سعيد غريّب

غياب الحكمة في زمن الثرثرة

17 شباط 2024

02 : 00

في زمن الثرثرة، والثرثرة طريق الخراب، تغيب الحكمة عن الحالة اللبنانية، ونفتقدها منذ نصف قرن، ليحلّ محلّها كلّ أنواع الخراب، من تفكيك أوصال الدولة إلى تغيير معالم اليابسة والبحر، من الأمراض التقليديّة إلى الأمراض المستعصية، ولا سيما منها الذهنية والعصبية.

قبل نصف قرن، كانت الحياة السياسيّة في لبنان يغلب عليها طابع المنافسة الديموقراطيّة الحادّة لا الإلغائيّة القاتلة. كبرنا ونحن نلهج بأسماء كبيرة علّمتنا حبّ الوطن والتعلّق بأحرفه. وأدهشتنا تلك القدرة النادرة التي جعلت هذا الوطن الصغير بلداً مؤثراً في المحافل العربية والدولية، فبدت سياسة لبنان اللبنانية والعربية والدولية بحجم سياسة دولة كبرى. كانت لنا أسماء غالباً ما تجيب قبل أن تسأل، واذ بها تعرف السؤال مثل الجواب، وتصيب في السؤال والجواب.

اليوم، ترانا نبحث عن «فانوس سعيد عقل» الذي استعان به، ذات يوم، ليجد كبيراً. وإذا وفقنا وعثرنا عليه فلن نجد لا كبيراً ولا من يشعل النار للنور فيه. لقد انطفأ الفانوس لأنه لم يعد يرى جديراً بنقل نوره وتوزيعه على مساحة الوطن، بعدما استعرض كلّ الرؤوس، ولم يجد ما يعادل رؤوس كبار حاولوا ترجمة فكرة الوطن والدولة إلى واقع.

صحيح أنّ الزعامات التاريخية تَسِم قصص هذا الوطن، ولكنّ الصحيح أنّ الزعامات الجديدة هي قصص تحلل هذا الوطن وربما زواله عن الخريطة السياسيّة والجغرافيّة. صحيح أنّ الرجالات التاريخيين كانوا رجالات الأزمات الحكومية والأزمات السياسيّة، الّا أنّ هؤلاء لم يسمحوا يوماً لهذه الأزمات بأن تمسّ الكيان اللبناني ولا الجمهورية اللبنانية ولا السيادة اللبنانية. كان معظمهم رجال الوفاق في ذروة الخلاف، ورجال الحوار في ذروة المقاطعة، ورجال دولة في ذروة الاعتكافات والاستقالات الشفهيّة. كانوا يعرفون حدود لبنان وحدودهم، ويقفون عندها ولم يسمحوا مرّة بأن تقضي السياسة على الدولة. اولئك حافظوا على الكيان وعلى الجمهورية وعلى السيادة، وهؤلاء فرّطوا بالكيان والجمهورية والسيادة.

هؤلاء دقّوا المسمار في نعش الدولة في يوم ثقيل من شهر ايلول عام 1988. في تلك اللحظة وجدنا أنّ الكثيرين من الكبار من أهل النظام غابوا كالرئيس كميل شمعون والرئيس رشيد كرامي والزعيم كمال جنبلاط، أو أنّهم أبعدوا أو ابتعدوا كالرؤساء صائب سلام وتقي الدين الصلح وشفيق الوزان والعميد ريمون اده، أو غيّبوا كالامام موسى الصدر، أو أنهم وصلوا إلى العام 1988 وقد تراجع تأثيرهم كالرئيسين شارل حلو وسليمان فرنجية. هؤلاء لا اولئك تركوا لبنان في الفراغ الذي يحصل عادة عندما يحلّ رجل غير استثنائي في موقع رجل استثنائي. ومن يومها، كثر شركاء الدولة لكنّ الشراكة انعدمت في الوطن.

هؤلاء ملّعوا موقع الرئاسة الأولى في الجمهوريّة اللبنانيّة منذ خمسة وثلاثين عاماً. وكثُر، منذ ذلك الحين، حجم فلاسفة الجهل، وانتشر تجّار البؤس وجلّادو الأحلام والهدوء. منذ ذلك الحين، صغرت الأحلام وكبرت المكبّات، وطارت الكهرباء وغطّت في الجيوب. تفجّرت الصخور، وشارفت عملية جعل قبرص شبه جزيرة على نهايتها بفضل الردميات. اقتلعت الأشجار لاقامة سدود وهمية، غير قابلة للحياة ومميتة للحياة البيئية. منذ ذلك الحين، انتقلت عدوى السعي للفساد إلى عامّة الناس، بعدما أجبرها الكبار على بلعه. منذ ذلك الحين، والقادة الموارنة يتناطحون على الجمهوريّة الثانية، بعدما خسروا الجمهورية الأولى ويرفضون الالتقاء أو المصافحة حتى في الجنازات. وسط هذا الوجوم السائد، علينا أن نتذكّر جميعاً أنّ المستقبل أصعب بكثير من الماضي، وأنّ مسؤوليّات القيادات الحاليّة تجاه طوائفها، ومسؤوليات الطوائف تجاه لبنان، أصبحت كبيرة بحجم العصر الذي نعيش فيه، حيث ترسم حدود جديدة بالدم والنار.

MISS 3