خلال السنوات التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991، حذت الدول السوفياتية السابقة حذو برلين عبر دفن أو تشويه رموز من تاريخها لدعم قيم سياسية جديدة وإطلاق مبادرات شعبية مستهدفة.
لا تزال هذه العملية قيد التنفيذ في أماكن كثيرة، بما في ذلك أوكرانيا، حيث أعطت روسيا أهمية غير مسبوقة لهذا المشروع. لكن تجدّد التركيز على الرابط بين الفن العام والهوية الجماعية بفضل لوحة جدارية معيّنة.
في مدينة ماريوبول، التي تُعتبر من أكثر المدن تضرراً في شرق أوكرانيا، أنتجت الحرب شكلاً من المعارك الفنية في الشوارع. في العام 2018، رسمت الفنانة الأوكرانية ساشا كوربان لوحة جدارية على طرف مبنى مؤلف من 15 طابقاً لتكريم فتاة في الثالثة من عمرها اسمها ميلانا أبدوراشيتوفا بعد مقتل والدتها بهجوم صاروخي روسي حين كانت تحاول حمايتها. خسرت هذه الفتاة واحدة من ساقَيها في تلك الحادثة، لكنها تحدّت كل شيء وحضنت دبّها القماشي، ما يرمز إلى قوة تحمّل أوكرانيا وشجاعتها في وجه العدوان المفرط.
لكن بعد استيلاء روسيا على المدينة واحتلالها في العام 2022، شُطِبت رسمة كوربان الجدارية بالطباشير. لم تتّضح هوية الفاعل، لكن افترض الكثيرون أن ما حصل هو جزء من جهود روسيا الحثيثة لإعادة صياغة التاريخ لمصلحتها.
في العام 2023، ظهرت رسمة جدارية جديدة تبدو مشابهة جداً لرسمة كوربان على جدار مبنى يتألف من تسعة طوابق، ويقع في مكان آخر من المدينة، وكان قد تعرّض للقصف. تحمل هذه الرسمة توقيع الرسام الشعبي الإيطالي - الهولندي سيرو سيرولو المقيم في نابولي (يُعرَف باسمه المهني «جوريت»)، وهو يرسم فتاة صغيرة يُفترض أن تكون من إقليم دونباس. تعكس عيناها ألوان علم جمهورية دونيتسك الشعبية، أي الدولة الانفصالية غير المعترف بها في شرق أوكرانيا والخاضعة للاحتلال الروسي في الوقت الراهن. كانت تلك الفتاة محاطة بقنابل كُتِب عليها «الناتو»، مع أن القوات الروسية هي المسؤولة عن إسقاط القنابل التي دمّرت ماريوبول.
تبدو نقاط التشابه بين الرسمتَين صادمة: تظهر فتاتان بريئتان على طرف مبانٍ أثرية، وهما ضحيّتا عدوان غير مبرر أطلقه معتدون متعطشون للدماء. لكن تختلف الرسالة التي أراد «جوريت» وكوربان توجيهها. لقد تبدّلت هويات المرتكبين والضحايا.
تُعتبر قصة الجداريات المتنافسة في ماريوبول جزءاً من حكاية أوسع عن الفن العام الذي يعيد صياغة التاريخ بحسب القوى الكامنة وراءه. يبدو أن الجداريات، والآثار، وأسماء الشوارع، التي تعكس تاريخ المجتمعات وتُعبّر عن قيم خالدة، قد تصبح بالية بين ليلة وضحاها. عندما تتغير الأنظمة، من الشائع أن يُطهّر القادة (أو حتى المواطنون في بعض الحالات) المساحات العامة من الآثار الفنية التي تشير إلى ماضيهم السياسي، ما يُمهّد لظهور رموز جماعية جديدة بدلاً منها.
في عدد كبير من الدول السوفياتية السابقة، لم يكن سقوط الحُكم الشيوعي كفيلاً بالتخلص من الآثار البالية سياسياً فحسب، بل تم استبدالها أيضاً بمظاهر جديدة قد تُعتبر مثيرة للجدل بقدر ما سبقها. بدل الآثار المرتبطة بكارل ماركس ولينين مثلاً، تقبّل جزء كبير من سكان أوروبا الشرقية والدول السوفياتية السابقة المستجدات التاريخية (وحتى الخرافات أحياناً) لنشر رموز جديدة للهوية الوطنية.
في العام 1983، طرح المؤرخان البريطانيان إيريك هوبسبوم وتيرانس رانجر مصطلح «اختراع التقاليد» لوصف الرموز والطقوس التي اعتُبِرت تقاليد مقدسة وقديمة خلال القرنَين التاسع عشر والعشرين، مع أنها كانت جديدة بالكامل. يمكن تطبيق هذا المصطلح عموماً على محاولات محو الحالات التاريخية الطارئة وحملات الانفصال عن الذاكرة الجماعية واستبدالها بقصص مُختَرعة عن استمرارية الأحداث التاريخية والهوية الوطنية.
بعد انهيار الخطاب السياسي والثقافي الشائع في العام 1991، بدأت الدول السوفياتية التي اكتسبت استقلالها للتو تعود إلى الأزمنة القديمة أو العصور الوسطى لإيجاد رموز جديدة للوجود والهويات العابرة للأوطان.
في قيرغيزستان مثلاً، اختار القادة بطلاً أسطورياً كرمزهم الوطني الجديد. تم افتتاح منحوتة لشخصية «ماناس النبيل» وهو يمتطي حصاناً في العام 2011 للاحتفال بالذكرى العشرين لاستقلال البلد. يُعتبر «ماناس» وأحفاده من أبطال قصيدة ملحمية يُفترض أن تدور أحداثها في القرن التاسع: هذه الحكاية هي أطول بكثير من الإلياذة والأوديسة معاً.
وفق هذه القصة، كان «ماناس» يتمتع بقوى خارقة للطبيعة وقد نجح في جمع أربعين قبيلة من قيرغيزستان ضد أعدائهم المشتركين.
لكن لا يُعتبر «ماناس» من أصل قيرغيزستاني في نُسَخ قديمة من القصيدة، وهو لم يظهر كزعيم قيرغيزستاني إسلامي إلا في النسخة التي صدرت في العام 1925 ونشرتها قيرغيزستان السوفياتية. في حقبة السوفيات، اعتُبِرت تلك الملحمة أحياناً شكلاً من الفولكلور المحلي، بينما اعتبرها آخرون نسخة قومية وإقطاعية وبرجوازية مُحرّفة في عصور أخرى. لكن بعد استقلال قيرغيزستان في العام 1991، أُعيد تفسير النص مجدداً، فتحوّل هذه المرة إلى رمز لحب الحرية وسط شعب قيرغيزستان.
ثم طرح حاكم تركمانستان صفرمراد نيازوف، الذي حَكَم البلد حتى وفاته في العام 2006، بديلاً لافتاً عن هذا النموذج. بدل الاستعانة بالتاريخ أو الأساطير، حوّل نفسه إلى رمز شبه ديني وكليّ الوجود بالنسبة إلى الأمّة. بدت شخصيته مشابهة لنماذج قديمة، بدءاً من جوزيف ستالين في الاتحاد السوفياتي وصولاً إلى مصطفى كمال أتاتورك في تركيا. سرعان ما أصبحت صور نيازوف منتشرة في مختلف المنحوتات، والآثار، والملصقات، والعملات الورقية والمعدنية، والساعات، وحتى زجاجات الفودكا. كذلك، سُمّي مطار، ومذنّب، ومدينة، وشهر كانون الثاني، تيمناً به.
في العام 2001، بلغ تأليه الرئيس مستويات غير مسبوقة عند نشر كتاب Ruhnama (حكاية الروح)، وهو خليط من التاريخ المخترع، وذكريات نيازوف الشخصية، والتوجيهات الأخلاقية، والأفكار السياسية. سرعان ما أصبح هذا الكتاب بديلاً عن القرآن، فتحول إلى كتاب مقدّس بالنسبة إلى سكان البلد. ثم أصبح في السنوات اللاحقة ركيزة لتعليم التاريخ الوطني، واضطر موظفو الخدمة المدنية للخضوع لامتحان مرة في السنة لإثبات معرفتهم لتفاصيل الكتاب.
قد تملك الدولة أكبر عدد من الموارد التي تسمح بإعادة تفسير التاريخ أمام الرأي العام، لكنها لا تستطيع احتكار هذه العملية. تطول لائحة المبادرات الشعبية القديمة التي كانت تهدف إلى تدمير رموز الهوية الجماعية في المساحات العامة، أو تخريبها، أو نَسْبها إليها، أو إعادة تفسيرها.
وبعد الحقبة الاشتراكية في بلغاريا، تعرّض النصب التذكاري الخاص بالجيش السوفياتي في العاصمة صوفيا لتخريب متكرر من جانب رسام شعبي مجهول أصبح معروفاً باسم «بانكسي البلغاري». أُعيد تزيين الجنود والضباط السوفيات في ذلك النصب التذكاري كي يشبهوا الأبطال الأميركيين الخارقين، وفرقة الروك النسوية الروسية والمعادية لبوتين «بوسي ريوت»، وألوان العلم الأوكراني، ورموز متنوعة أخرى.
من بين الدول السوفياتية السابقة، تبيّن أن تصالح أوكرانيا مع ماضيها الشيوعي كان أكثر أهمية من أي مكان آخر. لم يتخلص أي بلد من منحوتات لينين ونُصُبه التذكارية منذ العام 1991 بقدر أوكرانيا عبر حملات تدعمها الدولة لإزالة تلك الآثار واتخاذ خطوات أخرى من هذا النوع. وعلى غرار عدد من الدول المجاورة، أقدمت كييف، في آب 1991، على تغيير اسم «ساحة ثورة أكتوبر» إلى «ميدان الاستقلال». كذلك، استُبدِلت منحوتة لينين بنصب تذكاري لإلهة البيت والموقد الأسطورية «بيرهينيا» في الدول السلافية.
بعد شباط 2014 الذي شَهِد «ثورة الميدان» التي أسقطت الرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش، منع البرلمان الأوكراني في نيسان 2015 كلّ الآثار والرموز وأسماء الشوارع التي تشير إلى الحقبة السوفياتية، باستثناء الآثار التي تستذكر الحرب العالمية الثانية.
ومنذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في العام 2022، توسّعت هذه الحملة وأصبح البلد من أبرز ساحات المعارك السياسية في التاريخ.
تثبت قصة الجداريتَين في ماريوبول أن إعادة صياغة التاريخ يمكن تنفيذها بسبب توجهات مختلفة ومتزامنة، من أعلى المراتب إلى أسفلها، ومن أسفل المراتب إلى أعلاها. يبدو أن جداريات كوربان و»جوريت» تحمل هدفاً مزدوجاً، رغم الجدل الذي تثيره: إنه تعبير عفوي من جانب الرسامين الشعبيين، لكنه يتماشى في الوقت نفسه مع القوى الحاكمة في حقبة كل فنان.
على مستوى معيّن، يمكن اعتبار «جوريت» جزءاً من تقاليد الفنانين والمفكرين في أوروبا الغربية، فقد استعمل هذا المعسكر انتقاداته المشروعة لأخطاء الرأسمالية المعاصرة لدعم أعداء خصومهم علناً. في تشرين الثاني 1949، رسم الرسام الشهير بابلو بيكاسو يداً وهي تمسك بكوب نبيذ مع العبارة الاحتفالية «نخبك، يا ستالين». وعند وفاة الزعيم السوفياتي في 5 آذار 1953، رسم لوحة أخرى تكريماً للديكتاتور الراحل عادت وظهرت على الصفحة الأولى من المجلة الفرنسية الشيوعية Les Lettres Françaises. وفي حقبة لاحقة، أراد الكاتب النمسوي بيتر هاندكه أن يدعم الرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش، عبر إضافة فصل جديد إلى قصة الفنانين والكتّاب والمفكرين الغربيين الذين اصطفوا إلى جانب الحكّام المستبدين في انتقادهم لعيوب الديموقراطيات الغربية.
لطالما ارتكزت القوة السياسية على الرموز الثقافية لتشريع الحاضر عبر إعطاء تفسير معيّن للماضي، لا سيما في زمن الصراعات أو التحولات. لا تُعتبر أوكرانيا والدول السوفياتية السابقة الأخرى استثناءً على القاعدة. في هذا السياق، أصبحت صورة الفتاة الشابة والبريئة رمزاً للحرب ضد الإمبريالية الروسية أو الحرب ضد الفاشية الأوكرانية والأميركية. يتوقف تفسيرها على وجهة نظر الفنانين والرأي العام. يعكس التفسيران محاولة لحصد الإجماع حول حاضر أوكرانيا الوحشي ومستقبلها المجهول، لكن وحده الوقت سيكون كفيلاً بتحديد القصة الأكثر ميلاً إلى الانتشار.