طوال سنوات، اعتُبرت الرؤية التي تفترض شكلاً من التعايش السلمي والآمن بين دولة إسرائيلية وأخرى فلسطينية فكرة ساذجة وميؤوساً منها، أو حتّى وهماً خطراً. وبعد عقود من الجهود الديبلوماسية الفاشلة بقيادة الولايات المتحدة، افترض عدد كبير من المراقبين أنّ هذا الحلم تلاشى نهائياً. لكن تبيّن أن الفرضيّات المرتبطة بانهيار حلّ الدولتَين مبالغ فيها.
غداة هجوم حركة «حماس» على إسرائيل في 7 تشرين الأول والحرب الوحشية التي تشنّها إسرائيل ضد قطاع غزة منذ ذلك الحين، عاد حلّ الدولتين إلى الواجهة. أعاد الرئيس الأميركي جو بايدن وكبار خبراء الأمن القومي في فريقه التأكيد على اقتناعهم بأنه الحل الوحيد لإرساء سلام دائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين والدول العربية في الشرق الأوسط. لا يقتصر هذا الموقف على الولايات المتحدة، فقد تكرّرت الدعوات للعودة إلى حلّ الدولتين من جانب قادة العالم العربي، ودول الاتحاد الأوروبي، وقوى متوسطة مثل أستراليا وكندا، وحتى الصين، منافِسة واشنطن الأساسية.
كان تجدّد الدعوات إلى إقرار حلّ الدولتين مبرّراً، إذ تَقِلّ الخيارات البديلة المحتملة. يقضي حلّ «حماس» بتدمير إسرائيل، ويدعو اليمين الإسرائيلي المتطرف إلى ضمّ الضفة الغربية إلى إسرائيل، وتفكيك السلطة الفلسطينية، وترحيل الفلسطينيين إلى بلدان أخرى. كذلك، تبرز مقاربة «إدارة الصراع» التي يطبّقها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في آخر عشر سنوات، وهي تهدف إلى الحفاظ على الوضع الراهن إلى أجل غير مُسمّى، لكن استنتج العالم نتيجة هذه المقاربة المريعة. تبرز أيضاً فكرة إنشاء دولة ثنائية القومية، حيث يشكّل اليهود الأقلية، ما يؤدي إلى إنهاء مكانة إسرائيل كدولة يهودية. لن تنجح هذه الخيارات البديلة في حلّ الصراع، من دون التسبّب في كوارث كبرى على الأقل. نتيجةً لذلك، يبقى حلّ الدولتين الاقتراح الوحيد المتبقّي لحلّ الصراع سلمياً.
هكذا كان الوضع قبل هجوم 7 تشرين الأول. لكن أصبح طرح أي مسار مقنع لإقرار حلّ الدولتين مستحيلاً بسبب غياب حسّ القيادة، وانعدام الثقة بين الطرفين، وفشل الجهود الأميركية المتكرّر في تغيير هذه الوقائع بطريقة ملموسة. يشعر الإسرائيليون والفلسطينيون بالغضب والخوف اليوم أكثر من أي مرحلة أخرى منذ اندلاع الانتفاضة الثانية في تشرين الأول 2000، ويبدو الطرفان أقلّ ميلاً من أي وقت مضى إلى بلوغ الثقة المتبادلة التي تسمح بإقرار حلّ الدولتين.
مقارنةً بأحداث التسعينات، حين أطلقت الولايات المتحدة العملية التي مهّدت في النهاية لعقد اتفاق أوسلو، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وطرد جيش الرئيس العراقي صدام حسين من الكويت، يتراجع نفوذ واشنطن وصدقيتها في الشرق الأوسط اليوم بسبب احتدام المنافسة بين القوى العظمى خارجياً، وتفاقم الانقسامات السياسية محلياً، وفشل المقاربات الديبلوماسية والتدخّلات العسكرية في المنطقة طوال عقود. لكنّ الحرب في غزّة جعلت الولايات المتحدة أكثر حاجة إلى إطلاق عملية جديرة بالثقة لإبرام اتفاق إيجابي في نهاية المطاف، وهي تملك أوراق ضغط إضافية لتحويل حلّ الدولتين من مجرّد فكرة إلى واقع ملموس. لكن تتطلّب هذه العملية الكثير من الوقت والرساميل السياسية. سيضطر بايدن للاضطلاع بدور فاعل لتوجيه قرارات إسرائيل المتردّدة، والفلسطينيين غير الكفوئين، ومجتمع دولي لم يعد يتحلّى بالصبر. وبما أنه يتجه إلى طرح مقاربة تدريجية لن تُحقق السلام إلا على المدى الطويل، يجب أن يتحوّل حلّ الدولتين اليوم إلى هدف نهائي ضمن قرار يصدر عن مجلس الأمن بدعمٍ من الولايات المتحدة.
من الواضح أن بايدن يفضّل تجنّب أي مواجهة مباشرة مع نتنياهو، لكن تبدو هذه المواجهة حتمية اليوم. فيما يفكّر الرئيس الأميركي بطريقة للفت أنظار نظيره الإسرائيلي، يجب أن يتوصّل إلى مقاربة تسمح له بتغيير حسابات نتنياهو، أو استمالة الرأي العام الإسرائيلي وإقناعه بالمقاربة التي يقترحها لحقبة ما بعد الحرب.
تستطيع المملكة العربية السعودية أن تشارك في هذه الجهود. قبل 7 تشرين الأول، ظنّ بايدن أنه يوشك على تحقيق إنجاز استراتيجي عبر عقد السلام بين إسرائيل والسعودية. لكن أصبح تطبيع العلاقات مع إسرائيل مستبعداً اليوم، فقد انقلب الرأي العام في السعودية وكلّ أنحاء العالم العربي ضد إسرائيل. لا يمكن تجاوز هذا الوضع إلا عبر الإصرار على إطلاق مسار جدّي لإقرار حلّ الدولتَين.
على صعيد آخر، يجب أن يوضح بايدن الخيار الذي يواجهه الإسرائيليون: يمكنهم أن يتابعوا مسارهم ويخوضوا حرباً أبدية مع الفلسطينيين، أو يقرّروا دعم الخطة الأميركية لحقبة ما بعد الحرب. سبق ورفض نتنياهو هذه الشروط علناً، لكن صدر موقفه بعد اقتراح الصفقة في أوساطه الخاصة. يجب أن يكرّر بايدن المحاولة ويقترح الاتفاق على الرأي العام الإسرائيلي مباشرةً، فيحوّل تركيزهم عن الصدمة التي عاشوها في 7 تشرين الأول.
سيواجه بايدن مشكلة مشابهة، ولو أنها أقل احتداماً، على مستوى إقناع الفلسطينيين والقادة العرب بخطته، إذ لا شيء يدفعهم إلى الوثوق بوعده بإقامة دولة فلسطينية، وهم يعرفون أصلاً أن بايدن قد لا يبقى في البيت الأبيض بحلول العام 2025. لن يكون إقناعهم سهلاً بأي شكل. اقترح البعض أن تعترف الولايات المتحدة بالدولة الفلسطينية فوراً، ثم يتمّ التفاوض على شكل حدودها لاحقاً. لكن يجب أن تبدأ السلطة الفلسطينية، قبل الاعتراف بها، ببناء مؤسسات شفافة وقابلة للمساءلة، فتثبت بذلك أن هذه الدولة التي أصبحت قيد التطوير تستحق الثقة.
لكن يمكن إثبات الالتزام الأميركي والدولي بحل الدولتَين بطريقة أخرى. يبقى قرار مجلس الأمن رقم 242 أساس أي مفاوضات بين إسرائيل والدول العربية والفلسطينيين، وقد تمّ تمريره وتقبّله من جانب إسرائيل والبلدان العربية بعد حرب الستة أيام في العام 1967. (وافقت عليه منظمة التحرير الفلسطينية أيضاً في العام 1998 كركيزة للمفاوضات التي مهّدت لعقد اتفاق أوسلو). لكن لا يذكر هذا القرار شيئاً عن القضية الفلسطينية، باستثناء إشارة عابرة إلى ضرورة حل مسألة اللاجئين بطريقة عادلة. هو لا يتطرّق أيضاً إلى قضايا الحل النهائي الأخرى، مع أنه يشير بكل وضوح إلى «عدم جواز الاستيلاء على الأراضي عن طريق الحرب» وضرورة أن تنسحب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في حرب العام 1967.
قد تشمل نسخة مستحدثة من القرار 242 التزاماً من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بتنفيذ حلّ الدولتين بموجب القانون الدولي، ما يعني تفعيل قرار الجمعية العمومية رقم 181 الذي يدعو إلى قيام دولتَين لشعبَين بناءً على اعتراف متبادل بدولة إسرائيل اليهودية ودولة فلسطين العربية. حتى أنه قد يدعو الطرفَين إلى تجنّب أي تحركات أحادية الجانب إذا كانت تمنع تنفيذ حلّ الدولتَين، بما في ذلك بناء المستوطنات، والتحريض، والإرهاب. كذلك، قد يدعو القرار إلى إجراء مفاوضات مباشرة بين الطرفَين «في الوقت المناسب» لحل مسائل الوضع النهائي كلّها وإنهاء الصراع والمطالبات المرتبطة به. إذا اقترحت الولايات المتحدة هذا القرار، ودعمته السعودية والدول العربية الأخرى، وتم إقراره بالإجماع، فستضطر إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية للموافقة عليه، مثلما وافقوا سابقاً على القرار 242.
لا تنتهي الحروب في معظم الحالات إلا إذا استنزف الطرفان قدراتهما واقتنعا بأن التعايش مع الأعداء يبقى أفضل من بذل جهود عقيمة لتدميرهم. لا يزال الإسرائيليون والفلسطينيون بعيدين جداً عن هذه المرحلة. لكن بعد انتهاء القتال في غزة وتراجع مشاعر الغضب، قد يفكّر الطرفان بالطريقة التي تسمح لهما بتحقيق هذه النتيجة. تتعدد الأسباب التي تدعو إلى التفاؤل، فقد رفض عرب إسرائيل حتى الآن دعوة «حماس» إلى الانتفاض مثلاً، وبقيت أعمال العنف الطائفية محدودة نسبياً في المدن العربية اليهودية المختلطة منذ هجوم 7 تشرين الأول، وعبّر السياسي وعضو الكنيست منصور عباس بكل شجاعة عن دعمه التعايش.
كتب عباس في صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» في أواخر تشرين الأول: «يجب أن نتعاون جميعاً، كمواطنين عرب ويهود، للحفاظ على السلام والهدوء. سنقوّي نسيج علاقاتنا، ونعزّز مظاهر التفاهم والتسامح، ونتجاوز هذه الأزمة بطريقة سلمية». في غضون ذلك، لم يلجأ الفلسطينيون في الضفة الغربية والقدس الشرقية إلى العنف، رغم استفزازات المستوطنين المتطرّفين واعتداءاتهم. قد يشعر 150 ألف فلسطيني من الذين يعيشون في الضفة الغربية وكانوا يعملون في الأراضي الإسرائيلية قبل 7 تشرين الأول بالإهانة، لكنّهم يفضلون العودة إلى عملهم بدل أن يحارب أولادهم الجنود الإسرائيليين على حواجز التفتيش.
لا يبدو الإسرائيليون والفلسطينيون مستعدين لتقديم التنازلات المطلوبة لضمان تعايش سلمي. لكن اتضحت ضخامة التداعيات المترتبة عن رفض التسوية خلال الأشهر الأخيرة، ومن المتوقع أن تزداد وضوحاً في السنوات المقبلة. مع مرور الوقت، قد تعترف الغالبية في المجتمعَين بأن الطريقة الوحيدة لضمان مستقبل أولادهم تقضي بفصل الكيانَين، لا من باب الكراهية، بل احتراماً لكل طرف منهما. يمكن إدراك هذه الحقيقة في أسرع وقت عبر ظهور قادة مسؤولين وشجعان على طرفَي الصراع. في غضون ذلك، قد تبدأ هذه العملية بالتزام المجتمع الدولي بإقامة دولة فلسطين العربية التي تتعايش مع دولة إسرائيل اليهودية بكل سلام وأمان، وهو وعد عبّرت عنه الولايات المتحدة، ودعمته الدول العربية والمجتمع الدولي، وتزداد صدقيته بفضل الجهود الرامية إلى إرساء نظام أكثر استقراراً في غزة والضفة الغربية. في النهاية، قد تستنتج أطراف الصراع وبقية دول العالم أن مظاهر التدمير والإنكار والخداع طوال عقود لم تنسف حل الدولتَين بل زادته قوة.