تُنذر الأزمة المتجدّدة لتعطيل الإدارات العامّة بسبب إضراب موظفي القطاع العامّ بانفجار ما في ظلّ انسداد أفق المعالجة، لا سيّما أن تصحيح سلسلة الرتب والرواتب دونه عقبات في ظلّ وضع ماليّ مُنهار وإقرار موازنة عُصِرت فيها النفقات إلى الحدّ الأقصى.
المستشار الاقتصادي لرئيس حكومة تصريف الأعمال د. سمير ضاهر يرى أن «السبب الرئيسي للأزمة الاقتصادية في لبنان كان انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار، الأمر الذي أثر على الاقتصاد ككلّ وعلى مختلف القطاعات، أما بالنسبة للمصارف فكان قسم كبير من الودائع بالدولار، فوضعتها المصارف لدى مصرف لبنان الذي استخدمها بدوره لدعم سعر الصرف وباتت موجوداته بالليرة والمطلوبات بالدولار. وكانت النتيجة الاجتماعية لفقدان الليرة قيمتها تأزّم وضع سائر الشرائح الاجتماعية التي تتلقّى دخلاً بالليرة، وهذا لسان حال موظفي القطاع العام، خصوصاً أن الاقتصاد المحلي مدولر وكلفة المعيشة عادت إلى ما كانت عليه ما قبل الأزمة. في المقابل، تم تعديل رواتب موظّفي القطاع الخاص الذين باتوا يتلقّون على الأقل قسماً منها بالدولار، إلا أنّ قيمتها انخفضت مقارنةً مع ما كانت عليه ما قبل الأزمة».
الرواتب منهارة
ويتابع ضاهر خلال حديثٍ مع صحيفة «نداء الوطن»: «قيمة رواتب القطاع العام إنهارت بشكل دراماتيكي، والتعديلات التي أقرّت على الدخل هي عبارة عن مساعدات اجتماعية وحوافز وغيرها، لم تحتسب ضمن أصل الراتب الذي بقي على ما هو عليه، كي لا تتغيّر معاشات التقاعد. بذلك، أصبح دخل موظف القطاع العام يوازي قيمة راتبه مع ضربها بسبعة أضعاف، أما الأسلاك العسكرية والمتقاعدون فتضرب قيمة رواتبهم بستة أضعاف، علماً أن العسكر يحصل على مساعدات أخرى من دول أخرى. وزيادة الدخل سبعة أضعاف تعني وكأن الراتب يعطى على سعر الصرف الـ15000 ليرة، في حين أن القيمة الحقيقية للدولار 89500 ليرة، أي الرواتب لا تزال أقل بكثير من سعر الصرف الحقيقي».
لا إمكانية لعصر النفقات
ويُشير ضاهر إلى «اعتراضات موظفي القطاع العام على هذه الزيادات، على اعتبار أنها لا تلحق بكلفة المعيشة»، معتبراً في السياق أنه «استناداً إلى الواقع المادي للدولة، يتبيّن أن الموضوع مرتبط بإمكانياتها المحدودة ولا ينبع من رغبة طمس حقوق موظفي القطاع العام».
وعمّا إذا كانت للدولة قدرة على إعطاء زيادات على الرواتب، يجيب «الإيرادات تحدّد في الموازنة. وبالعودة إلى موازنة 2024، نرى أنها تشبه «الهيكل العظمي» إذ إن النفقات فيها تمّ حصرها بالضروريات وقيمتها الإجمالية توازي 3,3 مليارات دولار. نفقات 2024 عبارة عن النفقات الجارية التي تشكّل 90% من إجمالي المصاريف، وهي الرواتب وكلفة تشغيل الدولة من محروقات وقرطاسية وكلفة نقل وتدفئة وغيرها. إضافةً إلى ذلك، تلحظ الموازنة نسبة 6% مخصّصة للنفقات الاستثمارية، وهذه الأرقام غير كافية للاستثمار وبالكاد تغطي كلفة الصيانات الطارئة. كذلك، هناك قسم من النفقات خصّص لتسديد الديون المتوجّبة على الدولة للمؤسسات الدولية لأن عدم تسديدها يوقف منحنا قروضاً جديدة».
بناءً على ما تقدّم، يتبين أن لا إمكانية لـ»عصر» النفقات أكثر من ذلك، دائماً حسب ضاهر الذي يوضح أن «في النتيجة من الصعب جداً إقرار زيادات إضافية على رواتب القطاع العام ما لم تفرض ضرائب جديدة، لأن 80% من إيرادات الدولة ضريبية وزيادة الإنفاق تعني زيادة الضرائب، في حين سمعنا الثورة العارمة والانتقادات اللاذعة التي تم توجيهها حول هذا الموضوع».
إستحالة تحمّل عجز إضافي
ويشرح أن «زيادة النفقات من دون رفع الإيرادات تعني العجز، في حين أنه لا يمكن للحكومة اللبنانية تحمّل أي عجز إضافي حتى لو كانت كلفته ألف ليرة، لأنه لا يمكن تغطية العجز من دون الاستدانة التي تكون إما داخلية عبر إصدار سندات خزينة والتي من المستبعد جدّاً أن يتم شراؤها، أو خارجية في حين لن توافق أي جهة على إقراض لبنان بسبب تخلّفه عن تسديد اليوروبوندز. بالتالي، يبقى الحلّ الوحيد طباعة مزيد من الليرة اللبنانية من قبل المركزي، وفي هذه الحالة يمكن حتماً أن نودّع عملتنا. إذاً لا خيار أمامنا يسمح بزيادة النفقات، ذلك نتيجة تفاقم العجز طيلة السنوات الماضية حتى وصل البلد إلى التخلّف عن تسديد ديونه وانهار اقتصاده».
تفنيد عدد موظفي القطاع العام
ويستند ضاهر إلى دراسة أعدّها بعنوان «إصلاح الإدارة والمؤسسات العامة، وترشيد نفقات الدولة توأمان... إنما منفصلان»، ليفنّد عدد موظفي القطاع العام، كاشفاً أن «عددهم الإجمالي يبلغ 340 ألف موظف، يتقاضون أجوراً من الخزينة العامة. 120 ألفاً منهم ينتمون إلى فئة متقاعد، 70% من هذه الفئة ضمن الأسلاك العسكرية، و16% تابعة للجسم التعليمي، أما الموظفون الآخرون من مدنيين وقضاة ونواب سابقين وغيرهم فيشكلون حوالي 12% من المتقاعدين، هؤلاء انتقلوا إلى التقاعد، بالتالي لا يمكن تخفيض عددهم، ولا علاقة لهم بإصلاح القطاع العام بل بالحماية الاجتماعية وحماية الشيخوخة. القسم الضخم الإضافي من الموظفين تابع للأسلاك غير المدنية من جيش وأمن داخلي وأمن عام، أيضاً يصل عددهم إلى حوالي الـ120 ألفاً، هؤلاء لا علاقة لهم بإصلاح الإدارة العامة والقطاع العام، يجب بحث موضوع الأسلاك العسكرية واتخاذ قرارات به ضمن الاستراتيجية الوطنية للدفاع والاستراتيجية لحفظ الأمن»، مضيفاً «يصل إجمالي عدد الموظفين في الجسم التعليمي إلى ما يزيد عن الـ50 ألفاً، وهنا يمكن الترشيد والترشيق، لأن معدل التلاميذ بالنسبة إلى المعلمين يظهر أن لكل سبعة تلاميذ أستاذاً، حتى أن بعض المدارس لا تلاميذ فيها لأنه تم إنشاؤها في إطار الإنماء المتوازن. أما المؤسسات العامة مثل كهرباء لبنان ومؤسسات مصالح المياه وكازينو لبنان وشركة الريجي، ومرفأ بيروت، والمطار، ومجلس الجنوب وغيرها فتضمّ حوالي 20 ألف موظف. في الإدارة العامة، من وزارات ومجلس الخدمة المدنية والتنظيم المدني والتفتيش المركزي وهيئة الشراء العام وغيرها تعادل المراكز الملحوظة فيها الـ28 ألفاً أما العدد المشغول فعلياً فـ8000، أي أن معدل الشغور في الإدارات العامة 20000، بالتالي لدى الدولة إمكانية الإصلاح على هذا المستوى».
النظام التقاعدي
ويتطرّق ضاهر خلال حديثه، إلى النظام التقاعدي، لافتاً إلى أن «هناك نوعين من الحماية الاجتماعية وحماية الشيخوخة. موظفو القطاع العام هم الوحيدون الذين لديهم معاش تقاعدي شهري يحتسب بنسبة 85% من قيمة آخر راتب تقاضاه الموظف، وفي الأسلاك العسكرية يحصل الموظف على تعويض نهاية خدمة يعطى من خلاله راتب ثلاثة أشهر عن كل سنة يضاف إلى المعاش الشهري. رواتب وتعويضات نهاية الخدمة في القطاع العام كانت تشكّل 40% من مجمل نفقات الرواتب ما قبل الأزمة وهذه نسبة مرتفعة. بينما في القطاع الخاص هناك ما يسمّى بتعويض نهاية الخدمة، ويعطى راتب شهر عن كل سنة عمل، وهذا يعدّ مجحفاً جدّاً، لكن الأخبار الإيجابية أن هناك اتجاهاً نيابياً لتحويل نظام نهاية الخدمة في القطاع الخاص إلى معاش تقاعدي شهري لكنه يحتاج إلى وقت لدخوله حيّز التنفيذ».
إعادة هيكلية الإدارات العامة
هذا ويشدّد ضاهر على ضرورة أن «تركز الدولة الجهد على الإدارات العامة، عبر زيادة عدد موظفيها نظراً إلى الشغور وبالتالي زيادة الإنتاجية. فزيادة النفقات لتحسين إنتاجية الموظفين في المؤسسات المدرّة للإيرادات أمر مقبول»، مذكراً أنه «في خطة الحكومة الإصلاحية تم الإتفاق مع صندوق النقد الدولي على إصلاح القطاع العام ومؤسساته العامة المدرّة للمداخيل». وأما الإدارات العامة فوفق ضاهر «فيجب إعادة النظر في هيكلية كل منها وفي المهام الجديدة المطلوبة منها، وما إذا كانت هناك حاجة لاختلاق وزارات جديدة. إعادة هيكلة كل وزارة تبدأ بالوزير نزولاً إلى أصغر موظف، ويمكن في هذه الحالة التأكد مَن من بين الموظفين يمتلك الخبرات والمؤهلات المطلوبة. وفي ظلّ انهيار سعر الصرف والرواتب الزهيدة ما من حاجة لصرف أي من الموظفين لأن كلفة راتبه ليست عالية».