مصطفى أكيول

الغرب بدأ يخسر المسلمين الليبراليين

27 شباط 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

متظاهرون مؤيدون لفلسطين أمام البيت الأبيض | 13 كانون الثاني 2023

منذ بداية الحرب الإسرائيلية الكارثية في غزة، غداة هجوم «حماس» في 7 تشرين الأول 2023، انشغل صانعو السياسة في واشنطن بمحاولة احتواء الصراع، لكن يكشف التصعيد العسكري المتواصل أنهم لم ينجحوا في تحقيق هدفهم.

اليوم، تبرز مشكلة أخرى قد لا يدركها الكثيرون: في أنحاء الشرق الأوسط والعالم الإسلامي عموماً، يسود مستوى غير مسبوق من الغضب تجاه الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وقد يترافق هذا الوضع مع تداعيات طويلة الأمد. قد تكون العواقب أسوأ بكثير من تأثير الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، لأن المجازر التي ترتكبها إسرائيل في غزة تبدو أسوأ من كل ما حصل خلال التدخلات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط.

يقول الصحافي الباكستاني عمر فاروق: «بدأت الحرب في غزة تغيّر العالم الإسلامي بطريقة سلبية. يسود غضب واسع هناك، ومن المتوقع أن تعزز هذه المشاعر الميول المتطرفة في المجتمعات المسلمة أو تنتج جماعات إرهابية جديدة».

يُعتبر هذا الغضب مبرراً، إذ يشاهد ملايين الناس لقطات مريعة من غزة يومياً على القنوات المتلفزة مباشرةً. تتعرض أحياء كاملة للقصف، وتتناثر جثث الأطفال والأولاد بين الأنقاض في كل مكان. كذلك، يتعرض المدنيون الأبرياء لإطلاق النار، وتتكرر هذه المشاهد أيضاً في الضفة الغربية التي تُعتبر أكثر هدوءاً نسبياً. ذكرت الهيئات الصحية المحلية أن أكثر من 29 ألف فلسطيني قُتِلوا حتى الآن، معظمهم من النساء والأولاد. في الوقت نفسه، تَهجّر 90 في المئة من سكان غزة من منازلهم وأصبحوا مُهددين بالمجاعة والأمراض.

مع تلاحق هذه المشاهد، ينظر عدد كبير من المسلمين إلى مواقف القادة الغربيين، من أمثال الرئيس الأميركي جو بايدن، فلا يسمعون إلا كلاماً عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ويلاحظون استمرار تدفق الأموال والأسلحة التي تضمن استمرار الحملة الإسرائيلية بقيادة الحكومة اليمينية المتطرفة التي يرأسها بنيامين نتنياهو.

برأي الكثيرين، لا سيما في العالم الإسلامي، من الواضح أن حياة الإسرائيليين تهمّ الغرب أكثر من حياة الفلسطينيين بكثير.

هذا الوضع يتعارض بشدة مع القيم الليبرالية التي تجاهر بها الحكومات الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أي حقوق الإنسان العالمية والكرامة لجميع البشر. قد يظن البعض أن هذه المُثل العليا لم تُطبَّق بالكامل يوماً لأن المصالح الوطنية والتحالفات والمواقف المنافقة تنتج معايير مزدوجة في معظم الحالات.

لكن لم تكن التجارب السابقة فاضحة أو مباشرة لهذه الدرجة يوماً، بما في ذلك الدعم الأميركي لحكام ديكتاتوريين عرب أو تنفيذ انقلابات مدعومة من وكالة الاستخبارات المركزية في إيران أو أماكن أخرى.

لا يؤثر فقدان الثقة بالمعايير الغربية على الفريق الذي يميل أصلاً إلى معاداة الولايات المتحدة أو ينتقد النظام الذي يقوده الغرب فحسب، بل يمتد هذا الأثر أيضاً إلى مسلمين يحملون ميولاً ليبرالية ولطالما عبّروا عن إعجابهم بالقيم السياسية الغربية، لكنهم يشعرون الآن بأن حاملي لواء تلك القيم خانوا مبادئهم. كانت الصحافية التركية نيهال بينجيسو كاراجا واحدة منهم، وقد كتبت مقالة مؤسفة عن «انتحار الغرب»، فتساءلت: «من الآن فصاعداً، من يستطيع التكلم عن «القيم العالمية» أو «الديموقراطيات الليبرالية الغربية» في هذا الجانب من العالم... من سيصغي إلى هذا الكلام»؟

كذلك، تتكلم الديبلوماسية الباكستانية المسلمة الليبرالية هينا رباني خار، عن وجود «أزمة على مستوى الصدقية الغربية»، علماً أنها حصدت إشادة عالمية في العام 2011 كونها أول وزيرة خارجية تمثّل بلدها. كتبت خار لصالح قناة «الجزيرة» في شهر كانون الثاني: «أظن أن الغرب يستطيع أن يحتفل بسجله في مجال حقوق الإنسان والتطور. لكني أعرف أيضاً أن الغرب أثبت تجاهله التام لهذه المبادئ خارج نطاقه الجغرافي». ثم أضافت محذرة: «موقف واشنطن اليوم لن يُضعِف الجهود الرامية إلى جعل الولايات المتحدة القوة العالمية الوحيدة التي يمكن الوثوق بها فحسب، بل إنه سيعيق قدرتها على بناء السلام مستقبلاً».

بدأ آخرون ينفرون من الغرب بكل وضوح، فيرفضون كل ما يمثّله بشكلٍ قاطع. نشر أستاذ الفلسفة الموريتاني المصطفى ولد كليب، رسالة تم تداولها على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي العربية، فكتب فيها: «بدأتُ أشعر بالعار أمام الطلاب لأني أعلّمهم عن عصر التنوير والفلسفات الغربية الحديثة منذ عقود». ثم اعتذر على «تمجيد» مفاهيم غربية مثل «الإنسانية» و»التقدّم» و»الحرية»، وأضاف قائلاً: «الغرب أكبر كذبة في التاريخ».

في أوساط المسلمين الأميركيين أيضاً، حيث يقدّر معظم الناس الحريات والفرص التي حصلوا عليها في الولايات المتحدة، أنتجت أحداث غزة المدعومة من واشنطن خيبة أمل غير مسبوقة. عبّر الإمام عمر سليمان عن هذه المشاعر الشعبية بعدما ثارت حفيظته لدى رؤية صور الأطفال المقتولين في غزة، فأعلن أن «كلّ أشكال القوانين الدولية أو المعايير الإنسانية ماتت». ثم توجّه إلى كل من يجاهر بتلك القيم قائلاً: «إياكم أن تحاضرونا عن الأخلاق مجدّداً. قلوبكم ميتة».

لكن يجب أن يتذكر الجميع أن «الشرق» هو الذي يُهدد جزءاً كبيراً من المتدينين في العالم، بمن فيهم مسلمو أوكرانيا والبلقان المُهدّدون من روسيا وحلفائها، ومسلمو الإيغور الذين يتعرضون لاضطهاد وحشي في الصين. في الغرب على الأقل، تتعرض الحكومات للانتقاد، وترفع جماعات حقوق الإنسان صوتها، وتُسمَع مطالب الناشطين الداعمين للسلام، وقد تنتهي الحروب اللامتناهية بفضل الضغوط الشعبية بناءً على مبدأ احترام حرية التعبير.

لكن بدأت تداعيات أحداث غزة تُهدد تلك القيمة الليبرالية الأساسية أيضاً. في أوروبا، لا سيما ألمانيا، انطلقت حملة غير مسبوقة من الرقابة والقمع ضد أي انتقادات لإسرائيل وأي دعم للفلسطينيين، حتى أن البعض قد يصل إلى حد منع الأعلام والكوفية الفلسطينية. وفي الولايات المتحدة، قد تربط سياسية بارزة مثل نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأميركي السابقة، بين التظاهرات التي تدعو إلى وقف إطلاق النار فوراً ومؤامرة روسية خارجية: إنه الادعاء الذي تستعمله روسيا أو إيران لشيطنة التظاهرات المعادية للنظام.

هذه التطورات كلها بدأت تُضعِف صدقية الغرب وخطاباته الليبرالية بنظر بقية دول العالم. إذا لم تكن الحقوق التي يجاهر بها الغرب تنطبق على جميع البشر وإذا لم تستفد جميع الأطراف من حرية التعبير، لن تحمل تلك المبادئ أي معنى.

سيكون العالم الذي ينشأ بعد الحقبة الليبرالية مكاناً مخيفاً لجميع الناس. فيما تتخلى الديموقراطيات الغربية عن مبادئها، قد تكسب القوى غير الليبرالية، مثل روسيا والصين وإيران، المزيد من النفوذ والامتيازات. كذلك، قد تظهر جماعات مسلحة جديدة في العالم الإسلامي وتكون أكثر وحشية من سابقاتها، فتطلق صراعات مريعة أو حتى صدامات بين الحضارات.

على صعيد آخر، قد يُضعِف هذا الوضع الجهود الأميركية والأوروبية لإقامة تحالفات مستقبلية في زمن الحرب أو حشد الدعم لفرض العقوبات على خصومهما. في هذا السياق، حذر نائب رئيس تحرير صحيفة «فورين بوليسي» ساشا بولاكو سورانسكي، من حصول تحوّل جيوستراتيجي بارز، فكتب: «اليوم، لا يصدّق معظم القادة والشعوب خارج أوروبا وأميركا الشمالية المطالبات الأميركية أو الأوروبية بدعم أوكرانيا لغايات إنسانية، ومن المتوقع ألا تلقى المطالبات الأخلاقية المستقبلية أي آذان صاغية، مهما كانت القضية عادلة».

أكثر ما يثير الاستياء هو أن إسرائيل لا تستفيد أصلاً من السياسة الغربية التي أوصلت العالم إلى هذا الوضع الخطر وبررت دعم حرب كارثية بقيادة حكومة يمينية هي الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل. أثبتت أحداث الأشهر الأربعة الأخيرة أن إنقاذ عدد كبير من الرهائن ممكن عبر المفاوضات الديبلوماسية بدل الاعتداءات المستمرة. كذلك، لا يُعتبر الهدف المرتبط بتدمير حركة «حماس» بالكامل واقعياً، ويؤكد الخبراء على هذه الحقيقة منذ البداية. في هذا السياق، يحذر الصحافي المخضرم في صحيفة «هآرتس» جدعون ليفي، من «تضرر كرامة إسرائيل» و»انتصار حماس» في نهاية المطاف.

قد لا يسمع الكثيرون هذا النوع من المواقف الإسرائيلية المعتدلة لأن البلد يعيش مرحلة من الصدمة والانتقام بعد أحداث 7 تشرين الأول، بما يشبه ما أصاب الولايات المتحدة بعد هجوم 11 أيلول. لكن يُفترض ألا يحصل أسوأ الأطراف في إسرائيل على الضوء الأخضر من أصدقاء البلد، بمن فيهم المسؤولون الحكوميون الذين يدعون صراحةً إلى إطلاق حملة تطهير عرقي.

تتوقع الشخصيات الإسرائيلية العقلانية والمطّلعة على التحديات الأمنية المحلية أن يصل الوضع الراهن إلى طريق مسدود على المدى الطويل، منهم عامي أيالون، الرئيس السابق لـ»الشاباك» (وكالة الأمن الداخلي الإسرائيلية). حذّر هذا الأخير من الوضع القائم قائلاً: «لن نحصل، نحن الإسرائيليين، على بلد آمن إلا إذا حصل الفلسطينيون على الأمل». كذلك، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك: «لحماية أمننا ومستقبلنا، يجب أن يرتكز الحل الإسرائيلي النهائي على قيام دولة فلسطينية».

باختصار، لا يكتفي كل من يدمّر آمال الفلسطينيين بإفساد الحاضر في غزة، بل إنهم يجازفون أيضاً بمستقبل إسرائيل. حتى أنهم يُهددون مستقبل الحرية والسلام في هذا العالم المضطرب أصلاً. يجب أن تغيّر إدارة بايدن مسارها قبل فوات الأوان عبر دعم وقف إطلاق النار فوراً وتقديم مساعدات عاجلة وإطلاق مسار واضح للسلام، وإلا قد تتلاشى بقايا الأفكار السياسية أو المبادئ الأخلاقية التي كانت تُميّز الغرب سابقاً بنظر بقية دول العالم. قد تكسب الصين، وروسيا، وإيران، وأنظمة استبدادية أخرى، امتيازات وأوراق ضغط لا تستحقها، وقد يصبح العالم الإسلامي أكثر انفتاحاً على القوى الأصولية والمتشددة وغير الليبرالية. نتيجةً لذلك، قد يُستبدَل «النظام العالمي الليبرالي» بفوضى سلبية وعنيفة وقمعية.

MISS 3