«ويل لقائد أعمى... ويل لتابع أعمى!»
(القديس أغسطينس)
رائعة هي السيدة أم كلثوم في تحكمها بمشاعر السامعين المأخوذين بحال الطرب وهي تردد «بقا يقول لي وأنا أقول له وخلصنا الكلام كله... قريب وبعيد وبقينا نقول ونعيد بعنينا»... فتعلو الآهات وتتأجج المشاعر، ويجن جنون الجمهور، فتتفاعل السيدة وتُطرَب هي لطرب السامعين، فتعيد وتزيد... ورغم أنّ معظم السامعين قد لا يملكون ثمن طعام الفطور حتى وإن كان «طعمية ناشفة»، لكن الإحساس الغامر والنشوة العارمة ينسيانهم الجوع والتعب وخيبات الأمل في مستقبل فيه بعض اللحم المشوي، وأبناء يذهبون إلى المدرسة بثياب نظيفة، بدل حفر الترع وسط البلهارسيا التي فتكت بعبد الحليم حافظ...
هكذا أشبّه علاقة الجماهير مع القائد «المنتظر»، متى غاب، والملهم، متى حضر، والمعذور، متى أخطأ، حتى وإن كرر الهفوات ذاتها عدة مرات، فكما قال فيلمون وهبة «هيدا من بيت الفرفور، يا عالم ذنبو مغفور، ولو شاف النحلة دبور، ما تقول له إلا تري بيان... وسنفرلو عالسنفريان». لكن ما يدهشني دائماً هو تضحية الناس بأنفسهم وبفلذات أكبادهم فداء لحذاء ذاك الأمير، البيك، القائد، السيد، الأستاذ، الآتي من عالم الماورائيات والحامل سر سحره في حرز لفّقه له حكيم مغربي، والمحصن برعاية قوى لا دخل للبشر فيها ولا حق للمشككين بأحقيتها، حتى بأن يطرحوا السؤال المنطقي عن سر هيام الناس بالأمير، رغم زلاته وهزائمه والخسائر التي تسبب بها للجماهير «الغفورة»، كما قال أيضاً فيلمون وهبه، لأن تلك الجماهير الغفيرة تغفر دائماً لقاتلها على أساس أنه راعيها، يحق له ذبح بعضها عند الحاجة.
لكن الغريب هو أنّ من يدفع الثمن دائماً بالتخوين والاتهام بقلة الوفاء أو بجريمة ضرب إجماع الأمة والتشكيك بإلهام وحسن دراية قائدها هو ذاك الذي سأل السؤال المنطقي في عقله ومن ثم طرحه للعلن، فيصير كالوسواس الخنّاس الذي يدفع الناس للخروج من حال الخدر والطرب إلى محاسبة القائد وتغييره وحتى التشهير به، ومن ثم الاقتناع بأن الديمومة يجب أن تكون للمؤسسات لا للأمراء وأولياء الأمور. فكلما تطور المجتمع تصبح القيادة فيه للمؤسسات لا للأفراد، وتزول الحاجة لقائد ملهم، كلما زاد وعي الشعوب وقل الجهل كان الأفراد أكثر قدرة على تحمل مسؤولياتهم ويصبحون أكثر فهماً لدور المسؤول الذي لا يتعدى كونه ينفذ الميثاق الذي يحدد نوع العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بتحديد واجبات وحقوق كل طرف في الدستور والقوانين.
لكن المجتمعات المتخلفة لا تزال تتبع حال القائد لعدم قدرة أفرادها على فهم منطق المؤسسات، فيعولون على شخصية أسطورية مطلقة الصلاحية أشبه بأمير يستنبط سلطته من عالم الغيب، ليصبح «كامل الشرائط» لسياسة القطعان إلى الحظائر، حتى وإن أكلت الذئاب بعضاً من الحملان على الطريق.
عدم فهم منطق المؤسسات الناظمة يدفع الجموع إلى الانقياد إلى قائد حاضر أو منتظر، وعدم حضوره يعني زمن الغيبة، أي تعطيل كل شيء إلى حين ظهوره من غيبته القسرية. هذا ما دفع الجمهور إلى الكسل والتهرب من المسؤولية إلى درجة الاستسلام بغياب القائد.
ما يصح في العصر الحديث هو أن العلاقة بين القائد والمحكوم هي علاقة رضائية غير مطلقة، يمكن الفكاك منها بمجرد أن يرفض أحد الأطراف الاستمرار بها، سواء لأسباب خاصة أو لأخطاء ارتكبها الطرف الموجود في موقع المسؤولية. كما أنّ الانتخابات الدورية هي وسيلة تقييم هذه العلاقة، يرصد فيها القائد مدى تقبل الناس لما قام به، ولا يمكنه، لا الحرد ولا الهروب منها بالاعتكاف. كما أنّ كل ما يقدمه الحاكم من كرم أو عطاءات لا تجعله فوق الحساب أو المساءلة لمجرد أنه «طيب القلب» و»محسن كريم» و»من عائلة ما»... هنا تقع مسؤولية شطط القائد ودلعه على ذمة الناس الذين ينتظرونه إن غاب، ويغفرون له إن أخفق، لا بل يخلقون أعذاراً له، رغم أنها لم تخطر أصلاً على باله. وحتى لو شعر هو بذنب اقترفه أو أساء في إدارة مسؤوليته، ستجبره الحشود على مسامحة نفسه، ومن ثم يعتقد أنه لم يخطئ أصلاً، ويذهب إلى اتهام من نصحه بتلافي الخطأ بأنه جاسوس لدى الأعداء أو قليل الوفاء أو جاحد بنعمة القرب من القائد الملهم.
هكذا كانت السيدة أم كلثوم عندما تشذّ أحياناً عن النغم، أو تنسى بعض الكلمات. لكن الجمهور كان يصفق لها معتبراً أنّ زلاتها لا تخفف من تألقها. لا بأس بذلك، ففي الفن والطرب لا حاجة لكثرة الغلبة، إن كان الأمر محصوراً بتفريغ المشاعر الجياشة، ويمكن للست المبدعة أن تتفاعل مع جمهورها العظيم بمزيد من الآهات والعُرب والسلطنة. أما في قيادة الناس، فلا حاجة لمطربين يُطربون ويَطربون، ولا لطبول تهمدر في الحفلات ولا لهتافات بحياة القائد وصحبه وآله ومرافقيه. في السياسة، وخاصة في حال الأزمات الشديدة، يحتاج الناس إلى مهندس بارع أو جراح ماهر، لا حاجة عنده لمحبة جمهوره، لكنه مهني ومحب للناس، ومستعد للقيام بما يمليه عليه ضميره ومعرفته للقيام بهندسة السياسات، وأحياناً القيام بعمليات جراحية استئصالية، قد تؤلم المريض، وتترك آثار الجروح والندوب عليه، في سبيل إنقاذ حياته وتحسين تأقلمه مع وجوده. هذا، مع العلم أنّ هذا النوع من القادة لن تغريه هتافات الناس بحياته حتى لا تأخذه العزة بالإثم.
في لبنان مطربون، أخذوا البلاد والعباد إلى الموت والدمار، يلقون اللوم على الهواتف الذكية، وآخرون، يطلون بين الفينة والأخرى، ليعيدوا وصلات الطرب الناجحة، ليتأكدوا أنّ الأغنية ذاتها ما زالت تطرب الجمهور.
كفانا مطربين في السياسة وكفانا أنبياء كاذبين!