جوزيف حبيب

ترانسنيستريا... "جزيرة" روسية في قلب أوروبا

1 آذار 2024

02 : 00

من خارج المبنى حيث عُقد المؤتمر الاستثنائي في تيراسبول الأربعاء (أ ف ب)

لم تعمل روسيا على وضع «مجهود ايجابي» لكسب شعوب شرق أوروبا كحلفاء حقيقيين عبر التاريخ، بل اكتفت بـ»تصريف» نفوذها وتحقيق مصالحها من خلال استخدام «البطش» بأشكال مختلفة لاخضاعهم بالقوّة، الأمر الذي دفع ثمنه الملايين بالحروب والمجاعات، ولا سيّما إبّان حقبة الاتحاد السوفياتي السوداء، إلّا أنّ لموسكو «جزراً موالية» في عمق «القارة المُتجدّدة» حيث توجد اتنيات روسية أو «قوميات» حليفة تاريخيّاً لـ»بلاد القياصرة». ومن هذه «الجزر» ترانسنيستريا، «الجمهورية» غير المُعترف بها دوليّاً و»المُنفصلة دمويّاً» عن مولدوفا عام 1992.

تتّخذ ترانسنيستريا شكلاً جغرافيّاً شبيهاً بـ«أم 44» وتمتدّ على طول نهر دنيستر لمسافة نحو 200 كيلومتر وباتساع متفاوت لا يتخطّى في حدّه الأقصى 30 كيلومتراً. وتتمتّع هذه الجمهورية ذات «الطابع السوفياتي»، بحكومة محلّية وعملة خاصة وتُصدر طوابع بريدية، لكنّها تعتمد على مساعدات موسكو التي تؤمّن حضوراً عسكريّاً مباشراً يطرح تحدّيات جيوسياسية جدّية على «الجارة الغربية» مولدوفا و»الجارة الشرقية» أوكرانيا، فضلاً عن أوروبا، خصوصاً بعدما طلبت سلطات تيراسبول «الحماية الروسية» من كيشيناو خلال مؤتمر استثنائي عُقد الأربعاء، هو الأوّل منذ عام 2006.

صحيح أنّه لا يُمكن حسم حجم «التوجّه العام» لسكّان ترانسنيستريا الذين يتكلّمون بغالبيّتهم الروسية وينقسمون إتنيّاً بين روس وأوكران، بيد أنّه بالعودة إلى محصّلة مقرّرات مؤتمر عام 2006 حين عَقَدَ «النواب الإنفصاليون» العزم على تنظيم استفتاء حول ضمّ ترانسنيستريا إلى روسيا، صوّت السكّان في ذلك الاقتراع الذي لم يعترف المجتمع الدولي بنتيجته، بنسبة 97.1 في المئة لصالح الإنضمام إلى روسيا.

يتقاطع عاملان جوهريّان سيؤدّيان دوراً أساسيّاً في تحديد مصير المنطقة، وهما رغبة الأقلية الروسية العميقة بأن تكون عضواً في جسم «الدب الروسي»، ومصلحة موسكو المباشرة باستخدام هذا «الجيب» المُحاصر بين أوكرانيا ومولدوفا، اللتين أُطلقت مفاوضات ضمّهما إلى الاتحاد الأوروبي، لتحقيق مكاسب جيوستراتيجية بعيدة المدى في أوروبا.

لم يكن مفاجئاً على الإطلاق مسارعة الخارجية الروسية بالردّ بأنّها تدرس طلب تيراسبول بعناية، مؤكّدة أن حماية سكّان ترانسنيستريا تُمثل أولوية. وما يُثير مخاوف مراقبين أنّ هذه التطورات تُعيد إلى الأذهان المرحلة التي سبقت الغزو الروسي لأوكرانيا، عندما شكّلت مطالبات انفصاليي دونباس إحدى ذرائع بوتين للإنقضاض على البلاد، لتتبعها سرديّة طويلة عن «حقوق مشروعة» بـ»أراض تاريخية» لـ»روسيا العظمى». للمفارقة، أثيرت بلبلة في مثل هذا الوقت في أواخر شباط من العام الماضي، حين اتهمت موسكو كييف بالاستعداد لغزو ترانسنيستريا، بعدما كانت كيشيناو قد أغضبت الكرملين بدعوتها إلى انسحاب القوات الروسية من المنطقة الإنفصالية.

موقع ترانسنيستريا الذي لا يرتبط بأي حدود برّية مع روسيا، شبيه من هذه الناحية بالذات بمقاطعة كالينينغراد التابعة لروسيا و»العالقة» جغرافيّاً بين «فكّي كماشة» عضوَين في حلف «الناتو»، بولندا وليتوانيا، مع فارق بالغ الأهمية أنّ لكالينينغراد منفذاً حيوياً على بحر البلطيق الذي بات بمثابة «بحر الناتو»، الأمر الذي تفتقده ترانسنيستريا الحبيسة. لكنّ هذه المنطقة الإنفصالية أثارت توجّساً لدى القيادة الأوكرانية بعد «الغزو» من احتمال استخدامها قاعدة خلفية لإطلاق هجوم روسي بهدف احتلال «لؤلؤة البحر الأسود» مدينة أوديسا، التي بقيت عصيّة على الجيش الروسي.

لـ»الأخطبوط الروسي» «جزر ديموغرافية» تُشكّل «أذرعاً» متغلغلة في قلب أوروبا، يستطيع تحريكها متى كانت مصلحته تستدعي القيام بذلك، فيما يطرح مراقبون السؤال الآتي: هل يذهب الكرملين مستقبلاً إلى حدّ إعلان «ضمّ» ترانسنيستريا إلى روسيا، كما فعل مع المناطق الأوكرانية الأربع، لوغانسك ودونيتسك وزابوريجيا وخيرسون، مع كلّ ما يترتّب على مثل هكذا خطوة من تداعيات؟ تُعتبر مولدوفا التي تتكلّم الرومانية، إحدى أفقر دول أوروبا، وهي تُعوّل على مغتربيها ونبيذها الذي غالباً ما تحظّر روسيا استيراده لمعاقبتها. تأمل كيشيناو في أن تقتصر «ترجمة» عداوة الكرملين لها على نبيذها فحسب، وإبقاء «شبح الموت» بعيداً عن بلاد الكروم الخلّابة.

MISS 3