ثور شرودر

نظام الكفالة في لبنان... عبودية معاصرة!

10 تموز 2020

02 : 00

كيس نفايات وبعض الملابس! هذا كل ما تمكّنَت من حمله معها حين هربت! تقول فانيسا (اسم مستعار لإخفاء هويتها الحقيقية): "لم أتمكن من أخذ حقائبي واضطررتُ للتحرك بسرعة. خرجت سيدة المنزل لفترة قصيرة". تروي هذه الشابة الغانية البالغة من العمر 27 عاماً ما حصل معها في إحدى الأمسيات في أواخر العام 2019، حين قررت الهرب من معذّبيها في لبنان. كانت سيارة الأجرة التي ستهرب فيها تنتظرها في الخارج. أمضت فانيسا أربعة أشهر مع عائلة لبنانية في مدينة جبيل الساحلية. تَصِف تلك التجربة قائلة: "كنت أنام على فراش هوائي في غرفة المعيشة، ولم أكن أتلقى إلا وجبة طعام واحدة في اليوم. بعد فترة قصيرة، لم أعد أنظف المنزل فحسب، بل مكاتب الشركة أيضاً. لطالما عملتُ من الساعة السادسة صباحاً حتى العاشرة ليلاً، على مدار الأسبوع. كنتُ هزيلة وضعيفة وأشعر بألم متواصل. وبدل أن أتلقى مبلغ 300$ المتفق عليه، لم أحصل إلا على 200$ شهرياً. لكن حتى هذا المبلغ لم يدفعوه لي في النهاية".




جلست فانيسا في غرفة مظلمة داخل شقة صاخبة بمحاذاة طريق ساحلي سريع. هي تتقاسم غرفة مزدحمة مع امرأتَين أفريقيتَين أخريَين هربتا أيضاً من نظام الكفالة. قابلت صحيفة "دير شبيغل" عدداً من ضحايا هذا النظام، بما في ذلك فانيسا. تتماشى المعلومات التي قدّمتها العاملات مع استنتاجات الخبراء ومنظمات الإغاثة حول نظام الكفالة، لكن لا يمكن التأكد من تفاصيلها.

بموجب نظام الكفالة، يقع الاختيار على العمّال في بلدانهم الأم كي يعملوا لدى عائلات لبنانية، مباشرةً أو عن طريق وكالات متخصصة. تقول زينة مزهر من منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة: "هذا النظام مبهم ولا يخضع لتنظيمات محددة".

ينجم هذا الخلل عموماً عن وجود ثلاثة عقود للشخص الواحد. يكون العقد الأول بين العامل ووكالة في بلده الأم، والعقد الثاني بين رب العمل ووكالة أخرى في لبنان، والعقد الثالث بين العامل ورب العمل.

الشروط التي يتم الاتفاق عليها في بلد العامِلات قد تصبح باطلة في لبنان، بما في ذلك التفاصيل المرتبطة بالراتب ومدة العمل والدوام اليومي. في جميع الحالات، من واجب الكفيل أن يغطي تكاليف التوظيف التي تشمل في العادة تذكرة السفر، وأتعاب الوكالة، ونفقات الإقامة وإجازة العمل، وعقد العمل، والفحوصات الطبية الأولية والتأمين. كذلك، يكون الكفيل مسؤولاً عن توفير المسكن والطعام للعاملات، ويتحمل جميع الأعباء المالية ولا تؤدي الدولة أي دور في هذه الإجراءات كلها.

جميع الصلاحيات بيد الكفيل!

بموجب نظام الكفالة، يصبح العمال الأجانب تابعين للعائلات التي يعملون لديها ويستحيل رفع أي دعوى قضائية للمطالبة بالأجور غير المدفوعة. كذلك، تعجز العاملات عن تغيير أرباب العمل أو إطالة مدة إقامتهنّ من دون إذن الكفيل. في حالات كثيرة، لا يُسمح لهنّ أيضاً بمغادرة المنزل من دون طلب الإذن أولاً. تقول مزهر: "يتحكم الكفيل بحياة العامِلة الشخصية والاجتماعية، أو لا وجود لأي قواعد تمنع هذه الممارسات على الأقل".

تشير تقديرات منظمات غير حكومية، على غرار منظمة العفو الدولية، إلى خضوع أكثر من 250 ألف عامل أجنبي لنظام الكفالة في لبنان، أي حوالى 8% من اليد العاملة في البلد.

يقول ناصر ياسين، باحث في شؤون الهجرة في الجامعة الأميركية في بيروت، إن هذا النظام نشأ في الأصل في دول الخليج: "يشتق هذا المفهوم من ثقافة القبائل العربية، مع أنه اعتُمِد على نطاق واسع في الخليج ذات العدد السكاني المنخفض لأن السكان هناك يتكلون على العمالة الوافدة".

شهد لبنان فترة من الازدهار بعد الحرب الأهلية، واستطاع جزء كبير من اللبنانيين في هذه المرحلة تحمّل كلفة توظيف عاملات أجنبيات. وبفضل ثبات سعر الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، أصبح العمل في لبنان خياراً جاذباً لعدد كبير من النساء في البلدان الأفريقية أو الآسيوية الفقيرة. كنّ يستَطِعْنَ إرسال تحويلات مالية إلى بلدانهنّ شهرياً.

لكن في الأشهر الأخيرة، انهار الاقتصاد اللبناني وخسرت الليرة اللبنانية أكثر من 60% من قيمتها ولم يعد ضخ الدولارات في البلد ممكناً بعد الآن. ثم جاءت أزمة فيروس كورونا لتُسرّع الانهيار وتسلّط الضوء على مكامن الظلم في نظام الكفالة.

لجأت فانيسا بعد هربها إلى شقة فيها نساء أفريقيات أخريات في حي فقير من بيروت. كان حبيب إحداهنّ لبنانياً. تقول فانيسا: "أخبرنا ذلك الرجل بأن فرص العمل لم تعد موجودة. لا يمكن جني المال الآن إلا عبر تقديم خدمات جنسية. ثم التقط صوراً لي وقابلتُ أول زبون بعد وقت قصير".

توفي والدا فانيسا في عمر مبكر. هي تشرح ظروفها قائلة: "جئتُ إلى لبنان لجني المال وإعالة أشقائي الثلاثة الصغار. لكني لم أشأ اللجوء إلى هذه الطريقة طبعاً. قال لي الوسيط في غانا إن الأجر سيكون جيداً وسأحصل على إجازة متكررة، وأخبرني بأن الشعب اللبناني طيّب".

غادرت فانيسا الشقة في بيروت بعد فترة قصيرة وتقيم منذ بضعة أشهر مع امرأتَين أخريَين في شقة مؤلفة من غرفة واحدة بالقرب من طريق سريع. لا تعرف زميلتاها في السكن أنها لا تزال تجني المال من الدعارة: "أشعر بالخجل، لكن ما الذي أستطيع فعله؟ لا أحد يستطيع تحمّل كلفة توظيف عاملة تنظيف بعد الآن. لم يبقَ لي خيار آخر إلا الجنس. في النهاية، يجب أن أبقى على قيد الحياة".

تقول فانيسا إنها ادخرت ما يساوي حوالى 150$. ستحتاج إلى 700$ تقريباً مقابل الرسوم وتذكرة السفر لمغادرة لبنان بعد فتح المطار. هي تتوقع أن تحصل على جواز سفرها من السفارة. لا تزال أوراقها مع كفيلها في جبيل. إنه جزء آخر من قواعد نظام الكفالة.




يحاول عدد كبير من اللبنانيين التخلص من العاملات الأجنبيات. في شهر نيسان الماضي، عرض رجل العاملة النيجيرية لديه "للبيع" على إحدى صفحات فيسبوك مقابل ألف دولار، فكتب في منشوره: "عمرها 30 سنة وهي نشيطة ونظيفة جداً". لكنه اعتُقِل لاحقاً بتهمة الاتجار بالبشر.

يكتفي آخرون بإيصال العاملات إلى سفارات بلدانهنّ. حصل أسوأ مشهد أمام السفارة الإثيوبية في بيروت. امتلأت المنطقة بمئات النساء واضطر بعضهنّ للانتظار طوال أسبوع من دون طعام أو استحمام قبل إبلاغهنّ بأن الدبلوماسيين يعجزون عن مساعدتهنّ. ثم أعلنت السفارة عبر فيسبوك أنها لن تغطّي تكاليف رحلة العودة.

تقول عاملة إغاثة من منظمة This is Lebanon: "يشعر عدد كبير من أولئك النساء بصدمة قوية". تعتبر فرح سلكا من "حركة مناهضة العنصرية" نظام الكفالة شكلاً من "العبودية المعاصرة". وفق مصادر السلطات اللبنانية، تموت عاملتان أجنبيتان أسبوعياً، حتى قبل بدء تفاقم الأزمة في لبنان. ينتحر عدد كبير منهنّ أو يُقتَل أثناء محاولات الهرب ولا يُحاسَب الكفيل مطلقاً.

إلغاء نظام الكفالة هو الحل الوحيد

لا تتعرض المرأة للاستغلال فحسب، بل تتحمل الإهانة والضرب أيضاً. تعرف جيني (اسم مستعار) البالغة من العمر 21 عاماً حقيقة ما يحصل من تجربتها الشخصية. هي جاءت إلى لبنان من غانا أيضاً قبل سنة تقريباً. في العائلة الأولى، اضطرت للعمل من الساعة السابعة صباحاً حتى منتصف الليل يومياً: "بعد فترة، مرضت والدتي في بلدي وتوفيت. وحين رأتني سيدتي وأنا أبكي، طلبت مني أن أتوقف وقالت لي: "أنتِ هنا كي تعملي، لا كي تحزني"! لم أستفد من الانتقال إلى منزل آخر. أجبرتني العائلة الثانية على النوم على أرض المطبخ وكان سيد المنزل يضربني ويركلني. وراح الابن البالغ من العمر 6 سنوات يهينني أمام والدته ويسكب عليّ الماء أثناء نومي خلال الليل. لم أكن إنسانة بالنسبة لهم، بل أشبه بحيوان".

اليوم، أصبح مصير العاملات الأجنبيات اللواتي يتعرضن للاستغلال محط جدل واسع في لبنان، وقد عاد الموضوع إلى الواجهة غداة نشوء حركة "حياة السود مهمة" الدولية. تقول فرح سلكا: "إلغاء هذا النظام السيئ هو الحل الوحيد"!

تعتبر زينة مزهر من منظمة العمل الدولية الأزمة الاقتصادية فرصة للإصلاح البنيوي. قد يرتفع عدد العاملات المنزليات اللبنانيات برأيها. حتى الآن، لا وجود لأي معايير مرتبطة بالسلامة والصحة المهنية، حتى للبنانيين العاملين في المنازل أو في مجال الرعاية. لكن قد يتغير هذا الوضع.

تبقى التوقعات باختفاء نظام الكفالة بالكامل "مبسّطة جداً" برأي مزهر. سيتحمّل جزء من العائلات اللبنانية كلفة توظيف العاملات الأجنبيات رغم الظروف السائدة اليوم، لكن ستتراجع أعدادها طبعاً. وستتابع وكالات التوظيف الاستفادة من هذا النظام. تضيف مزهر: "سيتابع المهاجرون المجيء إلى لبنان أيضاً سعياً وراء تحقيق حلم معيّن، على اعتبار أنهم يستطيعون كسب المال هنا أكثر من بلدانهم".

وجدت جيني مكاناً آخر للإقامة فيه مع امرأة غانية أخرى وتريد البقاء في لبنان رغم كل ما يحصل. هي تحاول في الوقت الراهن إيجاد عمل نهاري: "لا أستطيع العودة إلى بلدي بعد. لا يمكنني أن أخبر والدي بما حصل لي هنا. كما أن العودة بلا مال ليست واردة"!


MISS 3