين الصادرين في مرحلة الإستئناف في العامين 2007 و2013 عن المحكمة الجنائية الخاصة برواندا ICTR حيث تم تبرئة أغلب الملاحقين الذين بلغ عددم 75 شخص من تهمة الإبادة الجماعية رغم إدانة الكثير منهم بجرائم أخرى، هو ذاته ما تردد صداه في الأحكام الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا ICTY.
وحتى إن محكمة العدل الدولية نفسها قد اعتبرت في قضية البوسنا والهرزق ضد صربيا ومونتينغرو أنه باستثناء ما حدث في قرية سربرنيتشا فقط، فسائر الفظائع الخطيرة والمنتشرة المرتكبة في البوسنا والهرزق لم ترتكب بنية إبادة الجماعة البوسنية المسلمة (الحكم الصادر في العام 2007)، وحيث في العام 2015 ردّت المحكمة ذاتها دعوى كرواتيا ضد صربيا بكليتها لعدم توافر نية الإبادة.
حيث وإن كان في هذه المرحلة الأولية لا يتطلب الإثبات الذي لا يرقى إليه الشك بالنسبة لتوافر نية الإبادة، إلا أن الأدلة تبقى لازمة بحدها الأدنى من أجل إقامة البينة على كون الإدعاءات معقولة.
وحيث أنه في قضية غامبيا ضد ميانمار كرست المحكمة اتخاذ التدابير الإحتياطية بناء على توافر شرط معقولية الحقوق المطلوب حمايتها (القرار الصادر سنة 2020)، إلا أنه بمقارنة القضية الراهنة مع قضية غامبيا، يتجلى الفرق الشاسع في الأدلة المبرزة وفي نوعيتها من أجل إقامة البينة على توافر نية الإبادة. إذ أنه في قضية غامبيا قد استندت المحكمة على تقريرين صادرين في العامين 2018 و2019 عن البعثة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق IIFFM، اللذين وضعا كنتيجة لجهود حثيثة استمرت لسنتين، وتضمنت 400 مقابلة مع الضحايا والشهود، وتحليل صور الأقمار الصناعية والصور الفوتوغرافية والفيديوهات وتقاطع المعلومات مع مصادر خارجية موثوقة، واستطلاع الخبراء وتجميع البيانات الخام، وحيث تطلبت هذه الجهود السفر بين بنغلادش، وإندونيسيا، وماليزيا، وتايلاندا، وقد نظمت امانة سر البعثة ست مهمات ميدانية إضافية. وبنتيجته تم وضع خلاصة تؤكد حرفياً ارتكاب جرائم خطيرة سنداً لأحكام القانون الدولي ومن بينها جريمة الإبادة الجماعية. بينما التقارير الدولية المبرزة في القضية الراهنة لا يشير أياً منها إلى توافر نية الإبادة الجماعية. هذا فضلاً عن كونها تعتمد على الأرقام الصادرة عن وزارة الصحة في غزة المسيطر عليها من قبل حماس، مما يفقدها موثوقيتها ولا سيما أنه لم يتم التفرقة بين أعداد الضحايا من المدنيين والعسكريين ولا بين الأهداف المدنية والأهداف العسكرية.
أما بالنسبة للتصريحات المنسوبة للمسؤولين الإسرائيليين فهي مجتزئة من سياقها وتم تغافل إيراد تصاريح عديدة على لسان المسؤولين ذاتهم وسائر السلطات الإسرائيلية تشدد على وجوب حماية المدنيين وتحييدهم عن الإشتباكات. فإن إسرائيل مستمرة في ضخ مياه الشفة لقطاع غزة عبر أنبوبين من مياهها، وقد زادت في القدرة على الوصول إلى المساعدات الطبية، وسهلت تشييد المستشفيات الميدانية وقد وزعت الوقود والتجهيزات الخاصة بالشتاء. وهذا يختلف بشكل جذري عن قضية غامبيا، حيث كان لدى المحكمة أدلة دامغة على "عمليات التطهير" المرتكبة ضد الروهينجا، وقد اشتملت على العنف الجنسي، والتعذيب، والتخطيط المنهجي للقتل الجماعي، والحرمان من الكيان القانوني، والتحريض على الكراهية على أسس عرقية أو عنصرية أو دينية.
وبناء على هذه الأسباب قد أبدى موقفه بمعارضة التدابير الإحتياطية الآيلة إلى إلزام إسرائيل بمنع ارتكاب الإبادة الجماعية وبإلزام جيشها بهذا المقتضى، وبإلزامها بعدم تدمير الأدلة وبإلزامها بتنظيم تقرير ضمن مهلة شهر حول الإجراءات التي اتخذتها لتنفيذ قرار المحكمة.
إلا أنه بشكل غير متوقع، وبصرف النظر عن إعلانه لقناعته كون نية الإبادة غير متوفرة بالأساس ما يجعل أي تدبير مستوجب الرد، فقد حرص انطلاقاً من حسه الإنساني، كما صرح، ومن أمله بالمساعدة على تخفيف حدة التوتر ومجابهة الخطابات المؤذية وبلسمة مآسي الحرب على الفئات المهددة، إلى تأييد التدبير الثالث القاضي إلزام إسرائيل بمنع أعمال التحريض على ارتكاب الإبادة وبالمعاقبة عليه بالرغم ثقته بعمل المؤسسات الرسمية في إسرائيل للتصرف حيال هذا الصدد. وكما عمد إلى تأييد التدبير الرابع القاضي بإلزام إسرائيل بالسماح بالمساعدات الإنسانية ويتزويد الفلسطينيين بالحاجات الأساسية للحياة بالرغم من قناعته بكون الجيش الإسرائيلي ملتزم بأحكام القانون الدولي وخاصة فيما يعني هذا الإلتزام التابع لقانون الحرب.
ويختم رأيه معرباً عن دواعي احترامه الكبير لانضمامه إلى هذه المحكمة كقاض خاص ad hoc. موضحاً أنه ولإن كان قد تم تعيينه من قبل إسرائيل، إلا أنه ليس وكيلاً لها. فنبراسه هو البحث عن الأخلاق والحقيقة والعدالة. ويشدد كونه من أجل حماية هذه القيم بالذات، فإن بنات وأبناء إسرائيل قد دفعوا بإخلاص من حياتهم وأحلامهم، في حرب لم تخترها إسرائيل.