«الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية»؛
[المزامير]
نزولاً عند إرادة «حزب الله»، وبإيحاء من إيران، عاد المسؤولون اللبنانيون الكبار هذه الأيام إلى المطالبة بتطبيق «إتفاقية الهدنة» الموقّعة بين لبنان وإسرائيل في 23 آذار 1949.
لطالما شكّلت هذه الإتفاقية التي وقّعتها الدولة اللبنانية مع الدولة العبرية الناشئة آنذاك؛ وبعدما قاتل الجيش اللبناني الصغير والمتواضع التسليح بقيادة اللواء فؤاد شهاب، الجيش الإسرائيلي، ما استطاع إلى القتال سبيلاً؛ لطالما شكّلت العار المكتمل والمذلّة الموصوفة والإنحراف الفادح عن المبادئ القوميّة القويمة، في نظر أجيال متعاقبة من الوطنيين والقوميين والعروبيين والإسلاميين من أبناء البلاد وبعض بلدان الجوار.
لم يكن يصحّ في أيّ شكل أن يحاول امرؤ الدفاع عن «إتفاقية الهدنة» بحجّة التوازن في الإجراءات العسكرية والأمنية الذي وفّرته على جانبي الحدود اللبنانية – الإسرائيلية، أو لأنّها ضمنت بقاء المنطقة الحدودية بالكامل ضمن المسؤولية القانونية والعسكرية والأمنية للجيش اللبناني، مقابل نفس الترتيب، كمّاً ونوعاً وعدداً، لجهة العسكر والسلاح على الجانب الآخر.
ولا كان مقبولاً القول إنّ «إتفاقية الهدنة» ضمنت للبنان سيادة ناجزة على كامل أرضه وحدوده، كما جرى ترسيمها بدقّة قبل قيام الجمهورية اللبنانية ودولة إسرائيل على حدّ سواء، عندما استدعت مصالح النظام الإقليمي الفرنسي – البريطاني تحديداً دقيقاً للحدود الفاصلة بين منطقتي نفوذ الدولتين العظميين بعد الحرب الكبرى في عشرينات القرن العشرين، ولا كان وارداً لدى السياسيين النافذين في البلد، تقدير أو مجرّد الإلتفات إلى واقع الإستقرار الأمني والعسكري الناتج عن قرار الهدنة وضرورة المحافظة على هذا الإستقرار كمصلحة حيوية، وهو استقرار دام نحو عشرين سنة، مكملاً ومدعوماً بقرارات أخرى مفصلية، في التوجّه الاقتصادي والتموضع السياسي، فضلاً عن التربية والتعليم والنمط الإجتماعي والحياتي.
خرج لبنان من «إتفاقية الهدنة» واقعاً إثر توقيعه على «إتفاق القاهرة» مع «منظمة التحرير الفلسطينية»، سنتين بعد هزيمة 1967 العربية ونتائجها الفادحة. ضغوط خارجية وداخلية كبيرة وغير متصبّرة، تخلّت الدولة بنتيجتها عن سيادتها الإقليمية على حدودها وبعض أراضيها. مباشرةً وتلقائيّاً بعد هذا التوقيع، تغيّر الموقف الدولي من الجمهورية اللبنانية، واختلف التعاطي مع حكومتها ومؤسستها العسكرية والأمنية وتدنّت النظرة إلى هذه المؤسّسات جميعاً، ثمّ بدأ الضمور التدريجي لقدرات هذه المؤسسات كمقدمة لانهيارها وانفجار البلاد في ربيع 1975.
الحرب الداخلية والتدخلات الخارجية لم يطل بها الأمر قبل أن تنتج نظاماً مختلفاً عن «إتفاقية الهدنة» في كلّ المجالات المشار إليها، ولكنّ التغيير الأساس حدث في اندثار صيغة الثنائية اللبنانية – الإسرائيلية، التي أُقيمت آنذاك على التّوازن القانوني والميداني الكامل بين دولتي الهدنة، في معادلة الحدود والسيطرة عليها وضبطها.
الصيغة البديلة والنقيضة المنبثقة من «إتفاق القاهرة» تميّزت، ومنذ البداية، بالتوتّر بين الطرفين الموقّعين، وبينهما وبين إسرائيل على حدّ سواء، وهو توتّر حاولت الدولة اللبنانية الحدّ منه عبر التوقيع على «إتفاقية ملكارت» نسبةً للفندق الساحلي حيث اجتمع ضباط الجيش وممثلو المنظمات الفلسطينية، فلا تراجع نتيجة هذا السعي تفلّت المنظمات في سلوكها على الأراضي اللبنانية، ولا تراجعت حدّة التوتر مع إسرائيل.
النظام الهجين الذي قام إلى جانب «إتفاقية الهدنة»، كون الدولة اللبنانية لم تغادرها رسميّاً، على عكس إسرائيل، لم يطل الأمر بهذا النظام غير المستقر، أن جاء بالجيش الإسرائيلي محتلّاً لقسم حيويّ من الأرض اللبنانية في الجنوب، ومقيماً لمنطقة أمنيّة بهدف إحداث عازل بين حدوده وبين العنف القائم ضدّه وبين أطراف المعادلة المستجدة في لبنان.
إقتضى أمر العودة بالمنطقة الحدودية إلى حدّ أدنى من الإستقرار أن ترسل الأمم المتحدة قوّة دولية، انتشرت بكامل عديدها وسلاحها حصريّاً على الجانب اللبناني من الحدود، وأقامت ترتيبات أمنيّة على الأرض التي انتشرت فيها، فيما تحرّر الجيش الإسرائيلي من الضوابط التي فرضتها عليه «إتفاقية الهدنة» عديداً وعتاداً وانتشاراً عسكريّاً.
هكذا تكرّس سقوط «إتفاقية الهدنة» على أرض الواقع باجتياح 1978 وصدور قرار مجلس الأمن 425. خرجت الحدود اللبنانية مع إسرائيل من سيادة الدولة وانتقلت إلى عهدة معادلة عسكرية وأمنية دولية أقامتها الأمم المتحدة؛ فيما احتفظت إسرائيل بسيادتها الكاملة على أرضها وحدودها، رافضة أيّ انتشار عسكري للقوّات الدولية وهو الواقع الذي لا يزال قائماً إلى اليوم.
إبحار لبنان بعيداً عن المكاسب السيادية التي استطاع تحصيلها وتثبّتها في مفاوضات 1949 في رودس، شكّل في الواقع ابتعاداً عن ركن من أركان قيام الدول، وهو سيطرة الدولة على حدودها الدولية بقواها الذاتية، حيث قام مكان الوضع السيادي، الذي استمرّ بين 1948 و1968، نظام هجين، قوامه خليط من احتلال إسرائيلي وقوات دولية وميليشيات فلسطينية وعربية ولبنانية، وبقايا الجيش اللبناني. كلّ ذلك تحت المظلّة القانونية لقرار مجلس الأمن الدولي 425، والذي شكّل ترضية لما تبقّى من هياكل الدولة اللبنانية المتداعية.
واقع دام فترة وجيزة، قبل أن تشتد كلّ تلك التناقضات إلى حدّ الإنفجار الذي أتى بالجيش الإسرائيلي مجتاحاً للمرّة الثانية في أقلّ من عشر سنوات، وهذه المرّة إلى بيروت، يحاصرها بالحديد والنار صيف 1982، في مشهد يُحاكي الهوان الذي تسام به غزّة في هذا الشتاء؛ مما لم تنجح الحرب التي باشرها «حزب الله» ابتداءً من 8 تشرين الأول، ولا مواقف وزير خارجية إيران في تخفيف وطأته الثقيلة.
سفر طويل شائك في السياسة دموي في الميدان، بين صيف 1982 وشتاء 2024 في جنوب لبنان ومحطات مفجعة في 1993، 1996 ثمّ 2006، انتهت كل واحدة منها بهدنة عسكرية وسياسية. القاسم المشترك بينها خلافاً لهدنة 1949 واتفاقيتها، استمرار فرض إسرائيل بالقوّة العسكرية الأحادية الترتيبات العسكرية غير المتوازنة على جانبي الحدود، حفظاً لأمنها وردعاً لأعدائها.
ثمّ بعد كل تلك المآسي الإنسانية، والأكلاف الباهظة في العمران والإقتصاد والإستقرار الإجتماعي والحياتي، ثمّ بعد خراب «حرب المساندة» المتعاظم والمنذر بالآتي الأعظم، يعود ما تبقى من دولة لبنان ليطرحوا على إسرائيل تطبيق «إتفاقية الهدنة». فمن أين يأتي الرئيسان، وبغياب ثالثهما؟ من أين يأتيان بأحادية سيطرة دولتهما على حدودها، أساساً للتوازي والتوازن مع إسرائيل في الإنتشار العسكري، عديداً وسلاحاً وعتاداً فيما شكّل ركن «إتفاقية الهدنة» وأساسها؟
وتأتي المطالبة الحكومية بالعودة إلى الهدنة مع إسرائيل معطوفة على ربط النزاع رسمياً في الجنوب، بذلك الجاري في غزة. ويبدو الموقف الرسمي متراقصاً بين المطالبة بإجراءات متوازنة على جانبي الحدود، مرّة عبر العودة إلى «إتفاقية الهدنة» ومرّة عبر عودة لبنان وإسرائيل إلى تطبيق إجراءات القرار الدولي 1701، وبين تبنّي موقف «حزب الله» بإقامة رابط ثابت بين لبنان وغزة، لوقف إطلاق النار والحربين!
كلّ هذا دون الغوص في مدى تأثير المراجع اللبنانية على سلوك «حزب الله»، ومواقف وزير خارجية إيران، المنطلقة من بيروت.
للحكومات اللبنانية تاريخ طويل في المطالبة بالشيء ونقيضه، على الأقل منذ إنعقاد «موتمر مدريد للسلام» في مطلع تسعينات القرن العشرين، حيث جرت العادة الحكومية ومعظم الطاقم السياسي على المطالبة بانسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية المحتلة من دون قيد أو شرط، إنفاذاً للقرار 425 حسب القراءة اللبنانية، وبين إعلان «التلازم بين مساري التفاوض السوري واللبناني» مع إسرائيل، وصولاً إلى المناداة «بوحدة المسار والمصير» بين البلدين.
هذه كلها سمات غياب السيادة الوطنية وانعدام الحيلة والتلطّي من تبعات تداعي السلطة وفقدان مرتبة الدولة.
ومنذ أن صار هذا حال البلاد، تعاطى معها العالم على هذا الأساس، وما الفرق بين قرارات مجلس الأمن وانتشار القوّات الدولية على الأراضي اللبنانية، وبين سعي إسرائيل لفرض الردع العسكري بالقوة، إلا الفرق بين قضيب الخيزران والعصا الغليظة.
ماضياً تذرّعتم «بوحدة المسار والمصير» لتفويض سوريا، واليوم تتذرعون «بوقف العدوان على غزة لتفويض إيران، تقرير مصير البلاد والعباد.
سياسة «محور الممانعة» منذ الإنسحاب الإسرائيلي في ربيع 2000، ثمّ بعد حرب 2006، هي أنّ دور الدولة يجب أن يبقى شكليّاً في معادلة الحدود وأن لا يقترب، ولو قليلاً من الصلاحيات التي تتيح لهذه الدولة الإلتزام بالمعاهدات الدولية.
ثمّ دار الزمن دورة، فثقلت وطأة وأثمان «وحدة الساحات»، وبانت استحالة أن تصل بالمنادين والعاملين بها سوى إلى ما وصلت إليه في غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن، فيما إيران مردوعة، تتفرّج على هذا الخراب العميم، فإذا بهم يدفعون ما تبقى من الدولة اللبنانية إلى المطالبة بالعودة إلى»إتفاقية الهدنة»، غير ممكنة التطبيق، إلا بامتلاك «الجمهورية اللبنانية» السلطة الكاملة والحصرية على كامل أرضها وعلى كل حدودها.
(*) سفير سابق في واشنطن