جان كلود سعادة

العلّة في منطق الخطط

28 شباط 2024

02 : 00

تصوير فضل عيتاني

تقوم جميع الخطط المطروحة حتى الآن لمعالجة الأزمة المصرفية ومشكلة الودائع، ومن جميع الأطراف، على منطق حسابي ومبدأ الشطب والتوزيع قبل التدقيق في الحسابات والمحاسبة وتقدير حجم الأموال المنهوبة والمهرّبة والتي يجب ويمكن استعادتها. فهي بكلام آخر مبنيّة حصراً على عمليّة توزيع ما تبقى في الدُرج بعد السرقة عوض استرجاع ما تمّت سرقته ونهبه وتهريبه قبل وبعد انكشاف الازمة. فجميع هذه الخُطط تعتمد على رسم خطّ إعتباطي ومن ثم القيام «بشطب ما هو فوقه وتذويب ما هو تحته» تحت مسمّيات مختلفة وقبل أن يتم احتساب ولو بشكل شبه نهائي لما يمكن استرداده أو ما يجب استعماله من أصول وموجودات لمعالجة أزمة حادّة ونادرة الحصول كهذه.

يبقى المطلوب والواجب تحقيقه بعد كل هذا الجنون ونثر الغبار في العيون هو إلغاء السريّة المصرفيّة بالكامل وفصل مدخرات اللبنانيين الشرعيّة عن سواها من الأموال المكدّسة والمركونة Parked في النظام المصرفي أو التي دخلت وخرجت في حسابات مصرفيّة بهدف تبييضها أو تحويلها من ليرات ناتجة عن عمليّات فساد وسمسرات ورِشى وربى فاحش وهندسات وفساد، وتبديلها بالدولارات التي أدخلها المغتربون ومن ثمّ شفطها الفاسدون والمصرفيون الى حساباتهم في الملاذات الضريبية.

الثقة الضائعة

أمّا المشكلة الأكبر في جميع هذه الخطط أنها كلها ورغم تعقيدات تنفيذها تؤدّي إلى نتيجة كارثيّة واحدة وهي فقدان الثقة بالبلد وبنظامه المصرفي إلى ما لا نهاية.

فالخلاصة النهائية التي وصلنا إليها من خلال كل هذا النقاش والنفاق والجدل حول الخطط هي أن هناك مواطنين ومغتربين شرفاء عملوا وجاهدوا لتأمين حياة كريمة وتقاعد محترم في بلد ليس لديه نظام موحّد للتقاعد ولا برنامج حماية إجتماعية فوضعوا ودائعهم في مصارف تجارية وليس في مصارف استثمار ولا في صناديق إدارة أصول. فكانت النتيجة أن هذه المصارف «خلطت» المدخرات الشرعية بأموال أخرى مشكوك في شرعيّتها وفي مصادرها من الداخل والخارج ومن ثم قامت هذه المصارف بالمقامرة ومخالفة المعايير المصرفية وبالتورط في عمليات تمويل الدولة وإيداع معظم أموال زبائنها في بونزي ضخم أداره مصرف الدولة المركزي نفسه على مدى عقود. وهنا لا يمكن لعاقل ان يصدّق أن كل الألاعيب تم إخفاؤها لعقود في «قبو مصرف لبنان» ولم يعرف بها أحد ولم يتحضّر فرسان المنظومة لساعة الصفر.

أمام هذه الصورة الفاقعة تبقى استعادة الثقة غير واردة وغير ممكنة من دون محاسبة المرتكبين وإصلاح الخلل البنيوي في النظام المصرفي الذي أتاح هذه الإرتكابات، ومن ثمّ حماية الأموال النظيفة مهما كان الثمن. ما عدا ذلك، سوف تكون الصورة النهائية التي سنخرج بها عن الأزمة أن هذا البلد لديه نظام مصرفي هو عبارة عن «فخ» تنصبه العصابة كلما سنحت لها الفرصة بهدف الإيقاع بالمودعين ومن ثم سرقتهم نهاراً جهاراً بعد ترتيب عملية الإفلات من العقاب مع السلطات السياسية والقضائية والأمنية مع إبقاء جوقة الطبّالين دائماً في الخدمة.

مع هذه الخلاصة المرّة لما حصل ولطُرُق مقاربته حتى الآن تكون النتيجة فقداناً تاماً للثقة بالبلد وقطاعه المصرفي وكامل تركيبته الإقتصادية وإلى عدّة عقود قادمة. وهنا تجدر الإشارة الى أنه ومن دون الإعتماد على جمعيات مدنيّة متخصصة ولا الحصول على ختم جامعات مرموقة، يمكننا تقدير الخسائر الناتجة عن فقدان الثقة في الخمسين سنة القادمة بنصف تريليون دولار من تحويلات المغتربين فقط، وبمثلها أو أكثر من الإستثمارات الخارجية الضائعة.

مبروك، ربحتم جائزة الفساد والسرقة، وخسرتم الثقة.

(*) خبير متقاعد في التواصل الإستراتيجي

MISS 3