سفيتلانا شمبور

شبح "الهولودومور" يشدّ عزيمة الأوكران

28 شباط 2024

02 : 00

دخل الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط عامه الثالث مسجّلاً حلقة جديدة من حلقات مآسي الأوكرانيين الذين شاءت أقدار الجغرافيا أن تتواجد على حدود بلادهم دولة ماردة عملاقة لم تنفك من تاريخ تأسيسها من إلحاق أعتى الكوارث بهم، في مقدّمها التسبّب بمجاعات متعمّدة لهم بداية العشرينات ثمّ الثلاثينات ثمّ بداية منتصف الأربعينات من القرن الماضي.



أقسى هذه المجاعات كانت تلك التي حصلت عامي 1932 و1933 ويطلق عليها الأوكران تسمية «هولودومور» Holodomor ومعناها الإبادة بالتجويع (بضمّ كلمة holod الجوع إلى كلمة moryty قتل). وقد تسبّبت هذه المأساة بإزهاق أرواح ما بين 7 و10 ملايين أوكراني من أصل 31 مليون نسمة، أي حوالى ضعف ضحايا «الهولوكوست» من اليهود.

أوكرانيا التي أصبحت في عام 1922 واحدة من الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، كانت الأكثر خصوبة زراعيّاً، وقد اعتبرت سلّة غذاء أوروبا، وكان سكانها يتكوّنون من مزارعين صغار على العموم، يملكون أراضيهم، لكن ستالين قرّر القضاء على هذا العالم الريفي الموروث من الأجداد ومصادرة الملكيات الخاصة وأراضي الفلّاحين وضمّها إلى الكولخوزات، وهي مزارع جماعية أُنشئت لتكون ملك الدولة، حيث يتعيّن على المزارعين الذهاب للعمل فيها لصالح الأخيرة.

وكان قراره من ضمن سياسة اعتمدها تهدف إلى تحويل البلاد نحو الصناعة. ولتمويل شراء الآلات من الخارج، كان مضطرّاً لتأمين كميات كبرى من الحبوب المخصّصة للتصدير. وهذا الأمر توفره بنظره المزارع الحكومية، على الأخصّ الأوكرانية. وكان هناك خشية أيضاً من يقظة للقومية الأوكرانية، فكان القرار بتفكيك مجتمع المزارعين الذي يعتبر مصدر تهديد خطر للتطور نحو المجتمع الشيوعي ووحدة الاتحاد السوفياتي، كمقدمة لإطلاق حملة «ترويس» للمجتمع الأوكراني وتدمير مشاعره القومية في ساحة معركة اللغة.

خطط ستالين القسرية قوبلت من قبل المزارعين، على الأخص الكبار منهم الملقبين بـ»الكولاك» Koulaks، بتقليص الانتاج والتهرّب من تسليمه إلى الدولة. فقرّر القضاء على هؤلاء ودمج جميع الفلّاحين في مزارع الدولة الكبيرة (الكولخوزات والسوفخوزات) على نحو يرسّخ السيطرة السياسية على الريف.

وحصل ما هو متوقع، إذ أظهر المجتمع الزراعي الأوكراني مقاومة قوية للعمل الجماعي الذي فرض عليهم والذي فك ارتباطهم الطويل عبر قرون بالأرض التي كانت مصدر الفخر والمعرفة ووسيلة العيش، وأيضاً بكنيستهم الأرثوذكسية وكاهنها.

وكانت ردّة الفعل الأولية للنظام إطلاق حملة مصادرة للمحاصيل ومخازن الحبوب وتشديد الضغوط على الفلاحين الذين اتهموا بالاشتباه بولائهم. وبدأت شرطة النظام ابتداء من العام 1931 بعمليات رصد الوصول إلى الحقول وتفتيش المنازل وتمّ استصدار قانون عرف بـ»قانون الأذنين» يُعاقب بالترحيل وحتّى بالإعدام «أي سرقة أو تبديد للملكية الاشتراكية»، بما فيها سرقة سنابل القمح أو البطاطا من الحقول في الليل، في وقت بدأت فيه المجاعة بالتفشي بسبب عمليات الاستيلاء القسرية للنظام على كافة المحاصيل وحظر تجارة واستيراد السلع في المزرعة أو القرية.

وسجّل وفاة أعداد متزايدة من الفلاحين وأفراد عائلاتهم بينما كانت مخازن النظام بقربهم مليئة بالحبوب تحت حراسة عسكرية مشدّدة. وباتت تشاهد طوابير طويلة من البائسين على طول الطرق بحثاً عن لقمة العيش وأعداد كبيرة منهم تسقط كالذباب من الوهن والجوع في ظلّ حظر شديد بالتوغّل في الحقول بين المزروعات.

أمّا المزارعون الضعفاء الذين لم يقووا على مغادرة أكواخهم ومنازلهم، فقضوا فيها من شدّة البرد والجوع أو على أرصفة المدن القريبة التي افترشوها للاستجداء. وارتفعت حالات الانتحار وبدأت الناس تعتاد على أكل القطط والغربان والقنافذ والقوارض والثعابين وقش الأسطح، وسجلت عمليات أكل للحوم البشر وأيضاً للجثث المتروكة، وحصلت عمليات اختطاف للأطفال للتغذي من لحومهم الطرية.

وكانت الشرطة تدهم منازل القرويين لمصادرة أي مسروقات من محاصيل الحقول وأيضاً النقود المخبأة للحؤول دون تمكّنهم من دفع تكاليف الهرب والانتقال إلى خارج قراهم. فكان الإطباق القاتل والمُحكم على القرويين في قراهم وهلكت قرى بكاملها من جرّاء ذلك خلال شتاء عام 1932 المتجمّد.

وقد تمّ تجاهل هذه الجريمة الجماعية التي ارتكبها النظام الستاليني في حينه، لانشغال أوروبا بصعود النازية وبتصدّيها للكساد الأعظم الذي أطبق عليها، ثمّ بالحرب العالمية الثانية. وكان هناك تستّر عليها من قبل نظام ستالين من خلال مراقبة الرسائل البريدية وتضييق سُبل الإنتقال من أوكرانيا وإليها، خصوصاً على الصحافيين وبالتحديد الأجانب.

وأوّل من خرق جدار التعتيم وقدّم سرداً لأحداث المجاعة من مناطقها، هو الصحافي الإنكليزي غاريث جونز الذي اغتيل بعد ذلك بعدّة أشهر في آب 1935 بظروف غامضة. لكن اسمه أصبح مشهوراً بعد أن جسّدت أغنيشكا هولاند سرديّاته في فيلم وثائقي ظهر عام 2019 بعنوان «ظلّ ستالين». وأوّل كتاب عن هذه المجاعة، كان للمؤرّخ روبرت كونكست، ومصادره المهاجرين الأوكران بشكل أساسي، وحمل العنوان التالي: «حصاد الحزن: الجماعية السوفياتية والمجاعة الإرهابية».

من الجانب السوفياتي، استمرّ تجاهل المجاعة حتّى في حقبة «ذوبان الجليد» وإدانة جرائم ستالين فيها، إذ لم ترد في «الخطاب السرّي» الشهير الذي ألقاه خروتشيف عن هذه الجرائم خلف أبواب مُغلقة في 24 شباط 1956 خلال اختتام أعمال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي.

ومع زوال الاتحاد السوفياتي وفتح سجلاته السرّية، بات بالإمكان الوصول إلى العديد من قرارات المكتب السياسي واللجنة المركزية في روسيا وأوكرانيا، والمراسلات بين ستالين ومعاونيه وتقارير الشرطة السياسية عن الوضع في الريف، أو حتّى رسائل الفلاحين الجائعين لذويهم التي اعترضتها الرقابة البريدية لمنع انتشار أخبار المجاعة، ما سمح للمؤرّخين بفهم أفضل لأسباب المجاعة المتعمّدة وأحداثها والمسؤولين عنها على مختلف المستويات وتوصيفها القانوني الصحيح: هل هي إبادة جماعية أم جريمة ضدّ الإنسانية؟

تُحدّد المادة السادسة من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الإبادة الجماعية، بأنّها «أي فعل يرتكب بقصد إهلاك مجموعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه، إهلاكاً كلّياً أو جزئيّاً».

ويورد المؤرّخون الأوكران، من جهتهم، العديد من الوقائع والأدلّة الخطية لوجود نية ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق أسلافهم، من أهمّها:

- محضر جلسة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في 27 تشرين الثاني 1932 المتضمّن اتخاذ قرار بتوجيه ضربة ساحقة للمزارعين الأوكران، المعترضين على مصادرة محاصليهم الزراعية واحتياطاتهم الغذائية ودمجهم في مزارع الكولخوزات التابعة للنظام.

- برقية ستالين في الأوّل من كانون الثاني 1933 إلى قيادة الحزب الشيوعي الأوكراني، يطلب فيها تسريع وتيرة عمليات البحث عن المحاصيل الزراعية ومصادرتها. تبعها استصدار قانون يعتبر أي فلاح يتمّ العثور على منتجات زراعية مخبأة لديه، سارقاً للاشتراكية، على أن تكون عقوبته الحبس لسنوات في معسكرات الاعتقال أو الإعدام في بعض الظروف. وتمّ في هذه الحملات وتحت ذريعة «الغرامات» الوهمية، مصادرة حيوانات المزارعين، لا سيّما أبقارهم، الضامن الأخير للبقاء على قيد الحياة. الأمر الذي اعتبره المؤرّخ ستانيسلاس كولتشيتسكي، انتقالاً من مرحلة «الموت جوعاً» إلى مرحلة «القتل جوعاً».

- تعليمات ستالين في 22 كانون الثاني 1933 بفرض حصار على القرى ومنع أهلها من مغادرتها وإعادة الذين يتمّ ضبطهم مخالفين لهذه التعليمات إلى قراهم أو نفيهم إلى مناطق معزولة في سيبيريا، وورد في تعليماته أن «نزوح الفلاحين نظّمه أعداء السلطة السوفياتية من الاشتراكيين الثوريين والعملاء البولنديين، من أجل تشويه سمعة نظام الكولخوز بشكل خاص والنظام السوفياتي بشكل عام».

في العام 2006، أعلن البرلمان الأوكراني صراحة أن «الهولودومور» هي «إبادة جماعية»، ما زاد من حدّة القطيعة مع الحكومة الروسية. وقبل ذلك وبعده، صوّتت دول البلطيق والبرلمان الأوروبي وأكثر من 33 دولة و56 ولاية ومدينة في العالم، على إدانات متنوّعة لمرتكبي «الهولودومور» وعلى تخليد ذكرى ضحاياها. واتخذ مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في دورته التاسعة، قراراً دعا فيه الدول الأعضاء إلى «تضمين برامج التعليم والبحوث معلومات عن المجاعة الأوكرانية الكبرى، بغية تلقين الأجيال القادمة العِبر المستخلصة من هذه الصفحة المأسوية من التاريخ».

وحدّدت أوكرانيا بدءاً من العام 1998، يوم السبت الرابع من شهر تشرين الثاني، يوماً وطنيّاً لإحياء ذكرى ضحايا «الهولودومور»، حيث تُنكّس الأعلام وتُشعل الشموع في النوافذ ويُردّد النشيد الوطني، لا سيّما كلماته الأولى التي تذكر أن «مجد أوكرانيا لم يمت ولا حرّيتها».

في مطار كييف، يقع الزائر على نشرة إعلامية تُرحّب به في بلد كُتب على رجاله وشبابه من سنّ مبكرة امتشاق السلاح والخروج من وقت إلى آخر وعبر التاريخ، للدفاع عن الحدود وصدّ هجمات الغزاة من كلّ صوب وحدب، القريبين منهم والبعيدين. واستبسال الأوكران الراهن أمام الغزو الروسي لبلادهم، هو الخوف من خسارتهم المعركة أمام عدوّ يتفوّق عليهم عدّةً وعديداً في حال تقلّصت المساعدات العسكرية الغربية لهم، لأنّهم على يقين بأن مصيرهم المحتوم سيكون استعادة بوتين مجدّداً لسلاح «الهولودومور» لإعادة إذاقتهم أهواله وكوارثه، وصولاً إلى وأد الشعور القومي وضمّ بلادهم إلى الإمبراطورية الروسية التي يطمح لإعادة أمجادها.

MISS 3