كريستينالو

ناورو... دولة جزرية لا تملك ما تخسره

12 آذار 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

جزيرة ناورو

لم يكن سام بانكمان فرايد مستعداً للموت لو ضربت كارثة كبرى كوكب الأرض. فرايد هو رجل أعمال معروف في مجال التكنولوجيا وكان مسؤولاً عن أكبر فضيحة في عالم العملات المشفرة في الولايات المتحدة.

على غرار المعسكر الذي يستعدّ مسبقاً لحالات الطوارئ الكارثية، وضع مؤسّس شركة FTX المُدان خطة لضمان صموده. وفق مذكرة تبادلها شقيقه مع المدير التنفيذي للشركة، كان بانكمان فرايد يخطّط لشراء الدولة الجزرية ناورو في المحيط الهادئ وبناء مستودع محصّن لعزل نفسه فيه إذا وقع حدث كارثي وقضى على نصف سكان العالم على الأقلّ. هو لم يهتمّ مثلاً لمكانة دولة ناورو المستقلة وغير المعروضة للبيع. لكن قد تبدو هذه الجزيرة الصغيرة وجهة اختباء غريبة بما أن مستقبلها أصبح مُهدّداً بسبب التغيّر المناخي. تقتصر مسافة هذا البلد على 8.1 أميال مربّعة، وتتراجع فيها الأراضي الخصبة والمياه العذبة. ونظراً إلى قلّة الخيارات المحلية المتاحة، يضطر سكان الجزيرة (حوالى 13 ألف نسمة) لاستيراد أكثر من 90 في المئة من المواد الغذائية التي يحتاجون إليها، وقد بلغت معدلات البدانة وسط الأولاد مستويات قد تكون من بين الأعلى في العالم.

اليوم، تقوم ناورو بواحد من أكثر الرهانات المثيرة للجدل حتى الآن: إطلاق عمليات تعدين في قاع البحر بحثاً عن كنوز معدنية لدعم العملية الانتقالية العالمية في مجال الطاقة. أثارت هذه الخطوة القلق والشكوك، نظراً إلى تاريخ الجزيرة المتقلّب. لكن تعكس التناقضات التي تشوب مسار ناورو قصة ملتوية عن الاستغلال والتنقيب من جهة، ومسيرة شائكة يُصِرّ عليها البلد لضمان صموده من جهة أخرى.

يقول كليو باسكال، خبير في شؤون منطقة المحيطَين الهندي والهادئ في مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات: «لم يكن مسار ناورو سهلاً بأي شكل، فقد تعرّض البلد للاستغلال بطرق مختلفة من جانب مجموعة كاملة من القوى الأكبر حجماً».

نالت ناورو استقلالها في العام 1968. لكن كانت ثلاث قوى قد جرّدتها من رواسب الفوسفات، حتى أن كانبيرا اقترحت في بداية الستينات إعادة توطين سكان ناورو على جزيرة أسترالية. لكن رفض سكان الجزيرة تلك الخطة واختاروا استعادة السيطرة على قطاع الفوسفات المحلي في العام 1967 ومتابعة عمليات التنقيب. ثم ساقوا كانبيرا إلى محكمة العدل الدولية بعد اتهامها بنهب مواردها. اليوم، لا يزال أكثر من 70 في المئة من مناطق البلد غير صالح للسكن بسبب عمليات تعدين الفوسفات، وفق أرقام الأمم المتحدة.

من الناحية الإيجابية، راحت الأموال تتدفّق نحو ناورو، فأصبح ناتجها المحلي الإجمالي للفرد الواحد في المرتبة الثانية عالمياً خلال مرحلة معينة، فقد بلغت عائدات الفوسفات 1.7 مليار دولار أسترالي (حوالى 1.1 مليار دولار أميركي).

لكن تزامناً مع تدفّق الأموال، استفحلت مظاهر سوء الإدارة والفساد حين أطلق المسؤولون مشاريع ضخمة. سرعان ما خسر البلد أمواله. تقول جوليا موريس من جامعة «نورث كارولاينا ويلمنغتون»: «عندما أفلست الجزيرة، لم تجد أي قطاعات اقتصادية مستدامة يمكن الاستفادة منها».

في العام 2001، عرضت أستراليا خطة إنقاذ أساسية ومثيرة للجدل على ناورو، وهي تقضي بأن تدفع كانبيرا المال للجزيرة لإبقاء طالبي اللجوء الذين يصلون إلى أستراليا بالقوارب وإنهاء معاملاتهم هناك، ما يعني تحويل الدولة الجزرية إلى مركز احتجاز تابع لأستراليا. في المقابل، يُفترض أن تتلقّى ناورو مبلغاً كبيراً من المال قد يساوي ثلثَي الناتج المحلي الإجمالي. في العام 2021 مثلاً، دفعت لها كانبيرا حوالى 40 مليون دولار أسترالي شهرياً (26 مليون دولار أميركي) لإدارة تلك المنشآت.

لكن ترافقت تلك الصفقة مع كلفة بشرية هائلة، فقد أثارت المعلومات المرتبطة بسوء الظروف في مركز الاحتجاز سخطاً عالمياً، ما دفع منظمة العفو الدولية إلى اعتبار الجزيرة «سجناً في الهواء الطلق».

تواجه أستراليا ضغوطاً عالمية هائلة، وهذا ما يدفعها اليوم إلى كبح عملياتها في ناورو مجدّداً، مع أن عدداً من طالبي اللجوء لا يزال محتجزاً في الجزيرة، وتتابع كانبيرا دفع مئات ملايين الدولارات للحفاظ على منشآتها في ناورو كخطة احتياطية لحالات الطوارئ. في غضون ذلك، استفادت ناورو من تلك الأموال ومن عائدات تأجير مياهها لصيد السمك، فدعمت بذلك اقتصادها المتأرجح فيما تتابع البحث عن خيارات أخرى.

في شهر كانون الثاني الماضي، تخلّت الجزيرة فجأةً عن روابطها القديمة مع تايوان من أجل بكين، فوجّهت ضربة ديبلوماسية موجعة لتايبيه بعد انتخاباتها الرئاسية الأخيرة وزادت عزلتها على الساحة الدولية. في عالمٍ تتعطش فيه الحكومات لنيل اعتراف دولي أكثر من الأموال النقدية أو الشحنات العسكرية، يؤكد تغيّر ولاءات ناورو على دور العلاقات الديبلوماسية التي تفوق بأهميتها موارد البلد.

يُعتبر تحوّل ولاءات ناورو أحدث تجربة ناجحة في استراتيجية الصين القديمة التي تقضي باستعمال ديبلوماسية دفتر الشيكات لكسب الأصدقاء وزيادة نفوذ البلد. في أنحاء المحيط الهادئ، تدعم 17 دولة بكين في الوقت الراهن، وهي ولاءات غالباً ما تُطوّرها الصين عبر توزيع مبالغ مالية ضخمة.

تحمل حكومة ناورو التي تفتقر إلى الأموال النقدية آمالاً كبرى في شأن هذا الفصل الجديد من علاقتها مع بكين. أعلنت الحكومة أن هذا التغيير «يُحقق أفضل مصالح البلد» ويشكّل «خطوة أولى أساسية لتطوير ناورو».

إذا سارت الخطة بالشكل المناسب، ستقرر ناورو كسب أموال طائلة في المرحلة المقبلة عبر إرسال شركات التعدين إلى أراضٍ بعيدة لم يصل إليها الكثيرون بعد: قاع البحر. يقع قاع البحر على عمق آلاف الأقدام تحت سطح المحيط، وهو يشمل كمية وافرة وغير مستغلة من العقيدات المعدنية المتنوعة أو الصخور الغنية بالمعادن، ما يسمح بدعم العملية الانتقالية في قطاع الطاقة. وبما أن الطلب على هذه المعادن سيبلغ مستويات قياسية خلال العقود المقبلة، تتوق ناورو إلى استكشاف هذا المجال في أسرع وقت.

من حق الدول أن تجري عمليات تنقيب في مياهها الخاصة، لكن يُعتبر هذا النشاط ممنوعاً في أعالي البحار، أي المياه التي تقع ما وراء المناطق الاقتصادية الخالصة للدول. يبقى التعدين على وجه التحديد ممنوعاً في المياه الدولية، إلى أن تضع الهيئة الدولية لقاع البحار اللمسات الأخيرة على قواعد هذا القطاع. إنها مهمّة شاقة لأنها تتطلب مراعاة مجموعة واسعة من الاعتبارات البيئية، والتنظيمية، والمالية.

في العام 2021، سئمت ناورو وشركة «ميتالز» الكندية من الانتظار. كانت ناورو تتوق إلى بدء عمليات التنقيب، فلجأت إلى قاعدة تنظيمية غير معروفة على نطاق واسع لإعطاء مهلة سنتَين لتحديد قواعد القطاع الناشئ من جانب الهيئة الدولية لقاع البحار. وبما أن تلك الهيئة تجاوزت المهلة النهائية في العام 2023، تستطيع الدول الآن أن تقدّم طلبات لنيل تراخيص تعدين بدل الاتكال على أي توجيهات رسمية. تُخطط شركة «ميتالز» لتقديم طلب من هذا النوع في تموز 2024.

توضح موريس: «تواجه حكومة ناورو ظروفاً مالية صعبة، لذا تحاول إيجاد قطاع اقتصادي طويل الأمد من نوع آخر. من الإيجابي ألا يستخرجوا المواد من أرضهم هذه المرة، بما يشبه تعدين الفوسفات، أو من أشخاص يتمّ احتجازهم على أرضهم مثل طالبي اللجوء».

لكن من خلال استهداف منطقة لا تزال غير مستغلة في العالم، لا مفرّ من أن يثير هذا القرار ذعر مئات العلماء الذين يحذرون الآن من أضرار لا رجعة عنها في بيئة تعجّ بمظاهر الحياة وآلاف الأجناس غير المعروفة حتى الآن. يشعر أكثر من عشرين بلداً وعدد من أبرز شركات السيارات (تتكل على المعادن لتشغيل السيارات الكهربائية) بالقلق من المخاطر البيئية المحتملة، وقد دعت هذه الأطراف إلى تعليق المشروع موَقتاً إلى حين جمع المعلومات الكافية عنه. في الوقت نفسه، يشكّك آخرون بالمنافع المالية والتقنية لعمليات التعدين وسط الظروف القاسية تحت الماء.

ستصبح عائدات بقيمة 31 مليار دولار على المحك خلال 25 سنة، لذا يصعب أن يردع أحد شركة «ميتالز». خصّصت هذه الأخيرة 100 مليون دولار على الأقل لتقييم الأثر البيئي، وهي تعتبر عمليات التعدين في عمق البحر أساسية لتنفيذ العملية الانتقالية في قطاع الطاقة وأقل ضرراً من التعدين البرّي، رغم الانتقادات اللاذعة التي تتعرّض لها. كذلك، أدّت هذه الشركة دوراً أساسياً ومثيراً للجدل في إطلاق هذا السباق، تزامناً مع التدقيق بروابطها المشبوهة مع الهيئة الدولية لقاع البحار وجزيرة ناورو.

يقول كوري ماكلاشلان، رئيس قسم أصحاب المصلحة في شركة «ميتالز»: «بالنسبة إلى بلد صغير مثل ناورو، حيث تُعتبر موازنة الحكومة السنوية صغيرة نسبياً، ستكون هذه الخطوة ثورية بمعنى الكلمة. بالإضافة إلى الرسوم الإدارية السنوية الراهنة، ستتلقى الجزيرة أيضاً مبلغاً ثابتاً مقابل كل طن من عقيدات المعادن التي تكتشفها عمليات التنقيب. كذلك، ستصل عائدات التعدين إلى صندوق المعادن في قاع البحر، وهو كيان تلتزم حكومة ناورو بإدارته بطريقة شفافة».

في أماكن أخرى من المحيط الهادئ، حيث يُهدّد التغير المناخي مصير الجزر المنخفضة، من الواضح أن حملة ناورو تثير انقسامات واسعة. تريد جزر تونغا وكوك أن تبدأ عمليات التعدين، بينما تسعى مجموعة متزايدة من الدول إلى كسب المزيد من الوقت، منها بالاو، وفيجي، وفانواتو، وجزر سليمان، وبابوا غينيا الجديدة، وساموا، وولايات ميكرونيزيا الموحدة. سأل رئيس بالاو، سورانجيل ويبس جونيور، في حزيران 2022: «كيف يعقل أن نؤيد بدء عمليات التعدين من دون أن نعرف المخاطر المطروحة؟».

يقول موتاي براذرسون، رئيس بولينيزيا الفرنسية: «لا نريد أن نكون فئران تجارب. لقد كنّا كذلك في الاختبارات النووية، ولا نريد أن نصبح الآن أداة تجارب لعمليات التعدين في عمق البحار إذا كانت هذه الخطة ستكتمل قبل أن تصبح التكنولوجيا جاهزة». لكن تشعر ناورو على ما يبدو بأنها لا تملك ما تخسره.

في النهاية، يقول بيتر جيكوب، مدير ديوان مكتب رئيس ناورو: «نحن لا نجد أي خيار قد يفيدنا على مستوى النمو الاقتصادي في المراحل المقبلة من دون عمليات التعدين في عمق البحر. قد تخطط دول أخرى لنقل السكان إلى بلدان مختلفة مثل أستراليا أو نيوزيلندا، لكن لا يملك سكان ناورو فرصة من هذا النوع. نحن سنبقى هنا».

MISS 3