فهيم تاستيكين

أردوغان... يبحث عن مغامرة جديدة في القوقاز؟

25 تموز 2020

المصدر: AL-MONITOR

02 : 00

في ظل الاشتباكات الحدودية المحتدمة بين أذربيجان وأرمينيا منذ 12 تموز، إستعملت تركيا على غير عادة لهجة قاسية للتأكيد على دعمها لأذربيجان، فكثرت التساؤلات حول نواياها الحقيقية في الصراع القديم والمعقد في جنوب القوقاز. دعا وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أرمينيا إلى "التعقّل"، وتعهد بأن تقف تركيا إلى جانب أذربيجان "بجميع الوسائل المتاحة". كذلك، حذر وزير الدفاع خلوصي آكار الأرمن من "وقوعهم في الفخ الذي نصبوه" و"لا مفر من أن يدفعوا ثمن أفعالهم"، بحسب قوله.

أوحى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من جهته بتورط يد خارجية في تجدد الاشتباكات حين أعلن في 14 تموز أن "الهجوم الأرمني المتعمد مسألة تتجاوز القدرات الأرمنية". الهدف من هذه العملية برأيه هو كبح الجهود الاستيطانية في ناغورنو كاراباخ، المقاطعة المتنازع عليها بين أذربيجان وأرمينيا، و"إنشاء مناطق صراع جديدة" في المنطقة.

روسيا هي أول قوة يشير إليها كلام أردوغان. هل تسعى موسكو إلى خلق وضع استثنائي لإعادة ترسيخ نفوذها في يريفان، خوفاً من أن تحذو أرمينيا حذو أوكرانيا في عهد رئيس الوزراء نيكول باشينيان الذي وصل إلى السلطة في العام 2018 بعد "الثورة المخملية"؟ وما هي الجهات التي لا تثق بها موسكو؟

ذكــرت أنقرة ذلك "الفخ" من دون الاستفاضة في الكلام. لكن أعلن فاتح أربكان، زعيم حزب معارض إسلامي صغير، أن أرمينيا كانت تستهدف منطقة "تافوش" التي تشمل مشاريع طاقة وسكك حديد كبرى تربط بين أذربيجان وجورجيا وتركيا، واعتبر هذا التطور "خطيراً". يمرّ خط الأنابيب بين باكو وتبليسي وجيهان وسكة الحديد بين باكو وتبليسي وكارس عبر أرض أذرية على بُعد 20 كيلومتراً تقريباً من الحدود الأرمنية. لكن قبل الالتفات إلى هذه الفكرة، يجب أن نعرف أولاً الجهة التي أطلقت الاشتباكات ونتأكد من استيلاء أرمينيا على أي أرض أذرية. تقول باكو إن الأرمن فشلوا في التحرك ولو لإنش واحد على طول الحدود، ويتبادل الطرفان الاتهامات حول من بدأ الاشتباكات.





وفق المعطيات الراهنة، ربما تشتق رسائل تركيا العدائية من الثقة بالنفس التي اكتسبتها خلال عملياتها العسكرية الأخيرة في سوريا وليبيا. صبّت هذه العمليات في مصلحة أردوغان على مستوى السياسة المحلية، لكنها لا تُقارَن بالزخم القومي الذي يمكن أن تؤجّجه المواقف التركية في القوقاز نظراً إلى تقارب تركيا وأذربيجان من الناحية العرقية وعداوة أنقرة التاريخية مع أرمينيا.

صرّح أيدين سيزر، خبير تركي في شؤون روسيا، لموقع "المونيتور" بأن أردوغان فشل في تأجيج الموجة القومية القوية التي كان يتوقعها عبر إعادة تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، وقد يجرّب حظه الآن في القوقاز. لكن لا يعني ذلك طبعاً أن تركيا ستخوض الحرب.

ثمة تفسيران آخران لفهم مواقف أنقرة الهجومية. أولاً، ربما يظن أردوغان أنه سيستفيد من أي موقف يتحدى نفوذ روسيا في القوقاز بعدما عبّر الغرب عن تقديره لتفوق تركيا على روسيا في ليبيا. لكنّ هذا النوع من الحسابات قد يواجه بعض المعضلات الجدّية. في العام 2008، تعلّمت تركيا أن المغامرات غير المدروسة في القوقاز ليست فكرة صائبة بعدما أقدمت جورجيا، غداة موقف تحريضي من حلف الناتو، على مهاجمة أوسيتيا الجنوبية قبل أن تعود وتنهزم في وجه التدخل الروسي.

يظن سيزر أن الدعم التركي لأذربيجان لن يتجاوز حدود الجهود الدبلوماسية والسياسية على الأرجح، لأن أي تدخل تركي عسكري ضد أرمينيا سيزيد عداء الولايات المتحدة قبل روسيا.

ثانياً، ربما تأمل أنقرة في الضغط على روسيا في ليبيا وسوريا. لم يحقق أردوغان أهدافه المعلنة في هذين الصراعين. في ليبيا تحديداً، يحتاج الرئيس التركي إلى تغيير قواعد اللعبة بعدما أعلن الروس بكل وضوح أنهم يعتبرون سرت والجفرة خطاً أحمر. كذلك، يبدو أن المحادثات مع روسيا لا تسير بالشكل المطلوب. يوضح سيزر: "لا أظن أن التحركات التركية ترتكز على تخطيط استراتيجي مدروس، بل إنها تهدف على الأرجح إلى فرض بعض الضغوط في القوقاز لزيادة مرونة الروس في سوريا وليبيا".

لكنّ معطيات الصراع في جنوب القوقاز، بغض النظر عن أسباب اندلاعه، قد تفتح المجال أمام روسيا لإعادة فرض سيطرتها على المنطقة. تجدر الإشارة إلى أن الصراع في العام 2008 دفع روسيا إلى الاعتراف باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا.

غالباً ما يُعتبر حزام جنوب القوقاز، الذي يشمل أذربيجان وأرمينيا وجورجيا، منطقة مشابهة لأوكرانيا، حيث يسهل إضعاف النفوذ الروسي لإفساح المجال أمام حلف الناتو. في هذا السياق، يبدو وصول تركيا إلى القوقاز إنجازاً قيّماً.

لكن في ظل هذا السيناريو، تصبح أرمينيا حلقة مفقودة. لا وجود لأي قناة تواصل تركية مع أرمينيا لأن البلدين يفتقران إلى العلاقات الدبلوماسية. كذلك، تتكل أرمينيا بقوة على روسيا، عسكرياً واقتصادياً. وإذا خرجت الأحداث عن السيطرة، قد تختار الولايات المتحدة حماية أرمينيا، لكنّ الظروف الراهنة تمنع واشنطن من الانحياز إلى طرف معيّن أو المجازفة بخوض مواجهة مع روسيا.





في العام 2009، توصلت تركيا وأرمينيا إلى اتفاق تاريخي لإقامة علاقات دبلوماسية وإعادة فتح حدودهما المشتركة، لكنه انهار في المرحلة اللاحقة في ظل تبادل الاتهامات بين الطرفين. لو صمد الاتفاق، كان سيناريو تدخّل حلف الناتو بين الثلاثي المؤثر في القوقاز ليصبح منطقياً.

يعتبر بعض المراقبين الثورة المخملية في يريفان في العام 2018 مؤشراً على احتمال أن تنفصل أرمينيا عن المحور الروسي في مرحلة معينة، لكن تستخف هذه الفرضية بقوة التدخل الروسي. أبقت روسيا أرمينيا تحت سيطرتها وحافظت على أمنها في الوقت نفسه كي يصبّ التوازن الاستراتيجي في جنوب القوقاز لمصلحتها. كذلك، حرصت روسيا على عدم تهميش أذربيجان والسماح بتوجّهها نحو المعسكر المعاكس، مع أنها رضخت للعلاقات الوثيقة بين باكو وأنقرة، فضَمِن هذا الوضع شكلاً من التوازن المطلوب.

وسط الجهود التي يبذلها حلف الناتو للتأثير على الوضع في جنوب القوقاز، سعت روسيا إلى الاحتفاظ بالقواعد السوفياتية القديمة في أرمينيا وأذربيجان، فنجحت في إطالة عقد إيجارها في قاعدة "غيومري" الأرمنية حتى العام 2044، لكنها تركت في المقابل قاعدة "غابالا" في أذربيجان في العام 2012. على مستوى المبيعات العسكرية، زوّدت روسيا البلدَين معاً بالأسلحة.

تتكل أرمينيا اليوم على الصواريخ الروسية أرض-جو "بوك –إم2"، وصواريخ "إسكندر" البالستية، والطائرات المقاتلة "ميغ-29". كما أنها وقّعت على اتفاق للحصول على 18 طائرة "سوخوي" من طراز "سو - 30 إس إم" في السنة الماضية وتعتبر الأنظمة الدفاعية الجوية الروسية "إس - 100" المنتشرة في قاعدة "غيومري" درعاً إضافياً لها. كذلك، تلتزم روسيا رسمياً بحماية أرمينيا كجزءٍ من "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" المبنية على المبدأ القائل إن أي هجوم على أحد أعضائها يُعتبر هجوماً على جميع الأعضاء.

لكن لم تتجاهل روسيا أذربيجان، بل قدمت لها ضمانات كي لا تُستعمَل أنظمة "إس - 300" ضدها، كما أنها باعت الأنظمة نفسها إلى باكو. تتابع أذربيجان شراء الأسلحة الروسية، لكنها نوّعت ترسانتها عبر شراء المعدات أيضاً من إسرائيل، بما في ذلك الصواريخ البالستية "لورا" والطائرات بلا طيار "هيرمس - 900" ونظام الرادار EL/M-2106-ATAR، فضلاً عن معدات أخرى من تركيا، منها الأنظمة المضادة للطائرات بلا طيار IHTAR والصواريخ الموجّهة "سوم-بي 1".





باختصار، تسمح الظروف القائمة لروسيا بالحفاظ على مكانة "الأخ الأكبر" في المواجهة بين أرمينيا وأذربيجان.

لم تنجح باكو مطلقاً في الانفصال عن موسكو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي رغم علاقاتها الوثيقة مع أنقرة. تحافظ النُخَب الأذرية على روابطها العميقة مع روسيا ويقول سيزر إن "اللوبي الأذري في موسكو لا يزال قوياً جداً، حتى أن اللوبي الأرمني لطالما حسد نظيره الأذري على مكانته".

في غضون ذلك، فشلت العلاقات الأذرية التركية في تطبيق الشعار الشهير "دولتان، أمة واحدة" الذي استعمله البلدان لوصف علاقتهما. تعهد أردوغان في خطابٍ له في برلمان أذربيجان في العام 2009 بألا تعود تركيا إلى تطبيع علاقاتها مع أرمينيا طالما تحتل أي أراضٍ أذرية. ساهم هذا التعهد في كسر البرود الذي طغى على العلاقات الثنائية بسبب اتفاق أنقرة مع يريفان في السنة السابقة، لكن لم تسترجع أذربيجان ثقتها الكاملة بتركيا يوماً. تعطي باكو أهمية كبرى للدعم التركي، لكنها لم تسمح لنفسها مطلقاً بتجاهل موسكو، وتتّضح هذه النزعة في علاقة البلدين الوثيقة في مجالَي الدفاع والطاقة.


MISS 3