ليلى لاتييوفا

مستقبل روسيا الديموقراطي لن يبدأ في موسكو

7 آذار 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

شرطة مكافحة الشغب الروسيّة تُفرّق متظاهرين في منطقة باشكورتوستان | روسيا، 17 كانون الثاني ٢٠٢٣

عندما أعلنت دائرة السجون الروسية عن موت معارض الكرملين المسجون أليكسي نافالني، غرق معظم داعمي المعارضة الروسية الليبرالية في حالة من اليأس. تكلّم البعض على الخوف الذي انتابهم حين أدركوا أنهم «أصبحوا الآن في مواجهة مباشرة مع بوتين»، بينما زعم آخرون أن موت نافالني قضى على أي آمال متبقّية ببناء مستقبل ديموقراطي في روسيا. لكن لم يكن نافالني، رغم شجاعته البطولية، أمل روسيا الوحيد لإرساء الديموقراطية.

بدءاً بإسقاط الديكتاتور سلوبودان ميلوسيفيتش خلال «ثورة البلدوزر» في صربيا في العام 2000، وصولاً إلى «ثورة الكرامة» في أوكرانيا في العام 2014، ارتكزت أنجح الحركات الثورية السلمية في جوار روسيا على التعبئة الشعبية التي لا يقودها زعيم واحد بل تقوم على رؤية مشتركة لبناء مستقبل أفضل.

ثمة حركة واحدة من هذا النوع على الأقل في روسيا اليوم، وهي لا تقع في موسكو بل في باشكورتوستان ذات الغالبية التركمانية.

قد تكون الحركة الاحتجاجية القديمة والمتنوّعة والسلمية في باشكورتوستان أكبر أمل تملكه روسيا لفرض تغيير ديموقراطي في الوقت الراهن. لكن على غرار الحركات الشعبية الأخرى التي تدافع عن حقوق السكان الأصليين وتدعم إرساء الديموقراطية في روسيا، تعرّضت هذه الحركة للتهميش وسوء التفسير من جانب المراقبين الغربيين، وحتى صانعي السياسة الذين يفضّلون حتى الآن التواصل مع المعارضة الليبرالية الروسية الأساسية التي تُركّز على موسكو.

طوال أيام من شهر كانون الثاني، تحرّك آلاف الناس من سكان باشكورتوستان احتجاجاً على اعتقال الناشط فايل ألسينوف الذي يُعتبر من أقوى المدافعين عن حقوق السكان الأصليين في المنطقة ومن أبرز منتقدي سياسات الكرملين الاستعمارية والداعمة لاستخراج الموارد.

تجمّع حتى 5 آلاف شخص خارج محكمة في بلدة بايمان الجنوبية الشرقية في 15 كانون الثاني، لسماع الحُكم الذي يُفترض أن يصدر بحق ألسينوف المتّهم «بالتحريض على الكراهية بين الأعراق». تفاجأت القاضية إلينا تاغيروفا بحجم الحشود في الخارج على الأرجح، لذا أجّلت جلسة الاستماع الأخيرة إلى 17 كانون الثاني.

وفي 17 كانون الثاني، تجمّع حشد أكبر من الناس دعماً له وتحدّوا تحذيراً رسمياً من الشرطة المحلية، وحملة اعتقالات استباقية للناشطين، ودرجات الحرارة التي وصلت إلى 21 درجة مئوية تحت الصفر في جبال الأورال. حتى أن البعض بدأ رحلته في الصباح الباكر وقطع طرقات مغطاة بالثلج لساعات في جنوب شرق باشكورتوستان.

كان الكثيرون يأملون في تعليق الحُكم الصادر بحق ألسينوف، فقد حُكِم عليه بالسجن لمدة 4 سنوات في مستعمرة عقابية. وعندما رفض المحتجون مغادرة المكان بعد صدور الحُكم، استعملت شرطة مكافحة الشغب القنابل الدخانية، والغاز المسيّل للدموع، والهراوات، لتفريق الحشود. اضطرّ 40 شخصاً لتلقي رعاية طبية بعد الاشتباكات مع عناصر الشرطة. كذلك، أطلقت الاحتجاجات في بايماك ومسيرة تضامن لاحقة على نطاق أصغر في أوفا، عاصمة باشكورتوستان، موجة غير مسبوقة من الاعتقالات في مختلف المناطق، وفتحت السلطات 163 قضية إدارية و34 قضية جنائية على الأقل ضد المحتجين.

في المرحلة اللاحقة، تعرّض شخص واحد على الأقل من المعتقلين لإصابات خطرة أثناء احتجازه، وتوفي رجلان في ظروف غامضة بعد خضوعهما لتحقيق جنائي، وهما رفعت داتوف (37 عاماً) ومينيار بايغوسكاروف (65 عاماً).

سارع المحللون الروس في المعسكر الموالي للكرملين والأوساط الليبرالية المعادية لبوتين إلى وضع احتجاجات باشكورتوستان في خانة «أعمال الشغب»، وعادت إلى الواجهة فجأةً عبارات مثل «القومية العرقية» و»الحركات الانفصالية». حتى أن البعض اعتبر تلك الأحداث مشابهة لأعمال الشغب المعادية للسامية التي اجتاحت عاصمة جمهورية داغستان في شمال القوقاز في تشرين الأول الماضي.

لكن لا تدخل الاحتجاجات الأخيرة في أي من هذه الخانات. لا تُعتبر التحركات التي أطلقها اعتقال ألسينوف «قومية» بطبيعتها، بل إنها تعكس حجم الاستياء من إقدام الكرملين وأعوانه المحليين على استغلال موارد باشكورتوستان بطرق وحشية.

شهدت باشكورتوستان مرحلة تصنيع سريعة في الحقبة السوفياتية تزامناً مع اكتشاف عدد هائل من الموارد الطبيعية مثل البترول، والغاز الطبيعي، والفحم، والحجر الجيري، ونُقِلت إليها أيضاً منشآت صناعية عدة من أوكرانيا، وبيلاروسيا، وغرب روسيا، خلال الحرب العالمية الثانية.

سرعان ما أصبحت حماية البيئة وحقوق ملكية الأراضي للسكان الأصليين في واجهة المعركة من أجل الاستقلال خلال التسعينات بسبب نطاق الأضرار البيئية الناجمة عن التطوّر الصناعي العشوائي طوال عقود.

عجزت الجمهورية عن اكتساب صلاحيات واسعة تسمح لها باتخاذ قرارات مستقلة وخضعت بالكامل لسلطة الكرملين خلال ثلاثة عقود، فاستمرّت المشكلات البيئية تزامناً مع فرض قيود جديدة على استعمال اللغة البشكيرية وتطوير ثقافات السكان الأصليين. هذه العوامل زادت الدعم لحركات حماية البيئة وحقوق السكان الأصليين محلياً.

بلغت العلاقة التكافلية بين الحركتَين ذروتها خلال احتجاجات العام 2020 للدفاع عن جبل كوشتاو الغني بالحجر الجيري، وكان دور ألسينوف في هذه التحركات محورياً. يُعتبر نجاح الاحتجاجات في المرحلة اللاحقة السبب في شهرة ألسينوف وزيادة تقديره في أوساط مختلفة عن سكان باشكورتوستان العرقيين.

اضطلع ألسينوف أيضاً بدور أساسي في المعركة ضد تعدين الذهب بطرق غير قانونية في مقاطعة بايماكسكي الخلابة والغنية بالموارد في باشكورتوستان، لذا تحاول السلطات تحريض المنطقة ضده.

زعمت السلطات الموالية للكرملين في باشكورتوستان أن ألسينوف «انتهك كرامة» العمال المهاجرين من القوقاز وآسيا الوسطى حين استعمل عبارة باللغة البشكيرية لوصفهم بالأشخاص «السود» ودعا إلى طرد الأجانب من الجمهورية في خطاب ألقاه خلال احتجاجات نيسان 2023.

أنكر ألسينوف جميع التُهَم الموجّهة ضده، فقال إن خبيراً لغوياً تابعاً للحكومة «أساء ترجمة» خطابه من اللغة البشكيرية الأصلية. أوضح هذا الناشط أيضاً أنه لم يقل إن «الناس من خارج باشكورتوستان لا يحق لهم العمل أو العيش» في الجمهورية، بل كان يعني أن سكان باشكورتوستان يجب أن يحموا أراضيهم الأصلية لأنهم لا يستطيعون العيش في مكان آخر.

لا تُعتبر العبارة البشكيرية التي استعملها ألسينوف إهانة عنصرية، بل إنها جملة شائعة في عدد من اللغات التركمانية وتُستعمل للدلالة على الأشخاص العاديين.

كذلك، كانت محاولات بعض المراقبين اعتبار التجمعات في باشكورتوستان «أعمال شغب» بدل أن تكون احتجاجات سلمية سخيفة بقدر تُهَم «القومية».

بدءاً من الاحتجاجات المنادية بالسيادة وصولاً إلى المواجهة في كوشتاو ثم المسيرات المعادية لعمليات التعدين في السنة الماضية، أصرّ الناشطون في باشكورتوستان على استعمال نماذج المقاومة السلمية وأثبتوا تصميمهم على منع انتشار العنف في وجه حملات القمع المتزايدة ومحاولة السلطات تقسيم الحركة عبر تقديم التنازلات إلى المشاركين فيها.

تمسّك الناشطون في باشكورتوستان بمبدأ اللاعنف عبر الاتكال على ممارسة قائمة منذ قرون لإدارة الحُكم الذاتي عبر تجمّعات شعبية تهدف إلى حل المسائل السياسية والاجتماعية التي تحصل على مستوى أي قبيلة فردية، أو بلدة، أو حتى أمّة كاملة.

على عكس التجمعات التقليدية التي تقتصر على الرجال، يبدو تحرّكهم المعاصر أكثر تنوعاً، إذ تشارك النساء في التحركات راهناً مع أن تأثير كبار السن وقادة المجتمع المعروفين على هذه النشاطات لا يزال كبيراً.

كذلك، أثبت الناشطون في باشكورتوستان التزامهم بالتحركات السلمية خلال مسيرة في بايماك في 17 كانون الثاني. حين تسلل عملاء محرّضون وسط الناس وبدأوا يرمون كرات الثلج في اتجاه عناصر قوى الأمن، يقال إن قادة الاحتجاج والمشاركين المخضرمين دعوا المحيطين بهم إلى الابتعاد عن أي شكل من المواجهات المباشرة وقد نجحوا عموماً في الحفاظ على النظام وسط الحشد الكبير.

بعدما اتضح نجاح الحركات السلمية حول العالم وفي محيط روسيا، بدأ الكرملين يكثّف جهوده لقمع حركات المعارضة السلمية محلياً.

في باشكورتوستان، حاول فريق رئيس الجمهورية راضي خابروف، إضعاف الحركة الاحتجاجية مراراً عبر اعتبار المشاركين فيها متطرفين إسلاميين يسعون إلى زعزعة الاستقرار السياسي والانفصال عن روسيا عن طريق العنف.

سبق ولجأ الكرملين إلى تكتيك مشابه في حملته الدعائية قبل سنوات في الشيشان، حين حققت موسكو أهدافها عبر استعمال خطابات الحرب على الإرهاب ومشاعر الإسلاموفوبيا المتوسّعة بدرجة غير مسبوقة لتبرير التدخل العسكري في المنطقة وتشويه سمعة حركة الاستقلال الشيشانية.

في ما يخص باشكورتوستان، أثبتت هذه الحملة الدعائية فاعليتها، علماً أنها تزامنت مع غياب أي وسائل إعلام مستقلة محلياً أو منصات مستعدة للتعبير عن آراء الناشطين من السكان الأصليين على مستوى البلد كله.

لكن من سوء حظ المشاركين في الحركة الاحتجاجية والمتعاطفين معها حول العالم، تصبّ معظم التحليلات والتغطيات الإعلامية للاحتجاجات الداعمة لألسينوف في الفترة الأخيرة في مصلحة الأجندة التي تنشرها الحكومة. شددت هذه التقارير مثلاً على الانتماء الديني للمحتجين، وذكرت أن هذه الحركة التي كان ألسينوف جزءاً منها في الماضي اعتُبِرت «منظمة متطرفة» في العام 2020، لكنها لم تذكر في المقابل أن مؤسسة مكافحة الفساد التي أطلقها نافالني حُظِرت بعد سنة عبر استعمال العذر نفسه.

قد تكون تغطية الحركة الاحتجاجية السلمية في باشكورتوستان بطريقة سلبية وغير دقيقة من أبرز الأسباب التي تمنع صانعي السياسة الغربية من التعامل مع هذه المنطقة كشريكة قيّمة.

لكن فيما يضاعف الناشطون من السكان الأصليين جهودهم لنشر الوعي حول الأحداث التي تشهدها باشكورتوستان ودعم الناشطين وعائلاتهم، يملك الغرب فرصة فريدة من نوعها لتعديل مسار إرساء الديموقراطية في روسيا وتقديم المساعدة للحركات الإقليمية التي أصبحت بأمسّ الحاجة إلى هذا الدعم.

MISS 3