ألوف بن

إسرائيل واستراتيجية التدمير الذاتي

29 شباط 2024

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

سيطرة شبان فلسطينيين على دبابة إسرائيلية بالقرب من السياج الحدودي مع إسرائيل | جنوب قطاع غزة، ٧ تشرين الأول ٢٠٢٣

كان هجوم 7 تشرين الأول أسوأ هجوم في تاريخ إسرائيل، وقد شكّل نقطة تحوّل وطنية وشخصية بالنسبة إلى جميع سكان البلد والجهات المرتبطة به. فشل الجيش الإسرائيلي في منع هجوم حركة «حماس»، فردّ عبر استعمال القوة المفرطة وقتل آلاف الفلسطينيين ودمّر أحياء كاملة في غزة. لكن فيما يتابع الطيارون إسقاط القنابل ويدهم المغاوير أنفاق «حماس»، لم تعترف الحكومة الإسرائيلية على ما يبدو بالعداء الذي سبّب ذلك الهجوم أو السياسات التي كانت لتمنع وقوعه. يستمرّ هذا الصمت بطلبٍ من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي رفض طرح أي رؤية أو نظام يناسب حقبة ما بعد الحرب. تعهّد نتنياهو «بتدمير حماس»، لكنه يكتفي باستعمال القوة العسكرية، ولا يملك أي استراتيجية للتخلص من الحركة، ولا يطرح أي خطة واضحة لاستبدالها بكيان آخر لحُكم غزة بعد الحرب.



أجبرت الصدمة المرافقة لهجوم 7 تشرين الأول الإسرائيليين مجدّداً على إدراك أهمية الصراع مع الفلسطينيين بالنسبة إلى هويتهم الوطنية والتهديد الذي يطرحه على حياتهم. لكن سيكون التعافي من تداعيات هذه الحرب وتغيير المسار الراهن هدفاً بالغ الصعوبة، ولا يقتصر السبب على عدم رغبة نتنياهو في حلّ الصراع مع الفلسطينيين. أصبحت إسرائيل منقسمة اليوم أكثر من أي مرحلة أخرى من تاريخها، ومن المتوقع أن تصبح المعركة على صمود نتنياهو السياسي أكثر احتداماً ممّا كانت عليه قبل 7 تشرين الأول، ما يُصعّب إرساء السلام في البلد.

لكن بغضّ النظر عن مصير رئيس الوزراء، من المستبعد أن تطلق إسرائيل محادثات جدّية للتوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين. انتقل الرأي العام الإسرائيلي ككل إلى تأييد المعسكر اليميني، وتزداد الولايات المتحدة انشغالاً بانتخاباتها الرئاسية الحاسمة في هذه المرحلة، ما يعني تراجع الدوافع أو الرغبة في إعادة إحياء عملية السلام في المستقبل القريب.

لا يزال هجوم 7 تشرين الأول نقطة تحوّل محورية، لكن من واجب الإسرائيليين أن يحدّدوا طبيعة هذا الحدث. تثبت كل المؤشرات حتى الآن أن الإسرائيليين سيتابعون القتال في ما بينهم ويتمسّكون بالاحتلال إلى أجل غير مُسمّى، ما قد يجعل هجوم 7 تشرين الأول بداية لحقبة قاتمة من تاريخ إسرائيل حيث تتوسّع أعمال العنف بلا رادع.

حاول نتنياهو ومناصروه أن يبعدوا اللوم عنه بعد وقوع الهجوم. من وجهة نظرهم، عمد المسؤولون الأمنيون والاستخباراتيون إلى تضليل رئيس الوزراء، فلم يبلغوه بحصول أحداث مريبة في غزة في اللحظات التي سبقت الهجوم. كتب مكتب نتنياهو على «تويتر» بعد أسابيع على وقوع الهجوم: «لم يتلقَ رئيس الوزراء نتنياهو أي تحذير في شأن نوايا «حماس» الحربية في أي ظرف من الظروف، بل إن تقييمات الأوساط الأمنية كلها، بما في ذلك رئيس الاستخبارات العسكرية ورئيس «الشاباك»، أشارت إلى ردع «حماس» وسعيها للتوصل إلى تسوية معيّنة». (عاد نتنياهو واعتذر عن هذا المنشور لاحقاً).

لكن لا يمكن أن تحمي قلة كفاءة الجيش والاستخبارات رئيس الوزراء من اللوم، ولا يقتصر السبب على مسؤولية نتنياهو عمّا يحصل في إسرائيل باعتباره رئيس الحكومة، بل إن سياسته المتهوّرة التي كانت تقضي بتقسيم الإسرائيليين قبل الحرب أمعنت في إضعاف البلد، فأصبح حلفاء إيران أكثر ميلاً إلى استهداف هذا المجتمع الممزّق. كذلك، ترسّخ التطرّف بسبب إصرار نتنياهو على إذلال الفلسطينيين. ليست صدفة أن تسمّي «حماس» عمليتها «طوفان الأقصى» وتعتبر الهجمات طريقة لحماية المسجد الأقصى من الاحتلال اليهودي. اعتُبِرت حماية ذلك الموقع الإسلامي المقدس مبرّراً لمهاجمة إسرائيل وتحمّل عواقب الرد الإسرائيلي المضاد.

لم يبرّئ الرأي العام الإسرائيلي نتنياهو من مسؤوليته بعد هجوم 7 تشرين الأول، فقد تراجعت نسبة تأييده وشعبية حزبه بدرجة كبيرة في استطلاعات الرأي، مع أن الحكومة لا تزال تملك الغالبية في البرلمان. في غضون ذلك، يُعبّر الناس عن رغبة متزايدة في تغيير الوضع في استطلاعات متنوّعة. سارع المتظاهرون المعارضون لنتنياهو إلى أداء واجبهم كعناصر عسكرية احتياطية رغم الاحتجاجات، مثلما أخذ منظّمو التظاهرات المعادية لنتنياهو عناء الاهتمام بمن تمّ إجلاؤهم من جنوب البلد وشماله. عمد عدد كبير من الإسرائيليين إلى التسلّح بالمسدسات والبنادق الهجومية أيضاً، وقد استفادوا بذلك من حملة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، لتسهيل اقتناء الأسلحة الخاصة الصغيرة. وبعد عقود من التراجع التدريجي، من المتوقع أن تزيد ميزانية الدفاع بنسبة 50 في المئة تقريباً.

قد تكون هذه التغيرات مبررة، لكنها متسرّعة ولا تدخل في خانة التحوّلات الجذرية. تتمسّك إسرائيل بالمسار الذي أطلقه نتنياهو منذ سنوات، وأصبحت هويتها اليوم أقل ليبرالية ومساواة وأكثر قومية وتطرّفاً. يهدف شعار «متّحدون من أجل النصر» في زوايا كلّ الشوارع، وعلى الحافلات العامة، وفي القنوات التلفزيونية في إسرائيل، إلى توحيد المجتمع اليهودي الإسرائيلي. في المقابل، منعت الشرطة الأقلية العربية في الدولة من تنظيم أي احتجاجات عامة، علماً أنها تدعم وقف إطلاق النار في أسرع وقت وتبادل الأسرى. في الوقت نفسه، يواجه عشرات المواطنين العرب قضايا قانونية بسبب منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي حيث عبّروا عن تضامنهم مع الفلسطينيين في غزة، حتى لو كانت تلك المنشورات لا تدعم هجوم 7 تشرين الأول. في غضون ذلك، يشعر عدد كبير من اليهود الإسرائيليين الليبراليين بأن نظراءهم الغربيين خانوهم عبر الانحياز إلى «حماس»، ما دفعهم إلى إعادة النظر بالتهديدات التي أطلقوها قبل الحرب للابتعاد عن استبداد نتنياهو الديني. كذلك، بدأت شركات العقارات الإسرائيلية تتوقع وصول موجة جديدة من المهاجرين اليهود الهاربين من تجدّد الحملات المعادية للسامية في الخارج.

وكما كان الوضع في زمن ما قبل الحرب، لا يظنّ أي إسرائيلي يهودي أن الصراع مع الفلسطينيين سينتهي بطريقة سلمية. اليوم، أصبح اليسار الإسرائيلي، الذي كان يهتم تقليدياً بإرساء السلام، شبه غائب. ويبدو أن الأحزاب الوسطية التي تَحِنّ إلى إسرائيل قبل عهد نتنياهو بدأت تتقبّل المجتمع الداعم لاستعمال القوة، وهي لا تريد أن تخسر شعبيتها عبر دعم مفاوضات تقوم على مبدأ الأرض مقابل السلام. أما معسكر اليمين، فهو يتعامل بعدائية مع الفلسطينيين اليوم أكثر من أي وقت مضى.

عمد نتنياهو إلى مساواة السلطة الفلسطينية بحركة «حماس»، وقد رفض حتى كتابة هذه السطور الاقتراحات الأميركية التي تدعو إلى جعلها تحكم غزة بعد الحرب لأنه يعرف أن هذا القرار سيعيد إحياء حلّ الدولتين. يريد أعوان رئيس الوزراء في أوساط اليمين المتطرّف إجلاء السكان من غزة ونفي الفلسطينيين إلى بلدان أخرى، فيطلقون بذلك «نكبة» ثانية تجعل الأرض مفتوحة أمام بناء مستوطنات يهودية جديدة. لتحقيق هذا الحلم، طالب بن غفير وبتسلئيل سموتريتش برفض أي نقاش حول اتفاق يعطي الفلسطينيين مسؤولية حُكم غزة بعد الحرب، وطلبا من الحكومة أن ترفض التفاوض لإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين. حتى أنهما دعما امتناع إسرائيل عن التحرك لمنع المستوطنين اليهود من إطلاق اعتداءات جديدة ضد السكان العرب في الضفة الغربية.

لكن تثبت أحداث الماضي أن وضع البلد قد لا يكون ميؤوساً منه بالكامل. تكشف التجارب التاريخية أن النزعة التقدمية قد تعود إلى الواجهة وقد يخسر المحافظون نفوذهم. بعد وقوع اعتداءات كبرى في السابق، كان الرأي العام الإسرائيلي يتّجه في البداية إلى دعم اليمينيين، لكن سرعان ما يغيّر مساره ويتقبّل التسويات المرتبطة بتقسيم الأراضي مقابل السلام. أدت حرب أكتوبر في العام 1973 إلى عقد السلام مع مصر، ومهّدت الانتفاضة الأولى التي بدأت في العام 1987 إلى إبرام اتفاق أوسلو وعقد السلام مع الأردن، ثم بدأت الانتفاضة الثانية في العام 2000 وانتهت بانسحاب أحادي الجانب من غزة.

لكن يتراجع احتمال أن يتكرر هذا الوضع. لا تتقبل إسرائيل اليوم أي جماعة فلسطينية أو زعيم فلسطيني، على عكس ما حصل مع مصر ورئيسها بعد العام 1973. كذلك، تُصِرّ «حماس» على تدمير إسرائيل وتبقى السلطة الفلسطينية ضعيفة. أصبحت إسرائيل ضعيفة أيضاً، فقد بدأت وحدتها الناشئة في زمن الحرب تتصدّع منذ الآن، ويرتفع احتمال أن تتوسع انقسامات البلد حين ينتهي القتال. يأمل معارضو نتنياهو في التواصل مع مناصريه المصابين بخيبة أمل وإجراء انتخابات مبكرة هذه السنة. في المقابل، من المتوقع أن ينشر نتنياهو المخاوف ويتابع مساره. في كانون الثاني، اقتحم أقارب الرهائن اجتماعاً برلمانياً لمطالبة الحكومة بمحاولة تحرير أفراد عائلاتهم، وهو جزء من المعركة القائمة بين الإسرائيليين حول إعطاء الأولوية لهزيمة «حماس» أو إبرام صفقة لإطلاق سراح الرهائن المتبقين. بعد 7 تشرين الأول، اقتنع معظم الإسرائيليين اليهود بأن التخلي عن أي أراضٍ إضافية سيمنح المتطرفين منصة لإطلاق هجمات أخرى.

في النهاية، قد يبدو مستقبل إسرائيل مشابهاً لتاريخها الحديث. مع أو من دون نتنياهو، ستتمحور سياسة الدولة دوماً حول «إدارة الصراع» ومقاربة «جز العشب»، ما يعني توسيع نطاق الاحتلال والمستوطنات والتهجير. قد تبدو هذه الاستراتيجية الخيار الذي يطرح أقل المخاطر المحتملة، أقلّه بالنسبة إلى الرأي العام الإسرائيلي الذي يتابع التعامل مع أهوال هجوم 7 تشرين الأول ولا يتقبّل اقتراحات السلام الجديدة. لكن لا مفرّ من أن تُمهّد هذه المقاربة لكوارث إضافية. لا يستطيع الإسرائيليون أن يتوقعوا تجدّد الاستقرار إذا تابعوا تجاهل الفلسطينيين ورفضوا طموحاتهم ومسيرتهم ووجودهم.

يجب أن يتواصل الإسرائيليون مع الفلسطينيين إذاً ويتحاوروا في ما بينهم إذا كانوا يطمحون إلى تعايش مستدام ومحترم.

MISS 3