جوزيف حبيب

"الذكرى المشؤومة" وتلبية "نداء الواجب"!

23 شباط 2024

02 : 00

جنود أوكرانيون متمركزون قرب باخموت الثلثاء الفائت (أ ف ب)

تحلّ الذكرى السنوية الثانية للغزو الروسي لأوكرانيا غداً السبت مع فرض حُزم عقوبات غربية جديدة على موسكو، زاد من زخمها وفاة المُعارض الروسي «الشُجاع» أليكسي نافالني داخل مجمّع «الذئب القطبي» الموروث من «معسكرات الموت» السوفياتية. تأتي هذه «الذكرى المشؤومة» وسط أجواء ضبابية بالنسبة إلى كييف التي انتقلت من مبادرة «الهجوم المضاد» إلى وضعية «الحائط الدفاعي» الذي يصدّ موجات متتالية من الهجمات الروسية الضاغطة على الجبهات الشرقية والجنوبية.

إلتقطت روسيا «أنفاسها» وعزّزت ترسانتها بدعم من طهران وبيونغ يانغ، وبدأت تستعيد المبادرة الهجومية في الميدان، خصوصاً بعد سقوط مدينة أفدييفكا في قبضة الجيش الروسي، الأمر الذي أعطاها دفعاً لتكثيف «هجماتها الانقضاضية»، بينما يمنع الجمهوريون في الكونغرس حتّى اللحظة صرف مساعدة عسكرية إضافية حيوية لكييف بقيمة 60 مليار دولار، بضغط من ترامب.

صحيح أن دعم واشنطن العسكري لكييف يُعتبر الأكبر بأشواط مقارنة بالحلفاء الآخرين، بيد أنّ هذا «الانكفاء» الأميركي اليوم يجب أن يُشكّل حافزاً للأوروبّيين، وهم أبرز المعنيين بهذه الحرب والمتأثرين بها، لـ»اقحام» أنفسهم أكثر في دعم جارهم الأوكراني عسكريّاً، وتالياً حرمان موسكو من تحقيق أي «مكاسب استراتيجية» على الساحة الأوكرانية تفتح شهيّتها لمحاولة انتزاع مطالب أخرى في شرق أوروبا بالقوّة في ظروف دولية مؤاتية.

بصرف النظر عن مصير الدعم الأميركي لكييف واستمرار التزام واشنطن واجباتها حيال حلف «الناتو»، لا يُمكن للأوروبّيين، بعد الآن، الوقوف عند أبواب «العم سام»، «متوسّلين» إيّاه حمايةً من «موقع ضعف» في زمن التحوّلات الجيوسياسية المتسارعة حول العالم. مع قفول «حقبة السلام» في «القارة العجوز» التي سادت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، باستثناء حروب البلقان الطائفية التي، وللمفارقة، أُخمدت بـ»عضلات» أميركا وفُرِضَ «السلام الهشّ» فيها بقوّة واشنطن، صار لزاماً على الأوروبّيين تحضير «العدّة العسكرية» الضرورية لمواجهة التحدّيات الهائلة للربع الثاني من القرن الحالي.

إرتفاع احتمال تدهور البيئة الأمنية في قلب أوروبا أو على أطرافها أو حولها، يزيد المسؤولية الأوروبّية الجماعية بالتعجيل في رصّ صفوفهم ووضع استراتيجية دفاعية متكاملة وفعّالة لضمان أمنهم الجماعي مستقبلاً، ببناء «جيش مشترك» أو «تحالف جيوش» يُضرب له ألف حساب، فيغدو استعدادهم الفعلي للحرب «سياسة ردع»، قائمة بحدّ ذاتها، تُبعد «شبح العدوان»، وإن لم تكن هذه المقاربة ناجعة بما فيه الكفاية، أقلّه ستجد أوروبا نفسها في موقع دفاعي وحتّى هجومي قوي لإحباط أي تهديد والتصدّي له.

مطلوب شراكة أوروبّية استراتيجية شاملة، تتضمّن «هيكلية» عسكرية وأمنية جاهزة للحروب البرّية والبحرية والجوّية والفضائية والاستخباراتية والسيبرانية... وحتّى النووية. ويقضي تطبيق هذا المشروع الطموح: أوّلاً، تأمين حدود الاتحاد الأوروبي و»تسييجه» لضمان صدّ «موجات الهجرة» غير الشرعية المُفتعلة أحياناً من «قوى معادية»، لحسم قضية خلافية شائكة لمرّة واحدة وحفظ الأمن القومي الأوروبي. وثانياً، التخلّي النهائي عن «الأنانية الوطنية»، إن صحّ التعبير، والتغيير الجذري في «العقلية البيروقراطية» البطيئة و»النهج الكلاسيكي» الكسول في التعامل مع المخاطر القريبة والبعيدة المُحدقة بالقارة. وثالثاً، الاستثمار في «الصناعات العسكرية» الأوروبّية وتطويرها وتوسيعها والاعتماد عليها.

لكن نجاح توحيد الجهود الأوروبّية يبقى صعباً للغاية في غياب «إرادة حقيقية» لدى النُخب السياسية، فيما نشهد صعوداً لأحزاب اليمين الحازم الرافضة أصلاً الطروحات «الوحدوية». الحرب في أوكرانيا تستوجب انغماساً أوروبّياً أكثر عمقاً وحكمة في آن، إذ لا يكفي إبرام اتفاقات أمنية ثنائية مع كييف كتلك التي وقّعتها معها لندن وبرلين وباريس وكوبنهاغن، بل الذهاب في اتجاه صياغة «تحالف أوروبي» يمدّ أوكرانيا بالأسلحة والأعتدة اللازمة لتثبيت «وضعيّتها العسكرية»، وبالتالي تحسين شروطها على طاولة المفاوضات عندما تحين ساعتها.

كما يفرض مثل هذا «التحالف» وضع أوكرانيا لاحقاً تحت «مظلّة» الحماية الأوروبّية حال فشل مساعيها للإنضمام إلى «الأسرة الأطلسية»، وطمأنة كلّ الدول الأعضاء وعلى رأسها تلك المنضوية ضمن مجموعة «بوخارست 9»، بأنّ أي اعتداء على أي دولة هو اعتداء على أوروبا بأسرها ويستوجب «ردّاً جماعيّاً»، بما يُشبه تفعيل «المادة الخامسة» من ميثاق «الناتو». أوروبا بأمسّ الحاجة إلى استجماع قواها لمجابهة الأعاصير الآتية، فهل تُلبّي «نداء الواجب»؟

MISS 3